عدد رقم 5 لسنة 2004
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
عكسة   من سلسلة: شابات الكتاب المقدس

عكسة فتاة تلمع بسيرتها العطرة في سفرين من أسفار الوحي المقدس في العهد القديم، هما سفرا يشوع والقضاة.  ورغم التباين الكامل بين السفرين، فسفر يشوع بالإجمال يميزه القوة، بينما سفر القضاة يميزه الضعف، في سفر يشوع نرى امتلاك الشعب للأرض، وفي سفر القضاة نرى فشلهم في الاحتفاظ بالقليل الذي امتلكوه، في سفر يشوع نجد الأمانة والاجتهاد، وفي سفر القضاة نجد الخيانة والارتداد، إلا أن قصة هذه الفتاة وردت في هذين السفرين دون أي تغيير، بل وردت بالألفاظ عينها، تقريبًا كلمة بكلمة.  وليس لدينا من تفسير لذلك سوى سرور الله بتلك الفتاة، ورضاه عن سلوكها التقوي، وتصرفاتها النبيلة.

تنتسب عكسة إلى عائلة إيمان عظيم.  ويحدثنا الوحي المقدس عن ثلاث شخصيات في هذه العائلة، كل منهم له سيرة لامعة ومنيرة، تمثل أحد الجوانب الهامة للعلاقة مع الله، كما سنرى فيما بعد. هؤلاء الثلاثة هم: كالب بن يفنة الأب، وعكسة ابنته، وعثنيئيل ابن أخيه الذي صار زوجًا لعكسة.  أو بكلمات أخرى: الفتاة «عكسة» وأبوها ورجلها.

ومن الجميل قبل أن نبدأ التأمل في نواحي الجمال في سيرة عكسة أن نلقي نظرة على الخلفية التقوية التي نشأت فيها وتربت، فهي كما ذكرنا ابنة لكالب.  وكالب هذا كان رئيس بيت يهوذا، وأحد الجواسيس الاثني عشر الذين أرسلهم موسى والشعب إلى أرض الموعد ليتجسسوا الأرض (عد13: 2،6).  وبينما عاد عشرة من الجواسيس وأشاعوا مذمة الأرض، وأذابوا قلب الشعب، بل وتمردوا على الرب وعلى موسى، فإن كالب بن يفنة ويشوع بن نون وحدهما كان معهما روح مختلفة (عد13؛14).  لقد كان عندهما الإيمان المطلق بالله الذي وعد بإعطاء الأرض للشعب.  وعليه فقد أصبح كالب هذا واحدًا من اثنين من كل الشعب الذي خرج من أرض مصر تحت قيادة موسى، سر بهما الله بسبب إيمانهما، وأدخلهما الأرض؛ حيث إنه بدون إيمان لا يمكن إرضاء الله (عب11: 6).  لقد امتلكا الإيمان الذي بوسعه أن يمتلك الأرض.  وبينما مات كل الجيل الخارج من مصر، إذ بأكثرهم لم يسر الله، بل طرحت جثثهم في القفر (1كو10: 5)، فإن كالب ويشوع دخلا الأرض، نظرًا لإيمانهما.

وعن كالب هذا ترد عبارة جميلة تكررت ست مرات في أسفار الوحي: أنه «اتبع الرب إلهه تمامًا» (عد14: 24؛ 32: 12؛ تث1: 36؛ يش14: 8،9،14).  قالها عنه الرب أولاً، ثم بعد نحو ثماني وثلاثين سنة قالها عنه موسى، ثم بعد نحو سبع سنين أخرى قالها هو عن نفسه، وأخيرًا سجلها الوحي المقدس عنه.

ما أجمل طاقة الإيمان هذه التي ميزت كالب خلال كل رحلة البرية التي أظهرت الكثير من عدم إيمان بني إسرائيل.  فعلى مدى خمس وأربعين سنة اتبع الرب إلهه تمامًا.  إنه يعيد على ذاكرتنا ما قيل عن أخنوخ، في عالم ما قبل الطوفان: «وسار أخنوخ مع الله»، وذلك لمدة ثلاث مئة سنة!  كما أن هذه العبارة التي قيلت عن كالب في العهد القديم، تذكرنا بما قاله الرسول بولس عن تيموثاوس في العهد الجديد: «أما أنت فقد تبعت» (2تي: 10:3).  وإن كنا نرى في يشوع وخطابه لشيوخ الشعب، صورة لبولس في خطابه لشيوخ كنيسة أفسس، فإننا في كالب واتباعه تمامًا، نرى صورة لتيموثاوس الذي تتبع تعليم الرسول وسيرته وقصده وأناته ومحبته.

