عدد رقم 1 لسنة 2007
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
الإنسان المصري متدين بطبعه برهان من التاريخ والآثار  

بينما سائق الميكروباص يقود سيارته بعشوائية معهودة وتهور لافت، غير عابئ بركابه أو برفاقه على الطريق، كعادة معظم السائقين في بلادنا، فجأة أبطأ من سرعته و توقف!  لماذا؟  هل لأن هناك لافتة مرورية تحدد السرعة أو تأمره بالتوقف ويجب عليه احترامها؟  كلا بالطبع، لكنها كانت جنازة تمر في الطريق؛ إنها العادات والتقاليد والتي هي جزء من الموروث الثقافي للشعوب والذي يتشكل أغلبه من الدين. نعم إنها سطوة الدين  عليه والتي هي أقوى من القانون ومن أي شيء أخر!  وما أكثر الأمثلة!

دعنا- عزيزي القارئ - في عجالة، نستعرض معًا علاقة المصري بالدين في الأفكار التالية:-

أولاً: ملامح الشخصية المصرية

ثانيًا: الدين في الفنون

ثالثًا: الدين في السياسة

رابعًا: الدين و الحروب

أولاً: ملامح الشخصية المصرية
قال هيرودوت، المؤرخ المشهور، عن المصريين أنهم ”أشد الشعوب تديّنًا“، كما قال ديورانت: ”لقد كان الدين في مصر فوق كل شيء، ويمكن أن تراه في كل مجال و شكل من أشكال الحياة“.

لقد أحبّوا الآلهة وقدسوها، واعتبروا أن كل ما في العالم ملك لهذه الآلهة التي هي، بحسب وجهة نظرهم، نبع كل خير، وهي على علم برغباتهم الدنيوية وفي قدرتها التدخل في أحوال البشر.  وحضارة مصر القديمة خلفت ورائها المئات من الآلهة في أشكال مختلفة ما بين: الإنسان أو الحيوان أو الطير بل حتى الحشرات والزواحف.

وهذا الفكر جعل الدين يؤثِّر تأثيرًا قويًا في مجرى حياتهم، ولعل هذا يتضح  في ردّ فعلهم تجاه الغزاة المحتلين، فعندما أحتل الآشوريون مصر أهانوا الآلهة المصرية، وحاولوا فرض عبادة الإلهه ”عشتار“، واعتبروها إلهه على الشعب المصري، فرفض المصريون ذلك بشدة و استمروا يقاومون الأشوريون حتى طردوهم كلية من مصر على يد بسماتيك الأول.

وكان ذلك عكس ما فعله الاسكندر المقدوني (الأكبر) الذي عندما جاء إلى مصر محتلاً، عرف الميول الدينية التي للمصريين، فقام بارتداء ملابس الكهنة المصريين، وذهب إلى معبد الكرنك، وقدّم القرابين للآلهة المصرية؛ فاحترمه المصريون!! ورحبوا به فاتحًا لبلادهم!!  رغم أنه كان أجنبيًا غازيًا.

كما تجلّت هذه الروح الدينية في عقيدة البعث والخلود وفي التحنيط لجثث الموتى وكَمّ المومياوات المذهل الذي تكتظ به متاحف العالم، وبناء مقابر مذهلة في حجمها مثل الهرم الأكبر الذي بُني على مساحة نحو ثلاثة عشر فدان وبارتفاع يصل إلى مائه وثلاثة وأربعون مترًا!!

لقد شيدت شعوب أخرى مباني لعبادة الآلهة، ولكن لم يوجد في العالم مقابر تماثل الأهرامات المصرية، أو تلك المحفورة في الصخر في طيبة!!  فضلاً عن أنه لم تودع في مقابر الموتى في أي مكان في العالم ثروات وافره وقيّمة مثلما أودع المصريون في قبور موتاهم.

قال هنري برستيد: ”لقد كان لرسوخ العقيدة الدينية، و بالأخص تلك المتعلقة بما بعد الموت، تأثيرًا كبيرًا في نفوس المصريين منذ أقدم عصورهم؛ فكان لهم اهتمام عظيم بشئون موتاهم“.

ثانيًا: الدين في الفنون

لو أخذنا فن العمارة مثلاً، يستوقفنا سؤال: لماذا لم نعثر من ضمن ما عثرنا عليه من آثار الحضارة المصرية القديمة على عمائر ومبان للحياة العادية (الدنيوية)؟ ولماذا لم نعثر على التخطيط للأسواق أو المدن أو المنشآت العامة؟  أ لم يكن بوسع من شيّد معابد ومقابر صمدت أمام الزمن آلاف السنين، أ لم يكن بوسعه تشييد منشآت دنيوية أيضًا؟  إن هذا التساؤل المنطقي لا إجابة له سوى أن تلك المنشآت الدنيوية لم تحظَ في نظره بنفس القدر من الاهتمام الذي حظيت به المنشآت الدينية!!

