«قام في اليوم الثالث حسب الكتب» (1كو 4:15)
7- نبوة اليوم الثالث أو الثلاثة الأيام والثلاث الليالي
[10]
اليوم الثالث واختبارات داود الملك
(1صم 5:20، 19؛ 1:30،12،13؛ 2صم 2:1)
يعطينا داود صورة رمزية جميلة للرب يسوع المسيح؛ فمولده في بيت لحم، ومكان الخضوع والاتضاع الذي شغله في البيت، ثم مسحته كمختار الله التي تشبه معمودية الرب يسوع، عندما أعلن الصوت من السماء قائلاً: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت»، ثم منازلته للعدو بعد المسحة؛ هذا كله يذكرنا بقصة الإنجيل. لقد ظل العدو يهدد ويتوعد الشعب أربعين يوماً حتى ذهب داود وقهره، وكذلك بالنسبة لربنا يسوع المسيح، فالتجربة في البرية كانت لمدة أربعين يوماً. وكما تغلب داود على العملاق بأحد أحجاره الخمسة الملساء التي أخذها من الوادي، هكذا قهر الرب يسوع العدو بواسطة اقتباس مثلث الجوانب من سفر التثنية؛ أحد أسفار موسى الخمسة. وقد شبه داود جليات بالأسد الذي أخذ شاة من قطيعه. وهذا رمز لإبليس خصمنا الذي هو «كأسد زائر يجول ملتمساً من يبتلعه هو». وتوجد أفكار كثيرة جميلة بخصوص داود في 1صموئيل 18 حيث نجد وصفاً للرجل الفقير الحكيم الذي كان مُستخفاً به، ولكنه أنقذ الشعب بمهارته، الذي كان اسمه نتيجة لذلك «موقراً جداً» (1صم 14:18،15،23،30؛ جا 15:9).
وفي تاريخ داود نجد شخصيات متنوعة انجذبت إليه وأصبحت من أصدقائه، ولا سيما أثناء فترة الانتظار التي سبقت تتويجه كملك، وكل شخصية من أولئك تبدو أنها تعطينا منظراً مختلفاً عن علاقة الخاطئ بربه.
فأولاً، لدينا قصة ولاء يوناثان لداود، فقلبه انعطف حباً إليه بسبب الخلاص الذي قد صنعه، ونفسه «تعلقت بنفس داود»، «وأحبه كنفسه»، «وسُرّ به جداً»، وخلع الجبة التي عليه وأعطاها لداود مع ثيابه وسيفه؛ السيف الثاني في المملكة (انظر 1صم 22:13)؛ وكان مسروراً جداً أن يُسلَّم العرش لداود «لكي يكون هو متقدما في كل شيء».
وفي هذه القصة؛ قصة ولاء يوناثان لداود، نجد اليوم الثالث مذكوراً مرتين (1صم 5:20،16) حيث يرتبط اليوم الثالث بالحياة والموت وبظهور الحقائق واتضاح الأمور، حيث تبرهنت حقيقة شاول الملك وتأكدت حقيقة نواياه الرديئة من جهة داود، إذ قال عنه: «لأنه الموت هو» (ع 31). وتبرهنت أيضاً حقيقة إيمان ومحبة يوناثان لداود. فإن رؤية مجد داود العتيد خلال السحب القاتمة التي كانت تكتنف ظروفه الحاضرة كانت تحتاج إلى الإيمان. كما أن الاعتراف به كان يحتاج إلى المحبة. وهذا ما فعله يوناثان نتيجة لإيمانه ومحبته العجيبة لداود.
فبحسب الظاهر، لم يكن داود أكثر من شخص مسكين خارج على القانون، وكل المواعيد الإلهية التي أُعطيت له بخصوص المملكة بدت وكأنها أُبطلت. لكن إيمان يوناثان رأى في داود الشخص الذي لا بد أن يملك يوماً ما. والذي سيقطع الرب أعداءه جميعاً ومن ضمنهم أبيه شاول (1صم 15:20). ولنلاحظ الثقة التي يتكلم بها يوناثان من جهة المستقبل وبنفس الطريقة -أي بالإيمان - يميّز مفديو الرب يسوع أمجاده المتنوعة والعجيبة. إنهم يعلمون أن مخلصهم المكروه والمرفوض الآن من العالم ورئيسه (يو 30:14) سيأتي قريباً مرة ثانية كملك المجد واضعاً أعداءه تحت قدميه، وهم ينتظرون ظهوره (تي 13:2؛ 2تي 8:4) ولهم رجاء مبارك فلا يزعجهم سلطان الشيطان المؤقت – رئيس هذا العالم (يو 31:12، 30:14، 11:16) – لأنه سوف ينتهي قريباُ جداً كما انتهى سلطان ومُلك شاول بن قيس.
