عدد رقم 1 لسنة 2007
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
الديانة عبر الكتاب المقدس  

بداية الديانة في الكتاب المقدس
إن كانت الآية الأولى في إنجيل مرقس هي: ”بدء إنجيل يسوع المسيح ابن الله“، فيمكننا أن نعطي عنوانًا للأصحاح الرابع من سفر التكوين وهو ”بدء ديانة الإنسان ابن آدم“.

لقد كان أول عمل عمله الإنسان خارج الجنة التي طُرد منها، بحسب ما نقرأ في الكتاب المقدس، هو ما ورد في تكوين 4، عندما قدّم قايين من أثمار الأرض قربانًا للرب.  ومنه نتعلم أن قايين هذا لم يكن ملحدًا، فلقد أقرّ بوجود الله؛ ولا كان الاقتراب إلى الله بالنسبة له أمرًا تافهًا أو ثانويًا، فكان هو أول من قرَّب قرابين لله، كما كان قربانه الذي قربه لله هو أول عمل مُسجَّل له في الكتاب المقدس.  لكن المشكلة مع قايين أنه اقترب إلى الله بما يتناسب مع تفكيره هو، لا بما يتوافق مع الإعلان الإلهي.  وعليه فيمكننا القول إن ديانة قايين كانت هي ديانة الفطرة. 

وهل هذا يعيب دين قايين؟  نعم، بكل يقين.  فعندما قدَّم إشعياء النبي ما يمكن أن نعتبره إرهاصًا لإنجيل الله، وذلك في الأصحاح الخامس والخمسين من نبوته، مناديًا جميع العطاش أن يأتوا إلى المياه ويشربوا، وينالوا الحياة بالمجان، أردف قائلاً: «لأن أفكاري ليست أفكاركم، ولا طرقكم طرقي يقول الرب».  ويؤكِّد الفكر عينه إذ يستطرد قائلاً: «لأنه كما علت السماوات عن الأرض، هكذا علت طرقي عن طرقكم، وأفكاري عن أفكاركم» (إش 55: 8، 9).  ربما كان يصلح فكر الإنسان قبل السقوط، لكن بعد السقوط أمسى فكر الإنسان منحرفًا، ومختلفًا عن فكر الله، كما أن طرق الإنسان صارت مغايرة لطرق الله.  ولذا فما عاد فكر الإنسان يصلح في مسألة الاقتراب إلى الله، بل أصبح من المحتَّم أن يقبل إعلان الله وفكره.  بكلمات أخرى أن يقترب إلى الله بالإيمان، الذي هو قبول الخبر لأن «الإيمان بالخبر، والخبر بكلمة الله» (رو 10: 17).

الدين حاجة الإنسان الأولى

نعم إن الدين هو حاجة الإنسان الأولى، وهو ما تعلّمناه من قايين أول ابن لآدم.  وممارسات الإنسان على طول تاريخه، وحتى اليوم، ترينا إلى أي مدى يتغلغل الدين في كيان الإنسان.  ذلك لأن عند الإنسان نزعة دينية قوية، حتى أن سقراط لما قال إن الإنسان حيوان ناطق، خالفه بعض زملائه قائلين: ”بل هو حيوان متديّن“.

بل إننا من تكوين 4 نفهم أن دين هذا العالم كان أسبق من دنياه!  فكما سبق أن ذكرنا، كان قايين ابن آدم هو أبو الدين في هذه الدنيا.  وأركان العالم - إن جاز لنا تسميتها - بدأت بمجرّد طرد الإنسان من الجنة، بعد سقوطه في الخطية.  وإن كان النصف الثاني من تكوين 4 يكلِّمنا عن الاختراعات والفن والتجارة، وهي ما يمكن أن ندعوه ”الدنيا“، فإن النصف الأول منه يكلّمنا عن القربان الذي قدمه قايين، أو ما يمكن أن ندعوه ”الدين“. 

والدنيا - بهذا المفهوم - لم تترسخ دعائمها إلا بواسطة نسل قايين، حيث إن قايين بعد أن طُرد من لدُن الرب بنى مدينة، ودعاها باسم ابنه.  ثم أتي أحفاده فجمَّلوا تلك المدينة، بما اصطُلح على تسميته اليوم ”مدنية“.  إلا أن الدين بدأ من قايين نفسه، لا من ذريته.  فإن كانت عائلته أسّست نظام العالم، فإنه هو نفسه الذي أسّس الدين.

