تمهيد
الإنسان كائن اجتماعي. وطبيعة حياته تحتّم عليه أن يتعامل مع الآخرين بشكل مُستمر. وللتعامل أشكال مختلفة، وصور متعدِّدة، ومراحل متطوِّرة. ومن الحتمي أن ينتج من التعامل تصادم أو تخاصم بين الأفراد والجماعات، فيختبر الإنسان عندئذ مواقف صعبة على المستوى الشخصي والعائلي، وأيضًا النفسي والروحي. وفي معظم الأحيان يكون السبب هو أن البعض يقولون كلمات جارحة أو يفعلون أشياء مؤذية، ويرجع ذلك إلى الأسلوب وطريقة التفكير، والتي تختلف باختلاف الأشخاص. وهذه المواقف تقود إلى حالة من عدم الراحة وعدم الرضا.
إلا أنه مهما كانت المسبّبات، ومهما كانت الأعذار، ومهما كانت نسبة الخطإ، يجب على الإنسان أن يتعلَّم فضيلة الغفران أو المسامحة، حتى يتسنَّى لنا التجاوز عن أخطاء الماضي، والمضي قُدمًا نحو مستقبل يخلو من الكراهية والمرارة والضغينة، فمثل هذه المشاعر تؤثر بعنف على حياة الإنسان. هناك مقولة مشهورة متعارف عليها في الأوساط الطبية تقول: ”إن الناس يُصابون بالقرحة ليس مِمَّا يأكلون، بل مِمَّا يأكلهم“.
وكلمة الغفران، في اللغة اليونانية، هي لفظ قانوني يعني ”الإطلاق من قيد قانوني“ أو ”الإبراء من ذنب أو التزام أو عقوبة“، ويعني أن تُرسل الإنسان حرًّا. وكان يُستخدم كثيرًا في العهد القديم في سنة اليوبيل أو عام الإبراء (تث15: 2). وهو يُستخدم أيضًا في إطلاق المسبيِّين والعبيد (إش61: 1؛ لو4: 18).
صعوبات الغفران
الغفران صعب لأن الإنسان بطبيعته يميل إلى الانتقام. وإن لم يتمكّن من ذلك بشكل مباشر لسببٍ ما، فإنّه ينتقم منه في الخفاء (سواء بالتحريض، أو التشهير، أو الادِّعاء، أو النميمة، أو الافتراء،...). وحتى إنْ سامح الإنسان، فإنّه يستصعِّب العودة في التعامل مع المُسيء إليه بنفس سهولة الماضي. وذلك لأكثر من سبب، منها:
- الكبرياء: الشعور بضرورة استرداد الكرامة. رغم أنَّ مَن يسامح يعلم أنَّ التسامح يزيد من كرامة الإنسان ويُعلي شأنه، وليس العكس.
- عقدة الشعور بالذنب: من لم يختبر فرح مغفرة الله له، لا يستطيع أن يعيش المغفرة مع ذاته، ولا مع الآخرين.
- عدم تجاوب الآخرين: كثيرًا ما لا يتجاوب الشخص الآخر مع مشاعر الصفح، ولا يرتفع (لا يقدر أو لا يريد) إلى مستوى الغفران.
- انتقاد الآخرين: كثيرًا ما يتعرَّض المتسامح إلى نقد المحيطين به، لأن قانون الناس هو: ”ردّ الإساءة بالإساءة، اظهر القوّة“، ويعتبرون أنَّ المتسامح هو شخص جبان، أو ضعيف، أو منعدم الكرامة، ...“.
لذا نطرح السؤال:
كيف يمكن تخطي هذه الصعوبات؟
وكيف نصل إلى الغفران؟
الإنسان الطبيعي لا يعرف أن يصفح ويغفر، على الرغم من شعوره العميق بالاحتياج لهذا! فغاندي يقول ”إن عشنا بحسب شريعة العين بالعين والسنّ بالسنّ، فسوف يصبح العالم كلّه أعمى بسبب الظلم الذي يوقعه الإنسان بأخيه الإنسان“! ومع هذا يقول برنارد شو: ”الغفران هو حياة العاجز الذي لا يستطيع أن يردّ الإساءة بالإساءة“!
