لا يخفى على أي مراقب لسلوكيات البشر في الآونة الأخيرة، أن الاهتمام بالروحانيات بصفة عامة، وبالدين بصفة خاصة، قد زاد بشكل ملحوظ، ولا سيما في العِقدين الأخيرين من القرن العشرين، ولم يزل هذا الازدياد مستمرًا حتى الآن. ومع كونه يعمّ العالم كله بمختلف اتجاهاته الدينية والفكرية، إلا أنه زائد بشكل لافت للنظر هنا في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك في الولايات المتحدة الأمريكية. ونظرة سريعة على الشارع المصري، لا تترك لي فرصة للتردد في القول بأن التدين في بلادنا قد صار هو شغل الناس الشاغل، بل وأصبح يسيطر على كل مجالات حياتهم ابتداءً من تحيتهم وحتى التضحية بحياتهم!! فبمجرد ما تطأ قدماي الشارع، تسمع أذناي وترى عيناي آثار التدين الشديد في ملبس الناس ولغتهم، في مظهرهم وأفكارهم، في أنشطتهم وأوجه إنفاقهم. وإذا ركبت تاكسي أجد السائق يستمع لشيء ديني ومظهره وردوده توحي بالتديّن الشديد. وعندما أسمع رغمًا عني أحاديث الراكبين معي في القطار، أو حتى رنات تليفوناتهم المحمولة (!) أجد بصمة الدين عميقة. عندما أرى وأسمع كل هذا، تقفز على الفور إلى ذهني تلك العبارات التي تردِّدها مختلف المصادر الثقافية في هذه الأيام، مثل: المَدّ الديني، الصحوة الدينية، العودة إلى الدين، وغيرها.
وعلى صعيد المستوى العالمي، تؤكد الإحصائيات زيادة عدد المتدينين، وزيادة تعمق المتدينين في ديانتهم، أي أنها تؤكد أن هناك نموًا كمّيا وأيضا نوعيًا للدين. فالأبحاث السوسيولوجية واستطلاعات الرأي المستمرة في أمريكا تؤكد هذا النمو، ولا سيما بعد أحداث 11 سبتمبر. أحدها أُجري في الصيف الماضي، صيف 2006، أظهر نقصًا شديدًا في عدد الذين يعتنقون نظرية التطور، وزيادة كبرى في عدد الذين يؤمنون بالخلق! وفي تقرير خاص عن الصلاة لمجلة U.S.News وفي عددها الصادر في 20 ديسمبر 2004 ذكر أن نصف سكان الولايات المتحدة الأمريكية يمارسون الصلاة أو التأمل يوميًا! كذلك ذكر أحد استطلاعات الرأي التي نشرتها النيوزويك في عام 96 أن اهتمام الناس على مستوى العالم بالأمور الروحانية زاد بشدة، حتى أن مبيعات الكتب التي تتكلم عن التأمل والصلاة والروحانيات زاد عن مبيعات كتب الجنس وكتب بناء الذات!! وهنا في مصر تستأثر المطبوعات الدينية وحدها بما يقرب من 30 % من مبيعات معرض القاهرة الدولي للكتاب كل عام!!!
بل حتى الصين أيضًا قد وصلها هذا المد الديني، فبعد عقود من القهر الديني على يد الثورة الثقافية التي قادها ماو تسي تونج في النصف الثاني من القرن العشرين، جاءت الإنفراجة في السنوات القليلة الماضية بشكل مذهل. فقد أوضح استطلاع للرأي أجرته جامعة شنغهاي، ونشرته جريدة الأهرام في فبراير 2007، أن عدد المتدينين من جميع الديانات الموجودة في الصين قد زاد بشدة حتى أنه صار أكبر بثلاثة أضعاف من التقديرات الرسمية!!
والمراقب للنشاط الديني المسيحي في مصر، لا بد أنه سيلحظ أن هناك أيضًا صحوة دينية مسيحية في ذات الفترة، تشمل الأوساط التقليدية وأيضًا البروتستانتية. تعبِّر عن نفسها في الكنيسة التقليدية بالإكثار من ممارسة الأشكال المعتادة للتدين هناك، بالإضافة إلى استحداث أشكال جديدة لم تمارسها الكنيسة التقليدية من قبل. فعلى سبيل المثال، كان عدد القُدّاسات لا يزيد عن اثنين في الأسبوع حتى السبعينيات، بينما حاليًا يُقام قداس كل يوم، وأحيانا أكثر من قداس في اليوم الواحد. كذلك تم استحداث نشاط المؤتمرات والاجتماعات النوعية؛ كاجتماع الأسرة والأسر الجامعية وغيرها. كذلك الإكثار من زيارات الأديرة بشكل أصبح شبه يومي باستثناء أيام الصوم الكبير. أما الأوساط البروتستانتية، وهي التي تشغلنا أكثر، فقد تأثرت بشدة بالنهضة الدينية الأمريكية الحادثة في نفس الفترة الزمنية واكتسبت ملامحها إلى حد كبير. وهي المتمثلة في حركات الشفاء والإيمان وإنجيل الصحة والرفاهية والضحك وغيرها.
وإزاء كل هذا، ولكوننا أيضًا لا نكفّ عن أن نصلي ونترجى من الرب كل يوم عملاً إلهيًا حقيقيًا به تخلص النفوس، وبه يزداد تكريس المؤمنين للرب، نجد بعض الأسئلة تطرح نفسها بشدة علينا، وتلزمنا بأن نجد إجابة لها مثل:-
- هل من علاقة بين هذه النهضة الدينية المسيحية، ولا سيما الحادثة في بلادنا، وبين هذه الصحوة الروحانية والدينية التي تجتاح العالم بمختلف اتجاهاته ودياناته؟
- هل هذا الحماس الديني الذي نراه في أوساطنا المسيحية، هو عمل إلهي حقيقي بفعل الروح القدس في النفوس وبالتالي نفرح له؟ أم أنه مجرد جزء من هذه الصحوة الدينية التي تجتاح العالم الآن بكل أديانه؟
- هل امتلاء الكنائس بالحاضرين، وهل مئات المؤتمرات التي تُعقد كل عام، وهل وجود اجتماعات يحضرها عشرات الألاف وأحيانًا مئات الألاف كما نرى من خلال الفضائيات، هو شيء حقيقي؟ أم هو جزء من هذا المد الديني الذي يجتاح العالم؟
- هل انتشار ميديا الطرب والفن الديني من أغاني وكليبات ومسرحيات وأفلام ومسلسلات مسيحية بشكل يفوق التوقعات، لدرجة أنه أصبح بيزنس يدر ارباحًا خيالية لكثيرين، شيء يُسعِد أم أنه أحد توابع هذا المد الديني؟
- هل وجود رجال ونساء في مجال الوعظ يمكن أن يطلق عليهم ”ستارز“، وبالتالي وجود ”سوبر ستارز“، يجري وراءهم المسيحيون في كل مكان هو ظاهرة صحية أم لا؟
هذه الأسئلة، أعزائي الشباب، استوقفتني وأنا أراقب وأحلّل، بإخلاص، ما يحدث حولي. وأود هنا أن أشارككم بوجهة نظري من جهة مدى مصداقية هذه الصحوة على الجانب المسيحي، وأيضًا من جهة العوامل التي أدّت إلى ظهورها. لعلها تحمل لكم فائدة.