ونتعجب عندما نكتشف من كلمة الله أن هذا الطريق الذي ابتدعه قايين، لم ينتهِ بموته هو، ولا حتى بهلاك نسله في الطوفان،  بل نقرأ عنه في العهد الجديد، وتقريبًا قرب نهايته، في رسالة يهوذا 11.  وسوف نعود إلى هذه النقطة بعد قليل.

ولقد صار المتدين الأول (قايين) هو القاتل الأول!  ومن بعده أصبح الدين هو السبب الأول للقتل في هذا العالم، سواء عن طريق الحروب التي سوَّدت تاريخ البشرية؛ أو عن طريق قتل الخصوم والمخالفين في الرأي والمرتدين.  والوضع لم يتحسن في القرن الحادي والعشرين.  ثم بعد الدين والقتل جاء نظام العالم الذي ابتدعه نسل قايين بوحي الشيطان، فامتلأ المشهد بالفساد.  فلقد أطلق لامك حفيد قايين العنان لشهوته، فلم يكتفِ بزوجة واحدة كما رتّب الله في البداية، بل أدخل مبدأ ”تعدد الزوجات“.  وما أن نصل إلى تكوين 6 حتى نتعلم كيف امتلأت الأرض بكل من الظلم والفساد، حتى صارا هما سمتا العالم قبل الطوفان، وما زالا سمته حتى اليوم، الأمر الذي جعل الرب يتأسف أنه عمل الإنسان، مما استوجب دينونة الطوفان قديمًا، وسيستوجب دينونة أشد عند ظهور الرب يسوع المسيح بالمجد والقوة. 

إنحراف الإنسان إلى الوثنية

بعد الطوفان، نقرأ عن دخول شيء جديد إلى العالم، لم يكن معروفًا قبل الطوفان، وأعني به الوثنية التي انتشرت في العالم من أيام برج بابل (تك11). 

وفي الوثنية استغل الشيطان ميل الإنسان الغريزي للدين، وجعل الإنسان يتقي ويعبد المخلوق دون الخالق (رو1: 21-25)، فأخذ المخلوق (كالأجرام السماوية، أو البشر أو الحيونات أو حتى الزحافات) مكان الله!  ومن خلف تلك العبادات الوثنية، على مختلف أشكالها، يوجد الشيطان بكل خديعته ومكره، بكل حذقه وشَرِّه.  فيُعرِّفنا الكتاب صراحة أن ما يذبحه الأمم للأوثان، إنما يذبحونه للشياطين لا لله (1كو10: 20).  ونحن نتعلم من العهد القديم أن الشيطان طمع في أن يكون معبودًا، وهو ما نراه في لغة كل من ملك بابل (انظر إشعياء 14: 13، 14)، وأيضًا ”ملك صور“ (انظر حزقيال 28)، وكلاهما رمز للشيطان: ”إله هذا الدهر“، و ”رئيس هذا العالم“.

وبكل أسف انتشرت العبادات الوثنية في كل بقاع الدنيا.  كل شعب اتخذ له معبودًا، بل معبودات، حتى أنه في أثينا - كما قال المؤرخون - كان أسهل أن تجد صنمًا عن أن تجد رجلاً.  وهو ما أشار إليه الرسول بولس في خطابه الشهير في ”أريوس باغوس“، إذ َقَالَ: «أَيُّهَا الرِّجَالُ الأَثِينِيُّونَ أَرَاكُمْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَأَنَّكُمْ مُتَدَيِّنُونَ كَثِيرًا.  لأَنَّنِي بَيْنَمَا كُنْتُ أَجْتَازُ وَأَنْظُرُ إِلَى مَعْبُودَاتِكُمْ وَجَدْتُ أَيْضًا مَذْبَحًا مَكْتُوبًا عَلَيْهِ: لإِلَهٍ مَجْهُولٍ.  فَالَّذِي تَتَّقُونَهُ وَأَنْتُمْ تَجْهَلُونَهُ هَذَا أَنَا أُنَادِي لَكُمْ بِهِ» (أع 17: 22، 23).