لذا يظهر الاحتياج بشدة لمعجزة الولادة الثانية، تلك المعجزة التي يجريها الله في الإنسان التائب والراجع إلى الله. إن قبول المسيح مخلِّصا شخصيًا يجعل الإنسان خليقة جديدة، ويعطيه المقدرة على أن يقتدي بمخلصه. ناظرين إلى رئيس الإيمان ومُكمِّله ربنا يسوع المسيح، فالمسيح هو المثال الأعظم للغفران، وقصة التجسد في سُداها ولحمتها هي قصة الصفح والغفران. تخيلوا معي كم الإهانات التي لحقت بالله علي مر العصور من الإنسان، الذي قيل عنه: «كُلَّ تَصَوُّرِ أَفْكَارِ قَلْبِهِ إِنَّمَا هُوَ شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ» (تك6: 5)، فالفكر والقلب والأعمال، كل شيء في الإنسان يجلب الإهانة على الله. وكم يزداد الأمر صعوبة عندما تصدر مثل هذه الإهانة والاحتقار من خلائق ضعيفة حقيرة إلى من هو أعظم ما في الكون، أن تصدر من الإنسان ”الدودة والحقير“؛ «الإنسان الرمّة وابن آدم الدود» (أي25: 6). إلى الله كلي القدرة والمجد!! ومع كل ضآلة الإنسان فهو يُمعن ويزداد كل يوم في احتقاره لله وتتزايد منه كمّ الإهانات له. ولو كان الله مثلنا، أي حينما تلحق به الأهانة يغضب وينتقم، فستكون النتيجة الحتميه أن غضب الله ستصحبة النقمة والقضاء. ولكن على الرغم من غضب الله كما يعلنه الكتاب: «غَضَبَ اللهِ مُعْلَنٌ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى جَمِيعِ فُجُورِ النَّاسِ وَإِثْمِهِمِ، الَّذِينَ يَحْجِزُونَ الْحَقَّ بِالإِثْمِ» (رو1: 18). نجد رد الفعل جاء مصحوبًا بالصفح والغفران والرحمة. فما أسهل على لله أن يبيد الإنسان ويلاشيه. ولكن علي نقيض ما نتوقعه تمامًا، «إذ كنا بالطبيعة ابناء الغضب كالباقين أيضا، الله الذي هو غني في الرحمة، من أجل محبته الكثيرة التي أحبنا بها، ونحن أموات بالخطايا، أحيانا مع المسيح» (أف2: 3-5).
إن الله أرسل ابنه إلي العالم لا ليدين العالم - وإن كان يستحق الدينونة بجدارة - ولكن الله أرسله ليخلّص العالم ويغفر لهم خطاياهم! أرسله ليس وهو ممتلئًا بالغضب والكراهية بسبب إهانة الإنسان واحتقاره له ولشرائعه، ولكن أرسله وهو ممتلئ نعمة ورحمة ومحبة. إذًا فعملية التجسد هي ترجمة لقلب الله المحب المملوء بالغفران.
والآن دعنا نرى كيف ظهر ذلك في شخص المسيح المتجسِّد والمعبِّر عن قلب الله:
أولاً: المسيح علَّمنا تعاليم سامية عن الغفران والتسامح
يعوزنا الوقت لو سردنا كل ما دوِّن في الأناجيل من تعاليم عن الصفح والغفران، فالمسيح وحده هو الذي وضع بذرة التسامح في فكر الإنسان. فمنذ العصور القديمة المظلمة والمبدأ المتَّبع هو الانتقام. هذا تفكير فطري في غريزة الإنسان ابتدعه منذ أن سقط في الخطية، حيث سلك مُنقادًا لغرائزه وأهوائه دفاعًا عن نفسه. ولقد جاء المسيح ليكون تجسيدًا للمحبة، والتسامح هو ثمرة المحبة. علَّم المسيح بأن لا نقاوم الشر بالشر، فالشر يجلب شرًّا، والحقد يولِّد حقدًا، والاعتداء والانتقام يقابله اعتداء وانتقام. أمَّا التسامح - كما علَّم المسيح - فهو يكسر شوكة العدوان في قلوب الأعداء ويحوِّلهم إلى أصدقاء. وسوف أذكر بعضًا من تعاليم المسيح دون شرح، فهي صريحة ولا تحتاج لشرح أو إيضاح:
- «لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا» (مت5: 39). وهذا لا يعني خنوعًا وضعفًا وجبنًا، بل بالعكس فتحويل الخد الآخر يحتاج إلى قدرة وقوة وشجاعة أكثر جدًّا من ردِّ اللطمة!