لقد قال كالب ليشوع:

«أَنْتَ تَعْلَمُ الْكَلاَمَ الَّذِي كَلَّمَ بِهِ الرَّبُّ مُوسَى رَجُلَ اللَّهِ مِنْ جِهَتِي وَمِنْ جِهَتِكَ فِي قَادِشِ بَرْنِيعَ.  كُنْتُ ابْنَ أَرْبَعِينَ سَنَةً حِينَ أَرْسَلَنِي مُوسَى عَبْدُ الرَّبِّ مِنْ قَادِشِ بَرْنِيعَ لأَتَجَسَّسَ الأَرْضَ.  فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ بِكَلاَمٍ عَمَّا فِي قَلْبِي.  وَأَمَّا إِخْوَتِيَ الَّذِينَ صَعِدُوا مَعِي فَأَذَابُوا قَلْبَ الشَّعْبِ.  وَأَمَّا أَنَا فَاتَّبَعْتُ تَمَاماً الرَّبَّ إِلَهِي.  فَحَلَفَ مُوسَى فِي ذَلِكَ \لْيَوْمِ قَائِلاً: إِنَّ الأَرْضَ الَّتِي وَطِئَتْهَا رِجْلُكَ لَكَ تَكُونُ نَصِيباً وَلأَوْلاَدِكَ إِلَى الأَبَدِ، لأَنَّكَ اتَّبَعْتَ الرَّبَّ إِلَهِي تَمَاماً. وَالآنَ فَهَا قَدِ اسْتَحْيَانِيَ الرَّبُّ كَمَا تَكَلَّمَ هَذِهِ الْخَمْسَ وَالأَرْبَعِينَ سَنَةً، مِنْ حِينَ كَلَّمَ \لرَّبُّ مُوسَى بِهَذَا الْكَلاَمِ حِينَ سَارَ إِسْرَائِيلُ فِي الْقَفْرِ.  وَالآنَ فَهَا أَنَا الْيَوْمَ ابْنُ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً.  فَلَمْ أَزَلِ الْيَوْمَ مُتَشَدِّداً كَمَا فِي يَوْمَ أَرْسَلَنِي مُوسَى.  كَمَا كَانَتْ قُوَّتِي حِينَئِذٍ هَكَذَا قُوَّتِي الآنَ لِلْحَرْبِ وَلِلْخُرُوجِ وَلِلدُّخُولِ.  فَالآنَ أَعْطِنِي هَذَا الْجَبَلَ الَّذِي تَكَلَّمَ عَنْهُ الرَّبُّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ.  لأَنَّكَ أَنْتَ سَمِعْتَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَنَّ الْعَنَاقِيِّينَ هُنَاكَ، وَالْمُدُنُ عَظِيمَةٌ مُحَصَّنَةٌ. لَعَلَّ الرَّبَّ مَعِي فَأَطْرُدَهُمْ كَمَا تَكَلَّمَ الرَّبُّ» (يش14: 6-12).

ونحن نُعجب بكالب هذا الذي ظل لمدة خمس وأربعين سنة، مُتمسكًا بالوعد، منتظرًا تحقيقه.  لقد كانت عطية الأرض التي أعطاها الرب للشعب هي في نظر كالب دليل سرور الرب بشعبه ورضاه عليهم (عدد14: 7،8).  وهذا الإيمان الذي عاش في قلب كالب، وهذا التمسك بالوعد، وهذه النظرة الراقية لأرض عمانوئيل، هذا كله انطبع وبشدة في مخيلة ابنته عكسة، التي ولدت -بلا شك- في البرية، وقبل الدخول إلى الأرض، وترسخ في عقلها الباطن منذ نعومة أظفارها.

لقد شاهد كالب كيف مات كل الجيل الذي خرج معه من مصر، وأما هو فعاش، ولقد اشترك كالب في العديد من الحروب لامتلاك كنعان تحت قيادة يشوع بن نون، وحفظ الرب حياته. هذا كله أعطاه القناعة أنه ليس صدفة وليس بدون غرض عند الله بقي حيًا إلى تلك العمر المتقدمة، بل لقد أبقاه الرب لكي يتمم وعده معه.  وهب أن العمالقة في الأرض، لكن الأرض قد وعده الرب بها، وهو حتمًا سيأخذها.  لا يهمه أن أولئك الجبابرة في الأرض، فهي أرضه، وهو متمسك كل التمسك بعطية الله الغالية له.

وعليه فإننا في كالب نرى صورة للذين بالإيمان والأناة يرثون المواعيد (عب6: 12).  وسر قوته (يش14: 11) ليس أنه كان ينتظر تحقيق وعد الرب له فقط، بل أنه كان ينتظر الرب نفسه، فهكذا قال الرب على فم عبده إشعياء:

«أما منتظرو الرب فيجددون قوة، يرفعون أجنحة كالنسور» (إش40: 31).