ويحدِّثنا الوحي المقدس عن وثنية مصر، وكيف على عهد موسى كانت مصر غارقة في أوثانها، تعبد العديد من الآلهة، وقد أوقع الرب بواسطة موسى أحكامه على ”آلهة المصريين“.  ويشرح النبي إشعياء وثنية مصر، ذاكرًا قضاء الله الرهيب عليها في إشعياء 19.  وإشعياء هذا تحدَّث باستفاضة أكبر عن وثنية بابل، ولا عجب فإن بابل هي مهد الوثنية، كما أنها مقرّها الرئيسي في العصور القديمة. 

على أن الأمر قد تطَّور في بابل، فنحن لا نقرأ عن إجبار على السجود للأوثان في مصر، ولكن نقرأ عنه في بابل (دا 2).  وأصبح حق الإنسان ينتهي، عندما يأتي دور الدين!  فتحت طائلة الحرق في أتون النار، كان على كل الموجودين في بابل أن يسجدوا للتمثال الذي أقامه نبوخذنصر، دون تردد (دا 3)!

لكن الأمر في هذا السفر لم يقف عند حد الإجبار على السجود للأوثان، تحت طائلة الموت، بل إنه انتقل من اضطهاد الأمناء على عهد نبوخذنصر، إلى احتقار المقدّسات في زمن بيلشاصر.  وبعدهما أتى داريوس المادي، الذي بلغ في وثنيته شأنًا لم يبلغه سابقوه، فقد نصب نفسه إلها ومعبودًا، إليه ترفع الصلوات!

الدين الإلهي: اليهودية

نتيجة لتغلغل الوثنية بين البشر بهذه الصورة البشعة، فإن الرب «ترك جميع الأمم يسلكون في طرقهم، مع أنه لم يترك نفسه بلا شاهد» (أع14: 16، 17).  نعم كانت له شهادة لدى هؤلاء الوثنيين، تُذَكِّرهم بوجود إله خالق عظيم وسامٍٍ، أسمى من كل مخلوقاته، حتى أنهم - كما قال الرسول بولس - بلا عذر في جهلهم الإرادي الذي قادهم الشيطان إليه.  فليس أن الإنسان لم يمكنه أن يعرف الله، بل إنه لم يستحسن أن يُبقي الله في معرفته (رو 1: 20، 28). 

ومن الجانب الآخر اختار الله إبراهيم وعائلته، وكانت هذه العائلة تعبد الأوثان، كغيرها من سائر قبائل الأرض وعشائرها، لكن الرب فصله عنهم، وأعلن نفسه له، وطلب منه أن يوصي بنيه وبيته من بعده أن يحفطوا طريق الرب.  وهكذا اقتصرت معرفة الله - في ما بعد - بين أمة واحدة.  وكان عليهم أن يكونوا شهودًا للرب بين الأمم.  ولقد كانت اليهودية هي الدين الذي أعطاه الله لحفظ معرفته بين البشر.  ولقد اختصّ الله تلك الأمة التي اتخذها لتشهد له بالعديد من الامتيازات العظيمة، ومن أهمها شريعة الله بين أيديهم، ونظام كهنوت يقرِّبهم إلى الله.  ولكن بكل أسف، ومن البداية، كُسِر الناموس، ونظام الكهنوت ظهرت ملامح فشله مبكرًا.