كذلك ظهرت محبة يوناثان لداود عندما «قام عن المائدة بحمو غضب ولم يأكل خبزاً في اليوم الثاني من الشهر، لأنه اغتم على داود، لأن أباه قد أخزاه» (ع 34) «وكان في الصباح (أي في صباح اليوم الثالث) أن داود خرج إلى الحقل إلى ميعاد داود» (ع 35). وقال لداود «اذهب بسلام .. الرب يكون بيني وبينك وبين نسلي ونسلك إلى الأبد» (ع 42) «الرب بيني وبينك»؛ ليس باعتبار أن الرب يفرِّق بينهما، بل باعتبار أن الرب يُتحدهما ويربطهما معاً. كما ظهرت محبة يوناثان في بكائه الشديد على داود لافتراقه عنه. من أجل ذلك لم يكن غريباً أن يذكر لنا الروح القدس أنه كان يحب داود كنفسه (1صم 17:20).
وفي 1صم 30 نجد قصة الغلام المصري الذي وجدوه في الحقل، في حالة يرثى لها، بين الحياة والموت، مريضاً متروكاً من سيده القديم العماليقي بعد أن أصبح غير نافع له، ولكنه أُحضر إلى داود الذي أنعشه وأرجع إليه روحه، وأعطاه الأمان واليقين، هذا الغلام يمثل لنا الإنسان الخاطئ المسكين الذي تركه الشيطان في ضعف تام وفي موت روحي، ولذا أتى الرب يسوع المسيح - كالسامري الصالح - ليعطيه الحياة والقوة والمقدرة على خدمته. وبواسطة قيادة هذا الغلام انتصر داود على العمالقة وأرجعوا كل ما أخذه الأعداء منهم «ولم يفقد لهم شيء لا صغير ولا كبير، ولا بنون ولا بنات ولا غنيمة، ولا شيء من جميع ما أخذوا لهم، بل ردَّ داود الجميع» (ع 19)، كما أخذوا أيضاً غنيمة وافرة (ع 20).
ويرمز هذا الغلام المصري للإنسان الخاطئ غير المُخلَّص في كونه:
- كان مصرياً .. ومصر إشارة إلى العالم.
- وجدوه في الحقل .. والحقل هو العالم (مت 38:13).
- وكان عبداً .. «وكل مَنْ يعمل الخطية هو عبد للخطية» (يو 34:8).
- وكان عبداً لرجل عماليقي .. وعماليق يشير إلى الجسد يقف من وراءه الشيطان، فهو يمثل قوة الشيطان العاملة بالجسد الساكن فينا (خر 17).
وهكذا نرى أن الإنسان الخاطئ غير المُخلَّص الذي لم يولد ثانية، هو من هذا العالم، وهو عبد للخطية، ويخدم الجسد تحت سلطان الشيطان.
ولا يفوتنا ملاحظة أن زمان المقابلة بين داود والغلام المصري كان في اليوم الثالث (1صم 1:30،12،13)، وأن مكان المقابلة بين داود والغلام المصري كان في «وادي البَسور» (ع 9) ويا لروعة ما يوحي به الاسم «وادي البَسور» الذي معناه "وادي البشارة" أو "وادي الأخبار الطيبة".
وهل هناك أيها الأحباء موضوع للبشارة وللأخبار السارة الطيبة إلا موت وقيامة الرب يسوع المسيح؟ وأن «ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك» (لو 10:19)؟ إن معني كلمة "إنجيل" هو أخبار سارة (قارن رو 17:10). وكلمة الله تعرّف الإنجيل الواحد الصحيح هكذا: «وأعرفكم أيها الإخوة بالإنجيل .. أن المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب، وأنه دُفن، وأنه قام في اليوم الثالث حسب الكتب» (1كو 1:15-4).
ونرى في داود الذي، بنعمة ملوكية، صنع مع الغلام الرحمة، في اليوم الثالث، وفي "وادي البشارة"، نرى فيه صورة ورمزاً للرب يسوع المسيح المُقام من الأموات. وفي اعتراف الغلام، وفي الخبز والماء اللذين أُعطيا له، فأكل ورجعت روحه إليه، نرى صورة بديعة عن عمل الإنجيل. ويا لها من قصة تذكرنا بما جاء في مَثَل السامري الصالح (لو 10).