لقد طالب كالب القائد يشوع بمدينة حبرون.  ومدينة حبرون هذه هي مدينة الذكريات العطرة للآباء: فيسجل الوحي أن فيها بنى إبراهيم مذبحًا للرب، وهناك نصب خيمته، وفيها زار الرب إبراهيم، وقَبِل ضيافته في تلك الخيمة.  ولو كنا ممَنْ يقدسون الآثار، لاعتبرنا تلك الخيمة البسيطة أعظم كل الآثار القديمة على الإطلاق، فهي المرة الوحيدة بحسب ما نعلم من الكتاب المقدس، التي فيها يأكل الرب في العهد القديم عند إنسان على الأرض.  وفي هذه الزيارة التاريخية جدَّد الرب الوعد لإبراهيم بمولد إسحاق، وحدَّد موعده (تك13: 18؛ 18: 1).

ولم يكن الوصول إلى مدينة حبرون هذه سهلاً، حيث أنها مبنية على جبل، لكن كالب قال ليشوع: «أعطني هذا الجبل الذي تكلَّم عنه الرب في ذلك اليوم».  ما أعجبها من صورة لشيخ متقدِّم في الأيام، ناهز الخامسة والثمانين من عمره، وهو يطالب بنصيبه في أرض كنعان.  لا في سهل بل في جبل، وهو يتحدث لا عن امتلاك الجبل فحسب، بل عن حربه لكي يطرد الأعداء منه.  ولقد كانت المدينة كما عبَّر كالب نفسه «مُحصَّنة» (يش14: 12)، بل كان الرجل الأعظم في العناقيين، المُسمَّى «أربع»، يسكن تلك المدينة.  وليس سوى رجل الإيمان والشجاعة والإقدام هو الذي يقدر على منازعة العناقيين، واغتنام القرية من رجلهم الأعظم.

نعمًا لك يا كالب يا رجل الإيمان العظيم، فعنك انطبقت كلمات الرسول عن الأبطال: «الذين بالإيمان .. نالوا مواعيد» (عب11: 33).  إن العمر المُتقدِّم لم يعقك عن المعركة، والجبابرة في الأرض لم يرعبوك، ولا العمالقة أفزعوك.

والمعنى الروحي الذي يحتاج شباب هذه الأيام تعلمه من شيخ تلك الأيام الخوالي، هو أنه لكي نتمتع بالشركة مع الرب حقًا (كمعنى اسم حبرون) يجب أولاً عزل الرجل الأعظم من مكانه.  فطالما ظل «أربع» هذا متربعًا، وله السيادة، وطالما ظل الإنسان العتيق المتكبر متسلطًا على الكيان، لن تكون حبرون أبدًا لنا، ولن نتمتع قط بالشركة مع الله.  وعزل «أربع» من على كرسيه ليس أمرًا سهلاً يقوم به الذين يفتكرون في الأرضيات، بل أولئك الذين يقدِّرون أمور الله، والذين ينتظرون الرب؛ ليس أولئك المُرفَّهون، بل الذين يقمعون أجسادهم ويستعبدونها، والذين بالروح يميتون أعمال الجسد.

ولقد وردت تلك القصة في كلٍ من سفر يشوع وسفر القضاة، بالألفاظ ذاتها تقريبًا، لأنه سواء في أيام القوة في الكنيسة الأولى، التي نرى صورتها في سفر يشوع، أو أيام الخراب والفشل الآن، التي نرى صورتها في سفر القضاة، فإن الإيمان له المشجعات عينها. 

وهناك اختلاف وحيد بين القصتين له مدلوله الجميل.  فالنصرة التي أحرزها كالب على أعدائه، بحسب سفر يشوع، تنسب في سفر القضاة لسبط يهوذا.  هذا هو طابع سفر القضاة، أن رجلاً واحدًا يعمل لأجل السبط، أو الشعب.  وهو عينه طابع أيامنا الحاضرة، فشخص واحد يكون بركة لكنيسة الله.  وكل واحد منا الآن، شيخًا كان أم شابًا، رجلاً كان أم امرأة، يمكن أن يكون هذا الشخص، ممكن أن يكون سبب تشجيع لشعب الرب، وحافزًا قويًا لإخوته.

وبعد أن امتلك كالب حبرون، فقد واصل الصعود من هناك إلى سكان دبير، كما واصل الامتلاك.  ومن الجميل أن نلاحظ أن الكتاب لا يسجل لكالب هذا هزيمة على الإطلاق.  إنه ينطلق من نصرة إلى نصرة، ومن امتلاك إلى امتلاك.  وهو في هذا يعطينا صورة للغالبين بحسب رؤيا 2؛ 3، الذين لهم المواعيد العظمى من الرب يسوع الغالب الأعظم.

وأما عن قصة النصرة على دبير هذه، وكيف امتلكها كالب، فسوف نتوقف عنده بمشيئة الرب في العدد القادم. 

 (يتبع) 

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com