ومن المرات المحدودة التي نقرأ عن تعبير ”الديانة“ في الكتاب المقدس، ارتبطت اليهودية به أكثر من مرة.  ففي سفر الأعمال يقول فستوس: «فَلَمَّا وَقَفَ الْمُشْتَكُونَ حَوْلَهُ (أي حول بولس) لَمْ يَأْتُوا بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ مِمَّا كُنْتُ أَظُنُّ.  لَكِنْ كَانَ لَهُمْ عَلَيْهِ مَسَائِلُ مِنْ جِهَةِ دِيَانَتِهِمْ وَعَنْ وَاحِدٍ اسْمُهُ يَسُوعُ قَدْ مَاتَ وَكَانَ بُولُسُ يَقُولُ إِنَّهُ حَيٌّ» (أع 25: 18، 19).  بل إن الرسول بولس أيضا يكتب للمؤمنين في غلاطية قائلاً: «فَإِنَّكُمْ سَمِعْتُمْ بِسِيرَتِي قَبْلاً فِي الدِّيَانَةِ الْيَهُودِيَّةِ، أَنِّي كُنْتُ أَضْطَهِدُ كَنِيسَةَ اللهِ بِإِفْرَاطٍ وَأُتْلِفُهَا.  وَكُنْتُ أَتَقَدَّمُ فِي الدِّيَانَةِ الْيَهُودِيَّةِ عَلَى كَثِيرِينَ مِنْ أَتْرَابِي فِي جِنْسِي، إِذْ كُنْتُ أَوْفَرَ غَيْرَةً فِي تَقْلِيدَاتِ آبَائِي» (غل 1: 13، 14).

وتحدّثنا الأصحاحات الأخيرة في سفر القضاة عن محطة أخرى في بانوراما الدين في الكتاب المقدس، وكيف أخفق الإنسان فيه.  فكما تصرف قايين باستحسانه البشري، هكذا فعل اليهود أيضًا عندما لم يكن ملك في إسرائيل، وعندما «كان كل واحد يعمل ما يحسن في عينيه» (قض17: 6؛ 21: 25).  لقد أدخلوا أفكارهم الشخصية، وابتعدوا عن إعلان الله مرة أخرى.  وهكذا نرى طريق قايين يتكرّر مرة أخرى بعد الطوفان، لإفساد وتشويه الديانة الإلهية التي سنها الله للبشر!

وليس في أيام القضاة فحسب، بل أيضًا في أيام المملكة.  فنحن نقرأ عن ”يربعام بن ناباط“ الذي جعل إسرائيل يخطئ، وكيف ابتدع طريقة عبادة (1مل 12: 26-33)، شأنه في ذلك شأن قايين.  لقد انحرف عن إعلان الله المُعطى للشعب، وكأنّ فلسفة يربعام: لماذا السفر بعيدًا إلى أورشليم؟  إن بيت إيل أقرب، فعمل لهم إلهًا هناك.  وبيت إيل يعني بيت الله، وهو أطلق على صنمه أسماء إلهية كما سبق وفعل هارون أسفل جبل سيناء (خر32).  كما أقام صنمًا آخر في ”دان“ لمن يسكن في شمال البلاد، فعلى أي حال ينبغي أن يكون الدين يسرًا لا عسرًا.