ثم ماذا عن فن النقش و التصوير؟  لقد كانت المعابد والمقابر المصرية القديمة أحد المجالات الرئيسية التي تجلّى فيها التراث الفني في مجالات الرسم والنقش، فعلى جدرانها أستطاع الإنسان المصري القديم أن يمثّل ببراعة مناظرًا تكاد تكون معتادة وتقليدية، حربية أو دينية، بالنقش البارز أو الغائر.  وكالعادة حظيت الشئون الدينية بنصيب الأسد من هذا اللون من الفنون.  وذات الأمر أنطبق على فن التصوير.

أما عن فن نحت التماثيل فقد كان لعقيدة البعث و الخلود أثرها القوى على هذا الفن، فقد حاول الفنان المصري القديم أن يجعل تمثاله معبِّرًا عن هذه العقيدة، بداية من اختياره لنوع المادة التي سيصنع منها التمثال، فاختار أصلب الأحجار كالديوريت والبازلت والجرانيت (على الأخص)، حيث كانت هناك علاقة في ذهنه بين التمثال وبين حياة صاحبة في العالم الآخر، ظنًّا منه أن صلابة التمثال ضمان لتلك الحياة الأخرى.

كما حرص الفنان المصري أيضًا على تقوية هذه التماثيل بأقصى ما يمكن، فحاول التقليل من الفراغات في تمثاله كتلك التي بين الذراع و الجسم أو الساقين، وغيرها .

وأخيرًا نأخذ فن الكتابة كمثال على قوة النزعة الدينية لدى المصري القديم.  فلقد عَبَرَت اللغة المصرية القديمة بخمسة عصور تاريخية هي: اللغة في العصر القديم، ثم اللغة في العصر الوسيط، ثم اللغة في العصر الحديث، ثم مرحلة الديموطيقي،  وأخيرًا ”القبطية“.

 وعبر هذه المراحل الخمس كُتبت اللغة المصرية القديمة بخطوط أربعة، هي على الترتيب: الخط الهيروغليفي ، والخط الهيراطيقي، والخط الديموطيقي، والخط القبطي.  وليس أدل على قوة النزعة الدينية من أن الخط الهيراطيقي مثلاً كان وقفًا تقريبًا على الكهنة فقط، حيث كانوا أكثر الناس استخدامًا له.  كما أن النصوص التي عُثر عليها مكتوبة بهذا الخط هي في معظمها نصوص دينية كتبها الكهنة أيضًا.

ثالثًا: الدين في السياسة

كما كان للدين أثرة الكبير في الحياة السياسية، ودعنا في عجالة نمرّ على أثر الدين في أمرين بارزين وعلى قدر هائل من الخطورة وهما:

أولاً: أثر الدين في تألية الفرعون (عقيدة الملك الإله)

ثانيًا: أثر الدين في وراثة العرش

2- أثر الدين في تألية الفرعون

وصف أحد رجال الحاشية فرعون فقال: ”هو الذي يضاعف الخيرات، ويعرف كيف يعطي، هو الإله، بل ملك الآلهة.  ويعرف من يعرفه، ويكافئ من يخدمه، ويحيي أتباعه.  هو رع (إله الشمس) جسده الظاهر هو القرص (أي قرص الشمس) ويحيا على الأبد“.

لقد كانت الآلهة الطبيعية، مثل الشمس والقمر والنيل، بعيدة عن متناول المصري القديم بحكم أنها غير ملموسة له، فهي تختلف عن الآلهة الحيوانية القريبة إليه، الملموسة منه، فدفعة ذلك إلى البحث في علاقته بتلك الآلهة البعيدة والغير ملموسة، وبالطبع احتاج إلى وسيط يجسِّد له هذه العلاقة ويجعلها قريبة من حواسه.  وبالطبع لم يكن هناك وسيط أكثر من الملك ”سليل الآلهة“ في نظرة؛ فهو أعلى سلطة في البلاد (سواء السلطة السياسية أو السلطة الدينية)، وهكذا صار الملك هو حلقة الوصل بينة وبين تلك الآلهة.

2- الدين في وراثة العرش
ارتبط نظام وراثة العرش في مصر القديمة بجذور دينية قديمة نابعة من المعتقدات الدينية التي آمن بها المجتمع المصري آنذاك، والتي استطاع رجال الدين تدعيمها وترسيخها لتكون ماثلة بقوة أمام أعين العامة؛ وذلك عن طريق خلق أو ابتداع أسطورة الإله ”أوزير“ في صراعه على الحكم مع أخيه الإله ”ست“ الذي أنتصر على ”أوزير“ ثم صار ”حورس“ أبن ”أوزير“ لينتقم لأبيه من عمة ”ست“ إله الشر حسب الديانة المصرية.  وكما تقول الأسطورة فإن ”أوزير“ صعد إلى السماء  وترك حكم الأرض لحورس ليحكمها باسمه، إلى أن صعد هو أيضًا إلى السماء وأصبح وريث حورس على الأرض هو الملك الجالس على العرش؛ فأصبح هناك حكم السماء بقيادة الإله ”حورس“ ، وحكم الأرض بقيادة الملك؛ الممثِّل الشرعي لحورس على الأرض.  وهكذا فقد أضفت الأسطورة الشرعية على حكم البلاد وارثًا لعرش أبيه.