والدافع الذي يدفعني لهذا التحليل، ليس هو مجرد طبع شخصي يحكمني في تعاملي مع أي أمر يواجهني، لكنه بالأكثر طاعة لتعليم الكتاب الذي أمرنا بأن نمتحن كل شيء (1تس5: 21)، وبألا نصدق كل روح بل علينا أن نمتحن الأرواح (1يو4: 1). كما تدفعني إليه حقيقة ساطعة على صفحات التاريخ المقدس، ألا وهي أنه لم يأتِ وقت على شعب الله لم يختلط فيه الثمين مع المرذول (أر15: 19) والتبن مع الحنطة (أر23: 29) والحقيقي مع الزائف (مت13: 47). ولست أبغي من وراء هذا التحليل، والله شاهد لي، سوى استجلاء الحقيقة التي تجعلنا نعرف أين نحن فنصحِّح اتجاهاتنا نحو نهضة حقيقية بعمل روح الله فعلاً وحقًا.
أولاً: مصداقية الصحوة
الصحوة الدينية والصحوة الأخلاقية
إن أول ما يلفت نظري في هذه النهضة أو الصحوة الدينية المسيحية الحالية، هو أنه لم يصحبها، بذات القدر، نهضة أخلاقية في حياة المتدينين!!
بينما أول ما نتعلمه من الكتاب المقدس عن الخلاص الذي يقدِّمه الإنجيل، هو أنه ليس فقط خلاصًا قضائيًا من دينونة الله بدم المسيح يضمن لصاحبه وصولاً للسماء، لكنه أيضًا خلاص أدبي وأخلاقي بغُسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس، يضمن لصاحبه سلوكًا تَقَويًا مؤثرًا ونافعًا للآخرين هنا على الأرض. وبالتالي إذا كانت هناك نهضة مسيحية حقيقية فهي في المقام الأول نهضة أخلاقية. انظر على سبيل المثال ما يقوله الرسول بولس في رسالته لتيطس عن الكريتيين، مع ملاحظة الموروث الأخلاقي البشع لهؤلاء الكريتين كما يذكره في تيطس 1: 12 والذي يتلخص في أنهم: دائمًا كذّابون!! ووحوش ردية!! وبطون بطالة!! ومع هذا يقول له عنهم «ذَكِّرْهُمْ أَنْ يَخْضَعُوا لِلرِّيَاسَاتِ وَالسَّلاَطِينِ وَيُطِيعُوا، وَيَكُونُوا مُسْتَعِدِّينَ لِكُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ، وَلاَ يَطْعَنُوا فِي أَحَدٍ، وَيَكُونُوا غَيْرَ مُخَاصِمِينَ، حُلَمَاءَ، مُظْهِرِينَ كُلَّ وَدَاعَةٍ لِجَمِيعِ النَّاسِ» (تي3: 1،2).
أليست هذه المطالب السبعة كلها مطاليب أخلاقية تحتِّم أخلاقًا راقية للغاية؟
ولئلا يظن تيطس أن هذا المستوى الأخلاقي أكبر من طاقة الكريتين لسبب طبيعتهم كشعب، ولكونهم راجعين حديثًا إلى الرب، يضيف بولس ما يؤكِّد أن هذا التغيير الأخلاقي هو الحدث العام والمبدئي والمحتَّم حدوثه في حياة جميع الراجعين إلى الرب، والذي لا يتوقف على خلفية الشخص أو عمره الروحي، بل على قدرة الله وعظمة خلاصه! فيقول له: «لأَنَّنَا كُنَّا نَحْنُ أَيْضًا قَبْلاً أَغْبِيَاءَ، غَيْرَ طَائِعِينَ، ضَالِّينَ، مُسْتَعْبَدِينَ لِشَهَوَاتٍ وَلَذَّاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، عَائِشِينَ فِي الْخُبْثِ وَالْحَسَدِ، مَمْقُوتِينَ، مُبْغِضِينَ بَعْضُنَا بَعْضًا. وَلَكِنْ حِينَ ظَهَرَ لُطْفُ مُخَلِّصِنَا اللهِ وَإِحْسَانُهُ - لاَ بِأَعْمَالٍ فِي بِرٍّ عَمِلْنَاهَا نَحْنُ، بَلْ بِمُقْتَضَى رَحْمَتِهِ - خَلَّصَنَا بِغَسْلِ الْمِيلاَدِ الثَّانِي وَتَجْدِيدِ الرُّوحِ الْقُدُسِ».
إذًا هو يذكر أخلاقيات إيجابية سبعة يتحتّم توفرها فينا، ثم يذكر أخلاقيات سلبية سبعة من المحتّم أن نكون قد تخلّصنا منها، ثم يعزي هذه وتلك لمجرد الحصول على الخلاص.
ثم يطلب الرسول من تيطس أن يقرِّر هذه الأمور، بمعنى أن يؤكّدها ويحتّمها. إلا أن ما يثير إعجابي هو الغرض من وراء هذا التأكيد، ألا وهو أن يرى تأثيرها على المؤمنين في مجال العمل الزمني وليس في مجال العبادة أو الخدمة!!! فيقول: «صَادِقَةٌ هِيَ الْكَلِمَةُ. وَأُرِيدُ أَنْ تُقَرِّرَ هَذِهِ الأُمُورَ، لِكَيْ يَهْتَمَّ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ أَنْ يُمَارِسُوا أَعْمَالاً حَسَنَةً. فَإِنَّ هَذِهِ الأُمُورَ هِيَ الْحَسَنَةُ وَالنَّافِعَةُ لِلنَّاسِ».