والآن فإن هذا الغلام كان عبداً لعماليقي، وسيده هذا كان قد تركه لأنه مرض. هذا ما لقيه من سيده العماليقي إنه تركه في مرضه، في شدة حاجته إليه لأنه لم يَعُد قادراً على خدمته. ولكن آلامه وحالته هذه رمته على عطف داود الذي أنعشه وأرجع إليه روحه. إذ وجده على وشك الموت من آثار خدمته السابقة. ولكن الغلام رغماً عن إطعام داود له وإرجاع الحياة إليه، ورغماً عن أنه رُدَّ تماماً إلى الحالة الطبيعية، إلا أنه كان غير قادر على العمل مع داود وخدمته ما لم يمتلك ضماناً كاملاً بالحياة والحرية. فعندما قال له داود: «هل تنزل بي إلى هؤلاء الغزاة؟» (ع 15) قال الغلام: «احلف لي بالله أنك لا تقتلني (أي اضمن لي الحياة) ولا تسلمني ليد سيدي (أي اضمن لي الحرية)، فأنزل بك إلى هؤلاء الغزاة» (ع 15). ويا له من شرح وافٍ لتعليم الرسول بولس في الأصحاح السادس من رسالة رومية؛ فإن المؤمن الذي شعر بمرارة خدمة الجسد، يحتاج أن يعرف أنه قد أُعتق تماماً من سلطة سيده القديم - الجسد - قبل أن يُصبح قادراً على أن يضع نفسه بثقة في خدمة المسيح. ويستحيل أن يسير إنسان في حرية وسلام القلب، حتى يعلم مصيره بعد الموت والقيامة.
ولأجل هذا نجد إنجيل نعمة الله في كماله يعطي النفس راحة ليس من جهة الماضي فقط، بل الحاضر والمستقبل أيضاً. فالرب يغفر جميع خطايانا لا بعضها، وينقذنا من قوة الخطية، كما يقول الرسول: «فإن الخطية لن تسودكم، لأنكم لستم تحت الناموس بل تحت النعمة» (رو 14:6). وهذه الحقيقة ثمينة حقاً لأولئك الذين يُهاجَمون يومياً ببذار الشر الداخلي. ولكن مع أن الخطية تسكن، فإنها لا تسود. وكيف يتم هذا العتق؟ بالموت والقيامة «لأن الذي مات قد تبرأ من الخطية» (رو 7:6). وأي طلب للخطية على المائت؟ لا مطاليب ولا سلطان لها مطلقاً لأن الله ينظر إلى المؤمن كمائت - مائت مع المسيح وقائم أيضاً معه.
ونحن قد قمنا مع المسيح على صليب الجلجثة، فليس فقط أن عقوبتنا سُددت، بل أيضاً أن قبضة الخطية الخانقة لحياتنا قد تحطمت. فنحن لم نعد أسرى الخطية العاجزين .. وموتنا مع المسيح هو وجهة واحدة من الحقيقة، والوجهة الأخرى هي أننا نحيا معه؛ متنا عن الخطية فنعيش للبر، وقد تقوّض سلطان الخطية علينا إذ نشترك في حياة قيامة المسيح هنا الآن كما سنشترك فيها مدى الأبدية «فإن كنا قد متنا مع المسيح، نؤمن أننا سنحيا أيضاً معه» (رو 8:6). فباتحادنا مع المسيح في موته، انتهى ارتباطنا بما كنا عليه بحسب الطبيعة، وبارتباطنا به بالإيمان كالمُقام من الأموات وكرأسنا الحي في السماء قد نلنا الحياة فيه، بل صار هو حياتنا، ولنا اليقين الذي أعطاه لنا بقوله: «إني أنا حيٌّ فأنت ستحيون» (يو 19:14). وصيغة المستقبل في هذا القول تُرينا استمرار الحياة التي ابتدأت الآن وتمتد إلى الأبد، استمرارها إلى حالتنا عندما تُقام أجساد الراقدين فعلاً (قارن أيضاً رو 8:6).
وفي 2صموئيل 2:1 نجد اليوم الثالث يُذكر مرة أخرى. فداود - المرفوض من إخوته - أقام في صقلغ. وهو مكان خارج حدود مُلك إسرائيل (1صم 4:27-6). وسكن داود هناك «يومين» قبل أن يتحرك في اليوم الثالث متخذاً عرشه علناً في حبرون.
وداود المرفوض يعطينا صورة للمسيح في زمان رفضه الحاضر من إسرائيل والعالم. واليوم الثالث - كما ذكرنا من قبل - يشير إلى القيامة والحياة والمجد والعز والجلال. أشير به إلى اليوم الذي قام فيه ربنا يسوع المسيح ناقضاً أوجاع الموت. كما أشير به إلى يوم نصرته ومجده، يوم يأتي بالقوة والمجد ليتخذ عرشه في إسرائيل ويحكم كالملك الشرعي على الجميع (زك 9:14؛ إش 1:32). فالشيطان، المغتصب، تصوّر أنه قد أباده في الجلجثة على الصليب، ولكنه قام من الأموات، وسيأخذ سلطانه عاجلاً ويملك كملك الملوك ورب الأرباب «لأنه يجب أن يملك حتى يضع جميع الأعداء تحت قدميه» (1كو 25:15).
وقريباً سيظهر الرب يسوع في حقيقته المجيدة للعالم الذي يجهله الآن ويجهل قدره:
ويأخذ المُلكَ الذي لهُ عَلى الجميعْ
ستراهُ الأرض في رسيه الرفيعْ
(يتبع)