رابعًا: الدين كمبرر للحروب

دائمًا ما ارتبطت النقوش المصوَّرة على المعابد بالتوجّه السياسي للملوك.  فلقد كان للمعبد تأثيرًا بالغًا على الروح الحربية، حتى أن النصوص تعكس هذه الروح.  ما من حملة حربية إلا و قامت بأمر إله، أو قدّمت له الأسرى كغنائم، أو سجّلت أحداثها على جدران المعابد؛ وهدا الأمر واضح من فجر التاريخ.  فقد خاض ملك طيبة على سبيل المثال حرب التحرير ضد الهكسوس الغزاة تحت لواء الإله ”آمون“ وبإرادته، وعندما تحقّق التحرير، وبدأ عهد الدولة المصرية الحديثة، كان التوجه السياسي للملك هو أن يزيد من الفتوحات بإذن من الإله آمون حتى تتسع أملاكه.  ويذكر تحتمس أن الهدف من حملته الأولى على أسيا هو أن يحدّ الحدود المصرية بأمر من والده آمون.  وكذلك في حملة ”أمنحتب الثاني“ على أسيا قيل ”ظهر له الإله آمون في حلم ووعده بالنصر“.

كما أن المناظر والنقوش أظهرت أن القوات المحاربة كانت تقسَّم إلى جيوش يحمل كل منها اسم واحد من ”الآلهة الكبرى“.  والأعلام التي تتقدّم هذه الجيوش كانت تمثِّل صورة رمزية للإله الذي يصحب ابنه الملك وكثيرًا ما نرى على نقوش المعابد الإله ”آمون“ وهو يقدِّم سيفًا للفرعون إيذانًا منه  للبدء في التوسعات الإقليمية، وحتى يعود منتصرًا .

عزيزي القارئ :

هذه حقيقتنا كمصريين، والسؤال الهام الان هو: هل علاقتنا بكنائسنا وبمسيحيتنا وأنشطتنا الدينية المختلفة ناتجة من علاقة حقيقية مع الله؟ أم أنها نتيجة الطبيعة الدينية التي تميزنا كمصريين؟

  هذا المقال هو خلاصة مختصرة لبحث رائع قام مشكورًا بعمله خصيصا للمجلة الأخ الحبيب جمال رياض بناء على طلب المحرر.  ونعد بتقديم البحث كاملاً في عدد خاص سيضم جميع الأبحاث التي ستعمل للمجلة في المستقبل.
  إنها بقايا الديانة المصرية القديمة والتي كانت تقدِّس الموت والطقوس الجنائزية بشكل لم يحدث في أي ديانة أخرى. والعجيب هو أن هذه الديانة لم تزل قابعة في كيان المصريين مهما مرت عليهم العصور، ومهما تعاقبت عليها الثقافات. فمنذ أيام يوسف وإلى الأن يقال: «هذه مناحة ثقيلة للمصريين» (تك50: 11)، ولم تزل حتى الأن. وليس دليل على ذلك أقوى من اختلاف المصريين إلى اليوم في طقوسهم الجنائزية وتعبيرهم عن حزنهم عن بقية البلاد العربية، كالسعودية مثلاً وهي منبع الثقافة العربية!!  هذا على الرغم من سيطرة هذه الثقافة على المصريين لأكثر من ثلاثة عشر قرنا. كما أنك كلما توغلت في الصعيد تجد الطقوس الجنائزية أثقل، وهذا يرجع لقوة الأثر الفرعوني في الصعيد عنه في الوجه البحري. إذًا ها هي الديانة المصرية القديمة لم تزل قادرة على أن تفرض على سلوك المصري ما لم يفرضه عليه احترام القانون!  إنها سطوة الدين عليه حتى ولو كان الدين القديم!  وهذا إن كان ينمّ عن شيء فهو لا ينمّ عن قوة الدين بقدر ما ينم عن عمق تدين المتدين، ومن هذا نستنتج أن الإنسان المصري بصفة عامة يميل بشدة للتدين، بغضّ النظر عن نوع الدين حتى ولو كانت الديانة وثنية، وأنه يعطي للدين كل اهتمامه ووقته وماله بل وحياته من قديم الزمن ليس لأن الدين حقيقي أو غير حقيقي بل لطبع عنده.

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com