وليس ذلك فقط، بل حتى في مملكة يهوذا حيث الدين الصحيح، كانت الديانة مظهرية فحسب، ولم تصل قَطّ إلى القلب ولا إلى الضمير.  ولقد تحدث إشعياء النبي كثيرًا عن ذلك.  اسمعه يقول للشعب ولقضاته: لِمَاذَا لِي كَثْرَةُ ذَبَائِحِكُمْ؟ - يَقُولُ الرَّبُّ - اتَّخَمْتُ مِنْ مُحْرَقَاتِ كِبَاشٍ وَشَحْمِ مُسَمَّنَاتٍ وَبِدَمِ عُجُولٍ وَخِرْفَانٍ وَتُيُوسٍ مَا أُسَرُّ.  حِينَمَا تَأْتُونَ لِتَظْهَرُوا أَمَامِي مَنْ طَلَبَ هَذَا مِنْ أَيْدِيكُمْ أَنْ تَدُوسُوا دِيَارِي؟ لاَ تَعُودُوا تَأْتُونَ بِتَقْدِمَةٍ بَاطِلَةٍ.  الْبَخُورُ هُوَ مَكْرُهَةٌ لِي.  رَأْسُ الشَّهْرِ وَالسَّبْتُ وَنِدَاءُ الْمَحْفَلِ.  لَسْتُ أُطِيقُ الإِثْمَ وَالاِعْتِكَافَ.  رُؤُوسُ شُهُورِكُمْ وَأَعْيَادُكُمْ بَغَضَتْهَا نَفْسِي.  صَارَتْ عَلَيَّ ثِقْلاً.  مَلِلْتُ حِمْلَهَا.  فَحِينَ تَبْسُطُونَ أَيْدِيكُمْ أَسْتُرُ عَيْنَيَّ عَنْكُمْ وَإِنْ كَثَّرْتُمُ الصَّلاَةَ لاَ أَسْمَعُ.  أَيْدِيكُمْ مَلآنَةٌ دَمًا.  اِغْتَسِلُوا.  تَنَقُّوا.  اعْزِلُوا شَرَّ أَفْعَالِكُمْ مِنْ أَمَامِ عَيْنَيَّ.  كُفُّوا عَنْ فِعْلِ الشَّرِّ.  تَعَلَّمُوا فِعْلَ الْخَيْرِ.  اطْلُبُوا الْحَقَّ.  انْصِفُوا الْمَظْلُومَ.  اقْضُوا لِلْيَتِيمِ.  حَامُوا عَنِ الأَرْمَلَةِ» (إش 1: 11-17).  والمأساة عينها تحدث عنها عاموس، والرب أظهر الامتعاض عينه من طقوسهم الخالية من الحب، وقال لهم: «بَغَضْتُ كَرِهْتُ أَعْيَادَكُمْ وَلَسْتُ أَلْتَذُّ بِـاعْتِكَافَاتِكُمْ.  إِنِّي إِذَا قَدَّمْتُمْ لِي مُحْرَقَاتِكُمْ وَتَقْدِمَاتِكُمْ لاَ أَرْتَضِي وَذَبَائِحَ السَّلاَمَةِ مِنْ مُسَمَّنَاتِكُمْ لاَ أَلْتَفِتُ إِلَيْهَا.  أَبْعِدْ عَنِّي ضَجَّةَ أَغَانِيكَ وَنَغْمَةَ رَبَابِكَ لاَ أَسْمَعُ.  وَلْيَجْرِ الْحَقُّ كَالْمِيَاهِ وَالْبِرُّ كَنَهْرٍ دَائِمٍ» (عا 5: 21-24).

الدين في أيام المسيح

استمر الحال على هذا المنوال حتى جاء يوحنا المعمدان، آخر أنبياء العهد القديم، والسابق للمسيح مباشرة.  وكان الفساد الأدبي والاجتماعي الذي تحدّث عنه ملاخي في آخر أسفار العهد القديم، قد بلغ أشده في زمان المعمدان.  ولذلك فكم تحدث نبي التوبة بكل صرامة على هذه الديانة المظهرية الخالية من التقوى الحقيقية.  وأعلن لليهود أن هذه الصور الزائفة لا تخدع أحدًا إلا صاحبها ومن على شاكلته.  وقال بكل وضوح إن الغضب الإلهي يتهدّدهم، رغمًا عن تنوع مظاهر التدين، بل ورغمًا عن امتيازاتهم الدينية، إذ قال: «لا تفتكروا أن تقولوا في أنفسكم لنا إبراهيم أبًا، لأني أقول لكم إن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولادًا لإبراهيم» (مت 3: 9). 

ثم جاء المسيح.  ولقد كان المسيح مملوءًا لا من النعمة وحدها بل النعمة والحق أيضًا.  كما كان هو النور الذي كشف كل الزيف الذي ميَّز تلك الديانة المظهرية الخالية من التقوى ومحبة الرب.  ولقد أعلن المسيح أنه هو «الحجر الذي رفضه البناؤون»، والبنّاؤون هم رجال الدين.  وبكل يقين كان رجال الدين يسرّهم أن يكون المسيح بشخصيته القوية، وبتعاليمه السامية، وبمعجزاته المبهرة جزءًا من نظامهم، ولكن المسيح حاشا له أن يكون جزءًا من نظام متهرئ وفاسد، أتت نهايته.  فلو لم يكن هذا النظام فاسدًا، ولو كان هناك أي أمل في صلاح ينتج من الإنسان، ما الذي جعل ابن الله يأتي من السماء؟  ولأن المسيح أعلن بكل شجاعة عدم جدوى هذا النظام المرائي، ولأنه كشف زيف أولئك المتدينين، لذلك فإنهم رفضوه وفي النهاية قتلوه. 