وإذا أردت أن أكون أكثر تحديدًا لما أقصده بصحوة أو نهضة أخلاقية، كان ينبغي أن تصحب ذلك النشاط الديني الكبير في هذه الأيام، فأنني لا أجد أفضل من تلك الثلاثية الرائعة في تيطس 2: 12 والتي يعتبرها الرسول بولس الدرس الأخلاقي المبدئي الذي تُعلّمه النعمة المخلِّصة للذين خلّصتهم ألا وهو:-
- التعقل في التعامل مع النفس،
- والبر في التعامل مع الناس،
- والتقوى في التعامل مع الله.
ولا أعتقد أنني أبالغ أو أتجنّى إذا قلت أن مدة قصيرة من التعامل مع، لا أقول الأشخاص العاديين من المتدينين في هذه الأيام، بل مع قادة ورواد أحيانًا؛ تكفي لكي تكتشف بسرعة غياب التعقل في التعامل مع النفس، أي غياب التعفّف، ولا سيما في مجالي المال والتعامل مع الجنس الآخر. كذلك غياب البِرّ في التعامل مع الآخرين، بمعنى الاستقامة، ولا سيما في مجالي الصدق في الكلام، واحترام حقوق الآخرين، بل على العكس نري تعدّيًا سافرًا على حقوق الآخرين وربما دهسًا لها، واستغلالاً واضحًا لأصحابها! أما في مجال التقوى أي مخافة الله في السر، وخشوع القلب الحقيقي الذي يطبع ويصبغ سلوكيات الإنسان بأرقى الأخلاقيات، فالأمر محزن للغاية إذ نرى كل مظاهر التقوى مع انعدام كامل لقوتها.
ويكفي، لكي أبرهن على الغياب النسبي لهذه المبادئ الثلاثة، أن أدعو القارئ العزيز لإلقاء نظرة سريعة على مجالين هامين للغاية من مجالات ظهور الأخلاق الحقيقية للإنسان، ألا وهما العمل والعائلة. هذا، لأنه لا يمكنك أن ترى أخلاق الإنسان الحقيقية في الكنيسة أو في مؤتمر، في العبادة والتسبيح أو في الخدمة. فالجوهر الأخلاقي الحقيقي للإنسان لا ظهر كما يظهر في العمل وفي العائلة. إلا أن الواقع في هذين المجالين، كما أراه من خلال تجوالي في الخدمة في كل الطوائف المسيحية، بالإضافة إلى استماعي لمئات المشاكل من أو عن أناس هم في قمة الحماس الديني، هو واقع مؤلم للغاية!!
* العمل الزمني
فعلى صعيد مجال العمل الزمني، كثيرون من أصحاب الأعمال، الذين يعمل لديهم شبان وشبات من هؤلاء المتدينين، يشتكون مرّ الشكوى من عدم الأمانة في العمل، والتي وصلت في بعض الحالات إلى التزوير في الأوراق، بل والاختلاس للأموال! بينما هم في غاية النشاط والنشوة الدينية في العبادة والخدمة!!! والعجيب أن هذا التزوير والاختلاس يحدث حتى من بعض العاملين في هيئات مسيحية تقوم بالخدمة!! كما أن أكثر من مدير مؤمن ذكر لي أنه لا يرغب في تعيين مؤمنين تحت رئاسته، ولا سيما من المتحمسين والذين لهم نشاط وخدمة لأنهم غير ملتزمين، وغير جادين في تحمل المسؤولية. أحدهم وهو مدير في إحدى كبريات الشركات المصرية، والتي يتطلع المتفوقون في مصر للعمل فيها، ذكر في ندوة كنت أديرها، وكانت عن ”الخريج الشاب والفكر المسيحي الصحيح تجاه العمل“، أنه حزين ومحبط لأن كثيرين من المؤمنين الذين يقبلهم للعمل، ترفضهم الشركة بعد فترة التدريب إذ يثبت عدم جديتهم وعدم التزامهم بل وعدم أمانتهم في التدريب!! وعندما طلبت منه هذا مكتوبًا وبأرقام وقدّمها لي صُدمت وحزنت حزنا عميقًا.
* العائلة
وإذا ذهبنا لمجال العائلة سنجد أن الواقع اليوم بين المتحمسين أكثر إيلامًا، ولا أتكلم عن المتحمسين العاديين، بل عن قادة لهذا الزخم الديني تشتكي منهم زوجاتهم مُرّ الشكوى، أو يشتكي منهن أزواجهن بكسرة قلب! ولا أتكلم هنا عن شكوى من المشاكل العادية، بل من أمور تصل لحد الخيانة الأخلاقية!!! نعم أقولها بكل ألم: الخيانة بإقامة علاقات عاطفية خارج الزواج بينما فرص الصلاة في البيوت والارتباط بفرق الخدمة هنا وهناك يتم بكل نشاط وفي ذات الوقت!!! ولديَّ الكثير من القصص الواقعية، والتي تأكدت من صحتها، فيها الكثير من الخزي والعار، وكان أبطالها هم المدعوين قادة وخدام. بل وما قولك في انتشار الطلاق بين هؤلاء المتحمسين؟ حتى أنه في اجتماع واحد للخريجين في إحدى الكنائس هناك ثماني حالات طلاق بين مؤمنين!!! وهناك كثيرون لا يصلون إلى الطلاق؛ حرصًا على نظرة المجتمع ولاستمرار تواجدهم على المنابر، لكن البيت من الداخل منهدم!! والسبب هو عدم الأمانة لذلك العهد الذي قطعوه أمام الله في يوم الزفاف. وما نكث العهد هذا سوى جزءًا من عدم الأمانة بصفة عامة لأي عهد، وغياب روح الإلتزام المكلِّف، وتسرب روح العالم حيث الناس بلا عهد (رو1: 31)!
والأدهى هو شكوى الأولاد ولا سيما المراهقون منهم، من آباء وأمهات يقفون على المنابر يقودون ويشعلون الحماس الديني للمئات أو الآلاف، بينما هم في البيوت أناس مختلفون تمامًا حتى من جهة أبسط مبادئ الأخلاق!!! بل إنني سمعت شكاوى مؤلمة من آباء وأمهات تقدّمت بهم الأيام عن تجاهل وإهمال أولادهم لهم، كاسرين أول وصية بوعد «أكرم أباك وأمك»، بينما هؤلاء الأولاد هم قادة في كنائسهم وعلى شاشات الفضائيات.
