«أقيم لأجل تبريرنا»
(رو 25:4)
(6) القيامة وارتباطها بشفاعة المسيح لأجلنا
«مَنْ هو الذي يدين؟ المسيح هو الذي مات، بل بالحري قام أيضاً، الذي هو أيضاً عن يمين الله، الذي أيضاً يشفع فينا» (رو 34:8)
الشفيع هو الشخص الذي يتبنى قضية شخص آخر ويعمل لأجله وينظر في أمره، بل ويقف بجانبه لكي يساعده ويعضده ويؤازره ويسنده في ورطته.
ولنا في رومية 26:8-34 حق ثمين ومعز للغاية ألا وهو الشفاعة المزدوجة الجارية باستمرار فينا ولأجلنا. ففي عدد 26 لنا شفاعة الروح القدس فينا، وفي عدد 34 لنا شفاعة المسيح لأجلنا (for us).
ففي عدد 26 نقرأ «وكذلك الروح أيضاً يُعين ضعفاتنا، لأننا لسنا نعلم ما نصلي لأجله كما ينبغي. ولكن الروح نفسه يشفع فينا بأنات لا يُنطق بها». هنا نرى شفاعة الروح القدس الساكن فينا لكي يعين ضعفاتنا. وضعفاتنا هنا تعني الضعفات الإنسانية الجسدية وليست الزلات أو النقائص في حياتنا العملية. ولولا مؤازرة روح يسوع المسيح (في 19:1) وبدون القوة والموارد اللامحدودة التي يُؤمّنها الروح القدس لتمكين المؤمن من الصمود مهما كانت الظروف (أف 16:3)، كيف كان يمكننا أن نكمل مسيرة وترحال البرية؟!
وإذا كنا ضعفاء عاجزين على رفع الصلاة أو غير قادرين على رفعها كما ينبغي، لا نعلم كيف نصلي ولا ماذا يجب أن نطلب لأجله. وإذا كان يغمرنا الشعور بالجهل وعدم المعرفة وأيضاً عدم الاستحقاق، فإن الروح القدس، ليس فقط يُعِين ضعفاتنا، ولكنه أيضاً يخلق في النفس أشواقاً أعمق من أن يُعبَّر عنها ولا يمكن أن تُصاغ في لغة البشر ويشفع فينا بأنَّاتٍ لا يُنْطَق بها. هذه الأنَّات هي عمل الروح القدس فينا، وهي صلوات لا يُنْطَق بها، يُنشئها الروح القدس في داخلنا، ويتولى ترجمتها كصلاة صحيحة إلى الله أبينا متوافقة مع مشيئته «لأنه بحسب مشيئة الله يشفع في القديسين» (رو 27:8)، فلا يمكن لهذه الصلوات إلا أن تُسْتَجَاب (مز 9:38، 3:77، 15:34؛ 2أخ 9:16).
ولكن يوجد أكثر من هذا، فليس لنا الروح القدس ساكناً داخلنا وعاملاً فينا فقط، بل لنا أيضاً الرب يسوع المسيح حياً لنا وعاملاً لأجلنا في السماء. «مَنْ هو الذي يدين؟ المسيح هو الذي مات، بل بالحري قام أيضاً، الذي هو أيضاً عن يمين الله، الذي أيضاً يشفع فينا» أو يشفع لأجلنا (for us) (ع 34).
يا لها من تعزية قوية! ويا لها من ذخيرة كاملة! ويا لها من رحمة غنية أن نعلم أنه حتى في أوقات برودنا وفتورنا، وظلامنا وقحطنا، عندما لا نقدر أن نفتح أفواهنا بكلمة، بل عندما نشعر أن قلوبنا باردة وقاسية، لنا بركة عظمى في ذلك الوقت عندما نتذكر ذلك الحق المدعم للنفس؛ أن الروح القدس يئن فينا، وأن المسيح يحمل تلك الأنَّات غير المنطوق بها ويقدمها إلى الآب في قيمة وقبول المسيح الذي قدمها.
وهذه الشفاعة المزدوجة دائمة الحصول بالاستمرار لأجل المؤمنين الحقيقيين الذين لا يزالون على الأرض (1يو 1:2؛ عب 25:7؛ يو 16:14)، ولا يمكن أن تتعطل لحظة واحدة، بل إن أضعف المؤمنين محفوظ أمام الله بقوة هذه الشفاعة المزدوجة: شفاعة الروح القدس فيه وشفاعة المسيح لأجله.
أما بخصوص شفاعة المسيح لأجلنا، فلدينا بعض الملاحظات ننقلها من كتاب "الكهنوت" لطيب الذكر الأخ الفاضل/ عوض سمعان:
الملاحظة الأولى: الغرض من شفاعة المسيح:
- حفظ هؤلاء المؤمنين الحقيقيين -إذا وقعوا في زلة ما- في حالة القبول أمام الله على أساس كفاية كفارته عنهم.