- «إِنْ غَفَرْتُمْ لِلنَّاسِ زَلاَّتِهِمْ، يَغْفِرْ لَكُمْ أَيْضًا أَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ. وَإِنْ لَمْ تَغْفِرُوا لِلنَّاسِ زَلاَّتِهِمْ، لاَ يَغْفِرْ لَكُمْ أَبُوكُمْ أَيْضًا زَلاَّتِكُمْ» (متى6: 14،15).
- «فَإِنْ قَدَّمْتَ قُرْبَانَكَ إِلَى الْمَذْبَحِ، وَهُنَاكَ تَذَكَّرْتَ أَنَّ لأَخِيكَ شَيْئًا عَلَيْكَ، فَاتْرُكْ هُنَاكَ قُرْبَانَكَ قُدَّامَ الْمَذْبَحِ وَاذْهَبْ أَوَّلاً اصْطَلِحْ مَعَ أَخِيكَ وَحِينَئِذٍ تَعَالَ وَقَدِّمْ قُرْبَانَكَ» (مت5: 23، 24).
- عندما سأله بطرس: «كَمْ مَرَّةً يُخْطِئُ إِلَيَّ أَخِي وَأَنَا أَغْفِرُ لَهُ؟ هَلْ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ؟ قَالَ لَهُ يَسُوعُ: لاَ أَقُولُ لَكَ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ بَلْ إِلَى سَبْعِينَ مَرَّةً سَبْعَ مَرَّاتٍ» (مت18: 21، 22). كان رقم سبعة الذي ذكره بطرس رقمًا رمزيَّا، وكان هذا الرقم بالنسبة لليهودي في ذلك الزمان رقمًا مقدَّسًا يرمز إلى الكمال.
ثانيًا: حياة المسيح العمليَّة كانت تعكس الغفران
دعونا نتتبَّع الرب في حياته هنا علي الأرض، لقد لحق به كمّ هائل من الإهانة والاحتقار في كل حياته: «مُحْتَقَرٌ وَمَخْذُولٌ مِنَ النَّاسِ، رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ الْحُزْنِ» (إش53: 3)، فأكثر مِن مرَّة حيكت مؤامرات ضده، وأكثر مِن مرَّة حاولوا قتله، بل ونرى كمّ التطاول عليه والتمادي في احتقاره بالأقوال، ناهيك عن الأفعال (قيل عنه إنه: ابن النجار، ومن الناصرة التى لا يخرج منها شيءٌ صالح، محب للعشارين والخطاة). ولكننا لا نقرأ عنه مطلقًا أنه غضب أو شعر بمرارة وسخط تُجاه أعدائه، ولكن علي العكس تمامًا: «الَّذِي إِذْ شُتِمَ لَمْ يَكُنْ يَشْتِمُ عِوَضًا، وَإِذْ تَأَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُهَدِّدُ، بَلْ كَانَ يُسَلِّمُ لِمَنْ يَقْضِي بِعَدْلٍ» (1بط2: 23). ولذلك قال عنه بطرس إنَّ الله تركه لنا مثالاً (1بط2: 21).
ثالثًا: قصة قرية السامريين
وهي قصة تُعطينا النقيضين تمامًا، الإنسان بطبيعته الراغبة في الانتقام - حتى لو كان رسولاً - والمسيح بطبيعته المتسامحة الغافرة الصافحة: «وَأَرْسَلَ أَمَامَ وَجْهِهِ رُسُلاً، فَذَهَبُوا وَدَخَلُوا قَرْيَةً لِلسَّامِرِيِّينَ حَتَّى يُعِدُّوا لَهُ. فَلَمْ يَقْبَلُوهُ لأَنَّ وَجْهَهُ كَانَ مُتَّجِهًا نَحْوَ أُورُشَلِيمَ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ تِلْمِيذَاهُ يَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا، قَالاَ: يَا رَبُّ أَ تُرِيدُ أَنْ نَقُولَ أَنْ تَنْزِلَ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَتُفْنِيَهُمْ كَمَا فَعَلَ إِيلِيَّا أَيْضًا؟ فَالْتَفَتَ وَانْتَهَرَهُمَا وَقَالَ: لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مِنْ أَيِّ رُوحٍ أَنْتُمَا! لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُهْلِكَ أَنْفُسَ النَّاسِ بَلْ لِيُخَلِّصَ» (لو9: 52-56).