وأعتقد أن هذا الانحدار الأخلاقي ليس بغريب ولا بمستبعد في ظل الكرازة بإنجيل يتجاهل تمامًا مسؤولية الإنسان، بأن يكشف له عن خرابه وفساده وخطاياه وعن أجرة هذه الخطايا، ويدعوه للتوبة الحقيقية. إنجيل يتجاهل قداسة الله ودينونته العادلة، فلا يدعو الإنسان لكراهية الخطية والجوع والعطش للبر. بينما في نفس الوقت يركز على تعظيم الإنسان وإشباع احتياجاته النفسية والزمنية. إنجيل يعلن ليس عن قوة الله لخلاص الخاطئ من شرّه، لكنه يعلن عن أموال الله للفقراء!! إنجيل يعلن ليس عن بر الله كما ظهر في صليب المسيح ليستر عري الفاجر، لكن عن شفاء الله لأجساد مريضة تسكنها كل أنواع الخطايا والشرور. إنجيل يدعو الإنسان لاكتشاف ألوهيته وليس لاكتشاف خطيته وخيبته!! إنجيل ينشر روح النشوى وليس روح التقوى، إنجيل يقدم المسيح خادمًا لاحتياجات الإنسان ورغباته لا مسيحًا ربًّا وإلهًا. إنجيل يدعو الناس كثيرًا للإعتراف بالمسيح سيدًا وإلها، لكن داخل مقار الكنائس وفي التسبيحات فقط وليس في المعاملات الحياتية اليومية!!
هذا الواقع الأخلاقي المؤلم يلفت نظر الكثيرين غيري، لكنهم لا يتكلمون؛ خوفًا من أن يكون كلامهم من قبيل إدانة الآخرين، لكن أرجو أن نميّز بين خطية إدانة الآخرين والتي هي على قدر فهمي: تصييد أخطاء الآخرين واستذنابهم بغرض تبرير النفس بدلاً من إدانتها على شرور أكبر تفعلها؛ وبين طاعة وصية السيد في نفس الموعظة الذي أمرنا أن نفحص الثمر لكي نعرف طبيعة الشجرة عندما قال: «من ثمارهم تعرفونهم» (مت7: 16).
هذا الواقع الأخلاقي المؤلم يملؤني بالشك في مصداقية هذه الصحوة، ويزداد الشك عندي عندما أقرأ تاريخ النهضات الحقيقية التي كانت نتيجة عمل روح الله فعلاً وحقًّا. ففي كل النهضات الحقيقية كان التغيير الأخلاقي هو المميِّز الأول الذي لفت إليها الأنظار، وحفظها في ذاكرة التاريخ على مرّ الأزمان، وكان السلوك التَقَوي المقدّس هو الدليل الأعظم على صدقها. وسأكتفي بمثال واحد للإختصار، ولن أختار نهضة القرن التاسع عشر في إنجلترا، والتي استخدم الله فيها رجالاً أتقياء مثل جون نلسون داربي وجورج موللر وغيرهم لئلا أُتَهم بالطائفية. لكنني أخترت النهضة التي حدثت في إنجلترا في القرن الثامن عشر، واستخدم روح الله فيها رجالاً مباركين مثل جون وسلي وتشارلس وسلي وهوايتفيلد وغيرهم. انظر ماذا يقول عن هذه النهضة أحد المؤرخين المحترمين وهو ايرل كيرنز:
”لقد استطاع هذا الرجل، جون وسلي (1703-1791)، أن يغيّر مجرى الحياة لعمّال إنجلترا، وقد استطاعت النهضة الإنجيلية في داخل الكنيسة الأنجليكانية والتي حدثت نتيجة النهضة الميثودستية، تغيير الطبقة العليا في إنجلترا، مما جعل إنجلترا تصبح دولة عظمى بين الأمم وضامنة للسلام العالمي طوال القرن التاسع عشر“.
وهذا ليس بغريب فالحكيم يقول: «البر يرفع شأن الأمة وعار الشعوب الخطية» (أم 14: 34).
وعن عمق هذا التاثير الأخلاقي وشدّة انتشاره، وبالتالي أثره في التاريح، يقول نفس المؤرخ في موضع آخر: ”يتفق المؤرخون على ان الحركة الميثودستية في إنجلترا تقف على قدم المساواة مع الثورة الفرنسية والثورة الصناعية، كإحدى الظواهر التاريخية الني ميّزت القرن الثامن عشر، بل إن بعض المؤرخين يتفقون مع الفكرة التي تقول إن مواعظ جون وسلي أنقذت إنجلترا من ثورة مماثلة للثورة الفرنسية“!!!!
ويقول عنه ول ديورانت في قصة الحضارة (المجلد الثامن عشر عصر فولتير): ”لو حكمنا على عظمة الأفراد بمدى تأثيرهم، لقلنا أن جون وسلي كان أعظم الإنجليز في زمانه“.
وإذا أردت، عزيزي القارئ، معرفة المزيد عن قوة التغيير الأخلاقي الذي أحدثته هذه النهضة في حياة شعب بأكمله، ولمدة قرن من الزمن، يمكنك أن تقرا هذا الكتاب الرائع ” England before and after John Wesley إنجلترا قبل وبعد جون وسلي“ للكاتب JW Bready 1938.
أو أن تقرأ كتابًا أروع، كتبه ”وودرو ويلسون WOODROW WILSON“ أحد رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية في بداية القرن العشرين بعنوان ”مكانة جون وسلي في التاريخ John Wesley Place’s in History“ والذي فيه يقول: ”كان القرن الثامن عشر يصرخ طلبًا للخلاص والنور، فأعدّ الله هذا الرجل ليظهر للعالم من جديد قوة وبركة وعظمة تأثير الخلاص في حياة الشعوب“!!
بل انظر، عزيزي القارئ، إلى موقف أخلاقي بسيط من مواقف هذا الرجل، يظهر حجم التواضع الجمّ الذي تعلمه من سيده، فبعد أن طبقت شهرته العالم كله، سُئل يومًا عن موقفه من خادم آخر معاصر له هو ”هوايتفيلد“، وقد كانا على طرفي نقيض من جهة التعليم، حيث كان وسلي أرمينيًا بينما كان هوايتفيلد كالفينيًا، لكن عندما سُئِلَ وسلي: هل سترى هوايتفيلد في السماء؟ أجاب قائلاً: لا أعتقد!! ثم أضاف موضِّحًا لماذا، فقال: لأنه سيكون قريبًا للغاية من شخص الرب للدرجة التي يصعب على مثلي أن يراه!!