- إيقاظ ضمائرهم بالروح القدس ليتذكروا مقدار ما احتمله -له كل المجد- على الصليب لأجلهم، حتى يشعروا بفداحة خطئهم ويعترفوا به بتذلل أمام الله، تائبين عنه توبة حقيقية.
- إعادتهم بعد ذلك، بواسطة عمل الروح القدس أيضاً في قلوبهم، إلى الشركة مع الله والتي كانوا يتمتعون بها قبل سقوطهم في الزلة المذكورة.
الملاحظة الثانية: كيفية قيام المسيح بالشفاعة:
الشفاعة المُسندة إلى المسيح يُراد بها المحاماة والتعضيد والمؤازرة، وليس التضرع أو الصلاة لله كما يظن البعض. والوحي لم يقل: إذا أٌخِذَ المؤمنون في زلة ما، ينهض المسيح بالشفاعة لأجلهم، بل يقول إن المسيح: «حيٌ في كل حين ليشفع فيهم» (عب 25:7)، الأمر الذي يدل على أن المراد بشفاعة المسيح الآن في السماء، ليس القيام بتقديم توسلات لله من وقت لآخر لأجل هؤلاء المؤمنين كما ذكرنا، بل أن وجوده هناك، في كمال كفارته التي قدمها مرة على الصليب، كفيل بحفظهم في كل حين في مركز القبول الأبدي أمام الله، وكفيل أيضاً برد نفوسهم إليه، بواسطة تأثير الروح القدس والكلمة الإلهية فيها، في أي وقت من الأوقات.
الملاحظة الثالثة: الأسس التي قامت عليها أهلية المسيح للشفاعة:
هذه الأسس هي: كونه «البار» والذي «كفَّر عن خطايانا» (1يو 1:2) والذي «يبقى إلى الأبد» والذي هو «حيٌ في كل حين» (عب 24:7:25). ومن البديهي أن يكون الأمر كذلك، لأنه فضلاً عن أن الشفيع الذي تحظى شفاعته بالقبول لدى الله، هو الذي يستطيع التكفير عن خطايانا تكفيراً تاماً أمامه، يجب أن يكون أيضاً حياً لأجلنا باستمرار، وأن لا تكون للأحداث مهما كان شأنها تأثير على وجوده أو خدمته، حتى يستطيع الاتصال بكل المؤمنين في كل أنحاء العالم، وتقديم المعونة اللازمة لهم جميعاً في وقت واحد، مهما تباعدت بلادهم واختلفت ظروفهم.
كما أن وصف المسيح في هذا المقام بأنه «البار» أو «العادل» يضفي أهمية عظيمة على شفاعته، لأنه لا يبنيها على الاسترحام والاستعطاف، بل على حقوقه الذاتية في بقاء المؤمنين الحقيقيين في مركز القبول أمام الله في كل حين، وذلك على أساس كفارته التي وفَّت كل مطاليب عدالة الله إلى الأبد من جهتهم. وإذا كان كذلك، فهل يستطيع كائن ما غير المسيح أن يأخذ مركز الشفاعة؟!
ونحن نضيف أيضاً أنه في رومية 34:8 حيث الإشارة إلى شفاعة المسيح، المُقام والمُمجَّد الآن في السماء، نرى العدو يشتكي على المؤمنين، ولكن الرب يسوع يشفع لأجلهم على أساس عمله الكفَّاري الكامل، إذ أن «المسيح هو الذي مات، بل بالحري قام أيضاً، الذي هو أيضاً عن يمين الله، الذي أيضاً يشفع فينا».
أيها الأحباء .. إن كاهننا العظيم موجود الآن في الأعالي، مُقام ومُمجَّد، وهو «المشهود له بأنه حيٌّ» والذي له «قوة حياة لا تزول» إذ هو «حيٌّ في كل حين ..» وهو الذي طمأن قلب يوحنا تلميذه الضعيف الساقط قائلاً له: «لا تخف» ويا لها من كلمة تبدد الخوف وتأتي بالطمأنينة والسلام «أنا هو الأول والآخر، والحي وكنت ميتاً، وها أنا حيٌّ إلى أبد الآبدين .. ولي مفاتيح الهاوية والموت» (رؤ 18:1) ولأنه حيٌّ إلى أبد الآبدين، ولأن شفاعته لا تنقطع البتة، فإنه يشفع لأجل شعبه كل حينٍ، ومن أجل ذلك يُعِينهم في كل تجربة يجتازونها في هذا العالم المضطرب .. إنه حيٌّ إلى الأبد .. وإن حقيقة كونه حياً إلى الأبد تضمن مرورنا بسلام من كل تجارب الطريق وصعابها، وتضمن خلاصنا الأكيد من كل تجربة على طول الخط وإلى نهاية الزمان «فمِن ثم يقدر أن يُخلِّص أيضاً إلى التمام الذين يتقدمون به إلى الله، إذ هو حيٌّ في كل حين ليشفع فيهم» (عب 25:7)
(يتبع)