نحن لا ننسى يوم كان في الهيكل يعلِّم، وأتى إليه الفريسيون بامرأة أُمسكت في ذات الفعل، وسألوه سؤالاً، دل على مقدار ريائهم وكبريائهم، إذ قالوا له: «موسى أوصانا أن مثل هذه ترجم، فماذا تقول أنت؟»  وما أروع إجابته التي لم تبكهم فحسب، بل جعلتهم يهربون من نوره المبهر الذي كشفت فساد قلبهم، عندما قال لهم: «من كان منكم بلا خطية فليرمها أولاً بحجر» (يو 8: 7).  وفي مرة أخرى قال لهم: «لدينونة أتيت أنا إلى هذا العالم، حتى يبصر الذين لا يبصرون ويعمى الذين يبصرون.  فسمع هذا الذين كانوا معه من الفريسيين وقالوا له: أ لعلنا نحن أيضًا عميان.  فقال لهم يسوع: لو كنتم عميانًا لما كانت لكم خطية، ولكن الآن تقولون إننا نبصر، فخطيتكم باقية» (يو 9: 39-41).

وأما الصليب فإنه عرّى الإنسان تمامًا، وكشف عمق فساده وشرّه.  ومن قصة الصليب نعرف أن الذي أصرّ على صلب المسيح لم يكن هيرودس الشرير، ولا بيلاطس الأغلف، بل رجال الدين أصحاب القداسة الوهمية الزائفة، لكن الله أعلم بحقيقة فساد قلوبهم.  لقد استحضر هؤلاء الأفاضل شهود زور، متمسكين بمظهر الناموس، وذلك ليدينوا معطي الناموس، ورفضوا أن يدخلوا إلى دار الولاية لئلا يتنجسوا فيأكلون الفصح، وهم مزمعين أن ينجّسوا أرضهم بسفك أزكى دم، دم حمل الله.  هذه هي الديانة في أيام المسيح!

طريق قايين في المسيحية

وبموت المسيح وقيامته وصعوده إلى السماء، حيث أرسل الروح القدس ليسكن في المؤمنين، بدأت المسيحية.  والمسيحية شيء جديد بالتمام، فما عاد الله اليوم يمتحن الإنسان، حيث تبرهن أنه لا صلاح ينتج من الإنسان، ما لم يعمل الله في قلب هذا الإنسان أولاً (أف2: 8-10؛ في 2: 13).  وفي هذا تختلف المسيحية اختلافًا جوهريًا عن الأديان المتنوعة التي في العالم. 

ولقد واجهت المسيحية في البداية العنت والظلم، ليس من العالم السياسي، بل من العالم الديني، سواء كان الديانة الإلهية في ذلك الوقت، أعني بها اليهودية، أو الديانات الشيطانية وأعني بها الوثنية.  إن الاضطهادات الأقسى التي وقعت على الرسول بولس كانت من الوثنيين المتعبدين لأرطاميس في أفسس (أع19)، ومن اليهود المتعبدين لله في أورشليم (أع21)!  وكما حدث من الرائد الأول قايين (أبو الديانة) عندما قام على أخيه هابيل وقتله، هكذا تكرر الأمر مرات ومرات على مدى التاريخ، سواء التاريخ الوضعي أو التاريخ الكتابي على السواء.  ولقد قال المسيح: «يكفي التلميذ أن يكون كمعلمه، والعبد كسيده» (مت 10: 25).  وكما فعل العالم الديني بالمسيح، هكذا فعل مع أتباع المسيح.  فبيلاطس أراد أن يعمل لليهود ما يرضيهم، فصلب رب المجد.  وهيرودس قتل يعقوب أخا يوحنا بالسيف، وإذ رأى أن ذلك يرضي اليهود ألقى القبض على بطرس ناويًا أن يقتله.  وفيلكس أراد أن يودع اليهود منة، فترك بولس مقيدا!  هكذا كانت الديانة، وهكذا ستظل حتى النهاية.