الصحوة الدينية والمعرفة الكتابية
الأمر الثاني الذي يجعلني أتشكك في مصداقية هذه الصحوة هو أن هذه االحماسة الدينية الرهيبة لا يصحبها معرفة بكلمة الله تمكِّن المتحمس من مواجهة تجارب الحياة وحروب إبليس. فتجد المؤمنين عمالقة في التسبيح والعبادة والخدمة، ومواظبون بشدة على حضور الاجتماعات والمؤتمرات، لكن عندما تواجه أحدهم تجربة مرض صعب، أو رحيل عزيز، أو حتى مجرد عدم الحصول على الفتاة التي اشتهاها لتكون زوجة له (!!) أو فرصة عمل كان يحلم بها (!!)؛ تجد العملاق ينهار وتسمع منه بكل بساطة كلمات استجواب الله التي لا تليق، بل والتذمر على الله. والسبب من وجهة نظري في هذا هو غياب العلاقة الحقيقية العميقة مع الله المبنية على معرفته معرف جيدة، وهذه بالطبع لا تتأتى ولا تقوم إلا على المعرفة الجيدة لكلمة الله. ولست أبالغ إذا قلت إن معظم المتحمسين دينيًا اليوم، والذين تشملهم هذه الصحوة الدينية، ليس فقط يتميزون بالضحالة الشديدة في معرفة كلمة الله، التي هي أساس كل نمو في الحياة، وكل نقاوة في السلوك، بل أقول للأسف إن نهضتهم وخدمتهم وأنشطتهم يمكنها أن تستمر بذات النجاح بدون الاحتياج لأي قدر من المعرفة الكتابية، بل وحتى بدون وجود أي توجّه للإهتمام بها!! فإذا توفرت لهم الكلمة وخدمت أفكارهم أهلاً بها، أما إذا لم تتوفر فهم ماضون بدونها، بل وقادرون على الاستمرار والنجاح بدونها!
هذا لأنها صحوة تعتمد على كل ما هو عاطفي ونفسي، وليس على ما هو معرفي كتابي، إنها صحوة لا تعتمد على قوة روح الله وسلطان المكتوب، لكن على كاريزما بعض الأشخاص وأفكارهم الخاصة والتي تتعارض أحيانًا مع المكتوب. إنها صحوة تعتمد على نظريات علم النفس بعد أن تكسوها طابعًا مسيحيًا، وعلى استغلال ميكانزمات علم النفس كالإيحاء وغريزة القطيع، وليس على الإيمان المسلَّم مرة للقديسين. إنها صحوة تعتمد بشدة على الموسيقى ولا سيما الموسيقى المتمردة على السلم الموسيقي كموسيقى الـ HARD ROCK وموسيقى الـ METAL ROCK بدقاتها المجنونة القادرة على تغييب العقل لشدّة ما تنشئه من انفعال، وليس على روح الله الذي ينخس القلوب ويقنع العقول ويقودها للتوبة ويميّزها بحياة القداسة. إنها صحوة لا تبحث عن خير الإنسان الروحي بقدر ما تبحث عن سعادة الإنسان النفسية. إنها صحوة لا تخبر الإنسان بفكر الله لكي يطيعه، بل تريد أن تسخِّر الله لخدمة فكر الإنسان! كما أنها صحوة تستمد قوتها لا من قوة العمل الإلهي بل من قوة الأعداد الكبيرة وقوة الإبهار الأمريكي، حيث قوة المال وقوة التكنولوجيا وقوة الوفرة في كل شيء. كل هذا يتعارض تمامًا مع طابع النهضات الحقيقية التي سجّلها الكتاب والتي نقرأ عنها في كتب التاريخ.
وهنا تعوزني المساحة لأقتبس من تاريخ النهضات الحقيقية ما يؤكد أنه لم تكن هناك نهضة حقيقية على مَرّ التاريخ، إلا وكان الرجوع للكتاب المقدس، واكتشاف فكر الله، والتعمق في معرفته، هو المحرِّك للنهضة وعلامتها، بل وعلمها. سواء نظرنا للنهضات المسجَّلة في العهد القديم، كتلك التي حدثت على يد ملوك أتقياء مثل حزقيا ويوشيا، أو خدام أمناء مثل عزرا ونحميا. أو تلك المسجّلة في التاريخ الكنسي مثل نهضة الإصلاح على يد لوثر ووليم فارل وكالفن وزونجلي؛ والذين كان شعارهم الأوحد الذي رفعوه هو: ”الكتاب وحده والكتاب كله“. ومن قبلهم سار على ذات الدرب روبرت جريتهد، وروجر بيكون، وتوما الأكويني، ويوحنا ويكليف، واللورد كوبهام، وجون هس، وجيروم سافونارولا، وكثيرون غيرهم، وبعضهم كما يعلم الكثيرون منا أمرت محاكم التفتيش البابوية بحرقهم أحياء لأنهم لم يقبلوا أن يفرطوا فيما تعلموه من الكتاب!! ومن بعدهم مثل وسلي وداربي وكلي وسبرجن وغيرهم. وكم شرفت صفحات التاريخ المسيحي بقصص رجال أبطال ضحوا بحياتهم لأجل تعليم الكتاب.
ثانيًا: دوافع الصحوة
هنا لا بد لنا أن نتساءل عن ما هي العوامل التي بعثت هذه الصحوة الدينية العامة في الغرب والشرق. وهل هذه العوامل نفسها لها دور في بعث النهضة المسيحية الحالية؟ وبالطبع لا أدّعي أنني أفهم كل شيء، لكنني فقط أفكّر وأحاول أن أفهم. وما وصلت إليه ألخّصه في هذه العبارة ”ثقافة الإحباط“، وأقصد بالثقافة:”منظومة من المعتقدات والسلوكيات التي تميّز جماعة معينة في عصر معين“. وبالتالي عندما اقول: ”ثقافة الإحباط“، أقصد أن: هذه المنظومة من المعتقدات والسلوكيات، أوجدتها أو بعثتها حالة من الإحباط الشديد والعميق.
وليس من الصعب على قارئ التاريخ البشري، في أي مرحلة من مراحله، أن يدرك أن الدين كان دائمًا هو طوق النجاة الجاهز باستمرار للإنقاذ من الإحباط! لقد كان، ولم يزل، هو المنظومة الفكرية والنفسية والروحية التي تغيث المحبطين.
دعني أوضح لك هذا بإلقاء نظرة على الغرب المسيحي ثم نظرة على الواقع المصري.
إذا رجعنا بضعة قرون للوراء، سنجد أن عصر النهضة الأوروبي، والذي بدأ بعد نهضة الإصلاح البروتستانتي، كان شعاره العقل والموضوعية والتمرد على الخرافات، ولا سيما تلك التي خلقتها البابوية في روما وملأت بها عقول الناس، بل وسيطرت بها عليهم لقرون طويلة. وشعروا أنه لن يحميهم من العودة لعبودية الخرافة فيما بعد إلا التمسك بالعقل وحده. وقد كانت الانتفاضة عنيفة. (أقرأ مثلاً ول ديورانت قصة الحضارة ”الإصلاح الديني بداية عصر العقل“ المجلد الرابع عشر). وللأسف خلط البعض وقتها بين الكتاب المقدس وبين تعاليم البابوية، أي لم يميّزوا بين ما هو بشري وخرافي، وما هو حق وإلهي. مثل ما فعل فولتير وهيجل وكانت وغيرهم. وعلى قدر ما كانت الخرافة قوية ومسيطرة، كان التمرّد عنيفًا وقاسيًا بنفس الدرجة، طبقًا لقانون الحركة الثالث لنيوتن. فرفضوا ليس فقط الخرافة، بل رفضوا أيضًا الله وكتابه. كما يقول ول ديورانت: ”لم يعودوا يناقشون سلطة البابا بل وجود الله! ولم يعودوا يناقشون عصمة البابا بل حقيقة الكتاب المقدس!“. وهنا جاء الإلحاد في صورته القديمة.
إلا أنه بعد التمسك بالعقل وحده لمدة ثلاثة قرون من السابع عشر إلى التاسع عشر، اكتشفوا أن هناك خواء نفسي وفراغ عميق لم يقدر العقل الجاف أن يشبعه، بل والأخطر من هذا، اكتشفوا عجز العقل عن إجابة أسئلة الإنسان الهامة في الحياة والتي تزعجه، والتي يحتاج نفسيًا لإجابتها لكي يشعر بالاشباع. هذا الفشل الذريع للعقل خلق فراغًا رهيبًا وكذلك إحباطًا ثقيلاً للغاية، لذلك يمكنني القول إن أوروبا خرجت بعد الإصلاح من سجن الخرافة التي سجنها فيه الدين، لكنها خرجت إلى العراء وبرد العقل الجاف الذي عجز عن تقديم الإشباع النفسي وملء الفراغ الروحي بل وأيضًا لم يقدِّم لها الإجابة عن أسئلتها الهامة!!
هذا الإحباط دعا البعض، مثل الانجيلزي ألدوس هكسلي Aldous Huxley (1894-1963) في بداية القرن العشرين أن يدعو لإعطاء المخدرات للأصحاء لعلهم يكتشفوا في باطنهم وفي أعماق نفوسهم الإجابات وهم تحت تأثير المخدرات!!! وهذا الإحباط أيضًا هو الذي خرج بالمجتمع الغربي من موسيقاه الكلاسيكية الرصينة والتي ميّزت القرن الثامن عشر والتاسع عشر، إلى موسيقى الصخب والجنون كموسيقى الروك أند رول والهارد روك والـ heavy metal وغيرها! هذه الأنواع من الموسيقى التي بدقاتها العنيفة وتأثيرها الرهيب على المشاعر تخرج بالانسان بعيدًا عن العقل، لعله يجد الإجابة في وهم الأحاسيس. وبالطبع نجحت بشدة في أن تأخذه بعيدًا عن العقل لكنها لم تُعطِه الإجابة! ولم يستسلم دعاة العودة إلى العقل وحده ليعلنوا فشل العقل، فظهر الإلحاد الحديث في صورتيه الماركسية على يد ماركس، والوجودية الملحدة على يد سارتر، وبهما أخذ الإلحاد منعطفًا جديدًا، فهو لا يرفض وجود الله لكنه يرفض العلاقة معه، يرفض الدين بحجة أن الدين يعطل الإنسان عن اكتشاف وتحقيق ذاته، وأنه عندما يحقق ذاته سيصل للإجابة عن أسئلته التي تشقي نفسه. ولكن في نهاية القرن العشرين انهارت المؤسسات السياسية والاقتصادية والفكرية التي بنيت على أفكار ماركس، كما فشلت فلسفة سارتر في أن تقود ولو مجرد فرد واحد من أتباعها إلى اكتشاف ذاته ليجيب عن أسئلته. بل فشلت كل الفلسفات في أن تجيب عن أسئلة الإنسان الهامة في الحياة وعن هذا يقول جاك ماريتيان الفيلسوف الفرنسي :
”إن الفلاسفة في الواقع يقومون بلعبة غريبة، فهم يعلمون جيدًا أن شيئًا واحدًا له قيمة، وأن خليط مناقشتهم إنما يدور حول سؤال واحد: لماذا ولدنا على هذه الأرض؟ وهم يعلمون جيدًا أنهم لن يستطيعوا الإجابة عنه، ومع ذلك يستمرون في تسلية أنفسهم!!!“.
وهكذا أُحبط للنهاية دعاة العقل وحده، وضعف إلى حد كبير تأثير الماركسية والوجودية، والباقون لم تقودهم مخدراتهم أو موسيقاهم إلا إلى المزيد من الضياع. وهنا لم يبقَ أمام من يرجو النجاة من هذا الإحباط سوى تجربة العودة للدين، باعتباره طوق النجاة الجاهز دائمًا للإنقاذ من الإحباط.
وفي الشرق لا يختلف الوضع كثيرًا على الرغم من اختلاف عوامل الإحباط، ففي مجتمعنا المصري، على سبيل المثال، لا يستطيع أحد أن ينكر حالة الإحباط التي يعيشها هذا المجتمع المسكين والمطحون. فبعد وعود رائعة عاش وتغذى عليها في الخمسينيات والستينيات انهارت تمامًا بعد نكسة 1967، وبعد سلسلة من النكبات الاقتصادية وتقلّص فرص العمل في الداخل والخارج، وانتشار البطالة، وقلّة الأبواب المفتوحة نسبيًا للهجرة بسبب الازدياد الرهيب في عدد الراغبين في الهجرة، كل هذا مع انعدام الأمل في أي إصلاح سياسي أو اقتصادي، وانتشار قصص الفساد الرهيبة التي تزكم الأنوف. كيف لا يحبط هذا المجتمع، بل وكيف لا يتعمق فيه الإحباط حتى إلى النخاع؟!! وهنا أيضًا يظهر الدين كطوق النجاة الوحيد. فسائق التاكسي الذي أشرت إليه في بداية المقال، لو استطاع أن يغنّي أغاني الخمسينيات والستينيات عن الحب والزواج لما كان انخرط في الدين، والشاب الجامعي الذي يضحي بمستقبله من أجل الدين هو يفعل ذلك ببساطة لأنه لا يملك من الأصل مستقبلا لكي يخسره!! بل هو على استعداد أن يضحي أيضًا بحياته لأجل الدين، لأنه لا يرى لهذه الحياة التي يعيشها أي قيمة، إنها رخيصة للغاية!! وبالتالي فليست خسارة أن يضحي بها لأجل أي قيمة حتى ولو كانت غير يقينية!