ولكن الشيطان لم يكتفِ بحربه الشرسة ضد المسيحية من الخارج، لم يكتفِ باضطهاد من يحمل اسم المسيح وإنجيله في العالم، بل لقد حاول أيضًا إفساد طابعها من الداخل، فنقرأ في رسالة يهوذا عن أناس دخلوا خلسة، أي دخلوا المسيحية دون أن يولدوا ثانية، وكان قصد الشيطان منهم أن يفسدوا طابع المسيحية النقي، وهم الذين قال عنهم في ع11 من رسالته: «ويل لهم لأنهم سلكوا طريق قايين، وانصبّوا إلى ضلالة بلعام لأجل أجرة، وهلكوا في مشاجرة قورح». 

وطريق قايين في عبارة موجزة - كما نتعلم من تكوين 4 - هو طريق الاقتراب إلى الله بدون الذبيحة، وبغير طريق الدم.  وإنكار طريق الاقتراب إلى الله بالدم يرجع إلى إنكار وراثة الخطية، وفساد الإنسان الكلي، هذا ما كان واضحًا في قايين، وما هو واضح في ديانات العالم.  إن قايين ومن ساروا على دربه أنكروا فساد الإنسان تمامًا وحاجته لمخلِّص من خارجه.  وهكذا الدين يعتبر الإنسان قادرًا على أن يعمل خلاصًا لنفسه بنفسه.  وأما طريق الاعتراف بالعجز الكامل والحاجة إلى ذبيحة تموت بديلاً عن الإنسان، فهو ما نتعلمه من هابيل، ذاك الذي «وإن مات يتكلم بعد». 

والشيطان ليس عنده مانع أن يكون قايين متدينًا، ولا أن العبرانيين أيام موسى يذبحون ويعبدون يهوه في أرض مصر، ولكن دون انفصال، ولا سفر ثلاثة أيام (خر 8: 25-27).  والسفر ثلاثة أيام يعني الموت مع المسيح والقيامة معه.  بكلمات أخرى إن الشيطان لا يمانع في عبادة للمسيح بدون صليبه، فديانة قايين لا ترى أي لزوم لسفك الدم.  وأما المسيحية فهي تعلن بكل وضوح أنه بدون سفك دم لا تحصل مغفرة.

ولكن الكتاب المقدس لا يُختم إلا بالحديث عن قضاء الله الرهيب الذي سيوقعه على النظام الديني متمثلاً في ”بابل“.  فإن كنا فى تكوين10، 11 نجد بداية بابل، فإننا فى رؤيا 17، 18 نجد دينونتها النهائية.  فبعد اختطاف الكنيسة سيكون هناك نظام عالمى ضخم، دينى الطابع، خاطئ المضمون، فاسد المحتوى، يسميه الوحى فى رؤيا 17، 18 «بابل»، هو ما ستؤول إليه حالة العالم الدينى بعد الاختطاف، فتتحقق أمنية البشر القديمة بديانة واحدة لإسعاد العالم وسلامه.

والجدير بالذكر أن مدينة بابل كان اسمها أصلا ”باب إيل“ - بمعنى باب الله، لكن الله قصد أن يعطيها الاسم الذى تستحقه فأسماها ”بابل“ بمعنى تشويش أو بلبلة.  ولقد أعطي لهذا النظام ثلاثة أسماء بحسب سفر الرؤيا، فسمي الزانية العظيمة، وبابل العظيمة، المدينة العظيمة.  فهى روحيًا تدعى الزانية العظيمة نظرًا لخيانتها، ودينيًا هى بابل العظيمة نظرًا لفنونها وضلالها، ومدنيًا هى المدينة العظيمة نظرًا لفخامتها وأبهتها.  وفي أثناء حديث الوحي عنها علينا أن نتنبه جيدًا للتقرير الإلهي بخصوصها: «ثُمَّ سَمِعْتُ صَوْتًا آخَرَ مِنَ السَّمَاءِ قَائِلاً: اخْرُجُوا مِنْهَا يَا شَعْبِي لِئَلاَّ تَشْتَرِكُوا فِي خَطَايَاهَا، وَلِئَلاَّ تَأْخُذُوا مِنْ ضَرَبَاتِهَا.  لأَنَّ خَطَايَاهَا لَحِقَتِ السَّمَاءَ، وَتَذَكَّرَ اللهُ آثَامَهَا» (رؤ 18: 4، 5).

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com