هذا هو حال الشباب المصري على المستوى العام للمجتمع المصري ككل بكل طوائفه. وهنا لا يمكننا أن نستثني الشباب المسيحي من حالة الإحباط هذه، بل على العكس فإحباطه أكثر بسبب وضعه كأقلية مضغوطة، نجح الضغط الذي يعاني منه أن يقتل عنده الشعور بالانتماء للوطن وترجي الخير منه.
وهنا أتوقف لأقرِّر شيئًا في غاية الأهمية، ألا وهو أنه في هذا الجو النفسي القاتم، لو قُدِّم الإنجيل بقوة الروح القدس لأنقذ هذه النفوس إنقاذًا زمنيًا وأبديًا، وهذا بالطبع يحدث، لكن ليس بصورة عامة بل على نطاق ضيق. أما الغالبية العظمى من المسيحيين فقد صاروا ضحايا لهذا الإحباط، ولم يبقَ أمامهم سوى الدين كالملجإ الأخير. فلجأ المسيحيون من الكنيسة التقليدية إلى الكنيسة، والمتابع لأنشطتها سيلحظ أنه في ذات الفترة بدأت الكنيسة تتبنى إلى حد ما قضايا الشعب لدى الدولة، فتعمَّق الشعور بالانتماء للكنيسة وصارت هي الوطن البديل! فالإنسان يحتاج للإنتماء كاحتياجه للماء والهواء. ولأنه لم يجده في المؤسسات المدنية المختلفة، اتجه إلى الكنيسة وعمق وجذَّر انتماءه لها، فصارت هي الأم، والوطن، والحزب، والنادي، والمستشفى، والحضانة، والضمان الاجتماعي وكل شيء!! وهنا حدثت النهضة في الكنيسة التقليدية.
أما على الجانب البروتستانتي، فبالإضافة لعوامل الإحباط العاملة فيه باعتباره مصري، ولعوامل الإحباط باعتباره أقلية، ولعوامل الإحباط باعتباره أقلية داخل أقلية، قد صار يعاني عاملا محبطًا أخر، ألا وهو خلو الساحة البروتستانتية من رجال المنبر الأتقياء الموهوبين بحق، والذين يقدّمون كلمة الله الغنية بعمق يشبع الروح والعقل والنفس معًا. ولا تستهن بدور هؤلاء الرجال وأثرهم، فدورهم هو الذي أوجد للبروتستانتية مكانًا في مصر، بل وهو الأمر الذي أوجد البروتستانتية في العالم! فالبروتستانتية منذ قيامها لم تكتسب أرضًا بين الناس بسبب اعتمادها على إشباع الغريزة الدينية بالطقوس والفرائض، بل من خلال تقديم كلمة الله وحق الله كما يعلنه الكتاب، تقدّمه من خلال رجال موهوبين أتقياء. وكانت نتيجة اختفاء هؤلاء ظهور فئة من القادة ورجال المنبر الذين قفزوا لشغل هذا المكان دون تقوى حقيقية ومواهب قوية، هؤلاء غطّوا الإفلاس الروحي والكتابي باللجوء للفلسفة وعلم النفس ونظريات اللاهوت المتحرر والعمل الاجتماعي. مما عمق الفراغ الروحي والفكري عند الرعية. الذين لم يعُد عندهم لا طقس ولا أسرار كالتقليدين، ولا فكر واقتناع كالبروتستانت الأقدمين. وكان أكثر المتأثرين بهذا الفراغ هم الشباب إذ أن الشيوخ يعيشون على ذكريات الماضي الجميل، وما سبق وتعلموه من خدام وقادة أتقياء كانوا أبطالاً في التعليم. وعليه فقد وصل الإحباط للنخاع، وهنا صار الوضع النفسي والفكري للشباب مهيّأ بقوة لتلك الصحوة الدينية القادمة من الولايات المتحدة الأمريكية؛ لما تحمله في شكلها ومضمونها من عناصر معالجة بقوة لحالة الإحباط، إذ أنها هي الأخرى نتجت من حالة إحباط، وإن اختلفت أسبابه كما سبق وأوضحت. فالمتأمل لعناصر هذه الصحوة يجدها تتميز بالأتي:
- تقديم الله على أنه القوة العظمى الجاهزة دائمًا لإشباع احتياجات الإنسان الجسدية والزمنية والنفسية، وهذه القوة هي رهن إشارة الذي يطلبها.
- عدم إزعاج الإنسان بالكلام عن التوبة وحياة القداسة.
- الكلام الكثير عن حالة قوة وانتصار عظيمين يعيشها المؤمن دون أي جهاد روحي من جانبه.
- الكلام الكثير عن الأرواح الشريرة ثم النصرة عليها بأبسط الوسائل بكلمة أو بنفخة وهكذا يتم صنع العدو ثم تحطيمه لتدق طبول الانتصار ويتم تعليق النياشين، بينما المعركة من أساسها هي معركة وهمية. وتتجاهل أن الحرب الروحية الحقيقية هي جهاد لمعرفة الله معرفة عميقة من خلال المكتوب.
- اختزال الحياة الروحية بكل أبعادها واتساعها، إلى مجرد العبادة والتسبيح، مع اختزال العبادة إلى نشوة دينية بدلاً من أن تكون تكريس كامل للرب. مع استخدام الموسيقى الصاخبة في التسبيح والتي تقترب من الهارد روك وهي علاج نفسي للإحباط.
- البحث عن الأعداد الكبيرة هربًا من كل شعور بالتهميش والدونية.
- عدم إرهاق المؤمن بالتعليم الكتابي العميق، فليس المهم ماذا يعرف لكن بماذا يشعر ولذا يمكنني تسميتها بالوجودية الجديدة.
- تقديم كل ما يحسِّن صورة الإنسان أمام نفسه، ولا سيما من جهة الشعور بالذنب وعدم قبول النفس. مع أن هذين الشعورين، من وجهة نظري، وعلى الرغم من سخافتهما، هما البوابة الرسمية للعبور إلى طلب البر الإلهي والخلاص الحقيقي، بينما الشفاء منهما بدون توبة حقيقية هو قتل كل فرص العودة الحقيقية لله.
- كذلك تقديم كل ما يطمئن الإنسان على مستقبله. فصارت العظات من قبيل العلاج النفسي وتطييب الخواطر أو المساج النفسي وليست تقديم فكر الله وحقه.
وعليه فعندما يتوفر لك نشاط ديني بهذه العناصر: يريح الضمير، يجعلك تنتمي لمئات أو آلاف نظيرك فيشفيك من الشعور بالدونية أو التهميش، ويقدم لك موسيقى صاخبة وأصوات جميلة تخرج بك من واقع الألم المحيط، وعندما يقدم لك الله القوة العظمى رهن إشارتك لتلبية احتياجاتك، وعندما يتم كل هذا في جو اجتماعي وعاطفي يتيح الفرصة للتقارب بين الشباب من الجنسين، ويتيح الفرصة للفقراء للإندماج مع الأغنياء، كل هذا دون إلحاح على العقل لكي يستوعب شيئًا ثقيلاً، ودون إلحاح على الضمير للتوبة وحياة القداسة؛ أقول عندما يتوفر كل هذا فلا يمكن أن يكون هناك مخدرًا ينسي الناس إحباطهم أقوى من هذا.
كل هذا يجعلني كثيرًا أتسائل وأنا أرى الحماس الديني عند الشباب البروتستانتي في هذه الصحوة وأقول: هذا الشباب لو كان وجد وطنًا ينتمي إليه، وعملاً محترمًا يعطيه دخلاً ماديًا يكفيه، ومنزلاً يحقِّق فيه حلمه بالزواج، وسيارة تريحه من عناء المواصلات، ونشاطًا اجتماعيًا أو رياضيًا يظهر فيه مواهبه ويحقِّق فيه ذاته؛ هل كان يا ترى سيكون بهذا الحماس الديني؟ وهل كانت هذه الصحوة الدينية ستشمله؟
أخيرًا أقول:
أنا لا أنكر أبدًا، بل على العكس بكل الفخر والفرح أؤكِّد، أن هناك عملاً إلهيًا حقيقيًا يجري في هذه الأيام، فالرب بنعمته لم يكُفّ عن أن يضم كل يوم الكثيرين الذين يخلصون، بطرق عجيبة، ومن مختلف الخلفيات بل والديانات. لكنني أراه عملاً لا بالقوة ولا بالقدرة بل بروح الرب في الخفاء بدون ضجة أو إعلان. إنه همس الروح الداخلي لأرواح حزينة على خطاياها، وقلوب مكسورة لإفلاسها، وضمائر حساسة، وعقول مفتوحة، فتستجيب لحق الله الذي لا يعدم وسيلة لتوصيله إليها مهما كانت خلفيتها ومهما كان مستوى ذكاءها.
كما أنني أؤكد أنه في وسط كل زيف هناك شيء من الحق، وأقرّ بتعليم السيد أن شبكة الإنجيل التي طُرحت قد جمعت سمكًا جيدًا مع الرديء، وأنه لم يأتِ بعد وقت الفصل التام بينهما، لكن هذا لا يعني أن نسكت، بل ينبغي أن نفصل التبن عن الحنطة كما أمرنا الرب، وأن نلوح بنور الكلمة للمخلص، وأن ننادي بالانفصال للمؤمن الحقيقي.
وأيضًا أقول للشباب المُحبَط، إن الإحباط بركة عظمية إن أحسنّا استخدامها بالتوجّه الحقيقي إلى الرب، وليس بالتدين في أشكاله المظهرية الجوفاء، وأنشطته الجماعية المخدرة. فروح الرب يهبّ ليجفف (إش40: 7) قبل أن يهب ليحي (حز 37: 9). وقد يكون هبّ عليك ليجعل نفسك تذبل من خلال الإحباط لكي تأتي إليه طالبًا الإرتواء، هذا الذي ختم كتابه بأرق وأجمل نداء: «من يعطش فليأتِ ومن يُرِد فليأخذ ماء حياة مجانًا» (رؤ22: 17). لذا تعال إليه بندم حقيقي وتوبة مخلصة صادقة، وثِق أن له خطة عظيمة لحياتك، وقصد صالح لوجودك. فقط تعالَ بقلب صادق واطلب منه الخلاص والحياة، معترفًا بأنك مذنب وهالك، وعندئذ سترتوي وتعيش أروع حياة.
كما أني أتوجه بنداء قلبي لكل من هو في موضع خدمة أو قيادي، بل ولكل مؤمن حقيقي؛ لكي ما نفحص معًا عبادتنا وخدمتنا وأنشطتنا، طالبين من الرب أن ينقّينا من كل ماهو شكلي وليس حقيقي، من كل ما هو نفسي وليس روحي، من كل ما هو جسدي وليس إلهي، من كل ما هو ديني وليس من عمل روح الله فينا.
دعونا نتضرع للرب من أجل بلادنا لكي يخلِّص الرب نفوسا غالية أحبّها ومات من أجلها. دعونا نصرخ لأجل نهضة حقيقية يقدَّم فيها إنجيل الخلاص الحقيقي بقوة الروح القدس. ويقدَّم فيها التعليم النقي للمؤمنين لكي ينموا به. نهضة تبدأ بركب ساجدة، وعيون باكية، وقلوب مكسورة. وتستمر فقط بعمل وقوة روح الله. وتنجح لأنها مبنية على حق الله وكلمته الحية والفعالة، وليس على أفكار فلان أو علان. نهضة تدعمها قوة حياتنا المقدسة وأخلاقنا المسيحية الطاهرة، في أعمالنا وسط زملائنا وفي بيوتنا. نهضة روحية أخلاقية تكون فيها سيرتنا خير دعاية لرسالتنا. ويكون فيها صوت حياتنا بين جيراننا أعلى من صوت كلامنا. نهضة تقوّي دعائم بيوتنا قبل أن تكثر عدد الحاضرين في كنائسنا. نهضة تجعل أولادنا وبناتنا يرون فينا أباءً وأمهاتا أتقياء جديرين بالاتباع، وليس مجرد أناس يبيعون كلام، فلا يصبحون صيدًا سهلاً لكل قائد باحث عن أتباع.