رابعًا: نهاية حياته توَّجت ما علَّم به
محبة العدو هي قمَّة جوهر تعاليم المسيح في عظته على الجبل. لم يُعلّم أحد قبل المسيح، أو بعده، بمحبة كهذه. وحتى اليوم يصعب فهمها وتطبيقها. فالمسيح وحده هو الذي أظهر محبة للعدو في أعظم صورة، وهو معلَّق على الصليب، مسحوق ومشدود بين السماء والأرض. وسط الآلام والمعاناة، والموت يحوم حوله، وسط صرخات الاستهزاء والسباب والحقد، وسط الظلمة التي غلَّفت الأرض، إذ علا صوته، وقد احتوت نظراته الجماهير الملتفَّة حول الصليب.. لقد رآهم وقد تلوَّنوا بلون الدم الأحمر الذي يملأ مُقلتيه. رآهم وقد خفق قلبه عطفًا عليهم.. لم يرَهم سفَّاحين؛ سافكي دماء، اجتمعوا وأجمعوا على قتله، بل رآهم خرافًا ضالة لا راعي لها. رأى جماعة مسكينة مخدوعة مُساقة إلى مصير رهيب لا تعرفه. وهكذا تخرج كلماته من عمق قلبه الذي يقطر حبًّا: «يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ»!!
ارتفع صوت المسيح في رجاء وتشفُّع يدعو الآب في السماء. غطَّى صوته، رغم ضعفه، كل أصوات الشماتة والاستهزاء والعداء والتعدي.. احتوى صوته المتشفِّع كل الجموع تحت الصليب، وكل الجموع الضالة مثيلتها في الماضي والمستقبل.. ارتفع صوته للآب يلتمس معذرة ويتلمَّس عذرًا في عدم علمهم، وقد سمع الآب في السماء، والله وحده يعلم أي تيار جارف من الغضب الإلهي صدَّته هذه الصلاة؟!
ولكن دعونا نتأمَّل عميقًا في هذه الصلاة فهي ”مدرسة“، تُعلِّمنا أسلوب الغفران. فأساس المقدرة على الصفح ليست المشاعر بل العقل والإرادة. الصفح هو قرار العقل بالتخلُّص من الغضب والكراهيّة والاستياء. ثم تأتي المشاعر التي يجب السيطرة عليها لحظة الغفران أو المسامحة. وفي هذه الصلاة ظهرت الطرق الثلاثة بكل وضوح: طريق ”العقل“ وطريق ”القلب“ وطريق ”الروح“.
- العقل: طريق العقل يعمل على محاولة فصل الفِعل عن الفاعل. عندئذ، حتى لو كان الفعل مُهينًا، فمن قام بفعله ربَّما في عدم نضج أو في لحظة ضعف، ومن ثم فهو يحتاج إلى الغفران. عندما نظر المسيح إلى الجنود الرومان، ومن خلفهم كل الجموع والكتبة والفريسسيين والحكام، نظر إليهم ليس كشرذمة من القتلة وخلفهم جماعة من المنافقين والمتآمرين، بل نظر إليهم جميعًا بصفتهم بشر في حالة ضَعف وعدم معرفة، وهم يحتاجون الى محبتة ومعونتة لا لنقمته!
إذًا لكي تُصبح عملية الفصل هذه ممكنة؛ أي فصل الفِعل عن الفاعل، يجب تفهُّم الفاعل، أن نقوم بجهد لفهم الفاعل قبل أن نحكم عليه، فقد يكون بحاجة إلى شفقتنا أكثر من حاجته إلى نقمتنا. قال أحد القدِّيسين: ”إن لم تستطع أن تعذر الفِعل، فحاول أن تتلمَّس العذر للفاعل“. وحتَّى عندما نقف على الحقيقة، أي ما وراء الفِعل، يبقى الصفح أفضل من الاكتفاء بمعرفة الحق.
- القلب: عليه أن يسير في اتجاهين، الاتجاه الأول ”داخلي“، فمن جهة قلب المسيح فهو مملوء بالمحبة ولا يعرف الكراهية مطلقًا. ولكن القلب البشري في لحظة الغفران، عليه أن يواجه مشاعر الكراهية التي فيه. فمشاعر الكراهية تلوّث النفس من الداخل وتنعكس على جميع تصرفاته. والاتجاه الثاني ”خارجي“، يخصّ الشخص الذي أهاننا، فنحن عندما نرفض أن نغفر لغيرنا، نُنقص من إنسانيتنا ونؤذي أنفسنا.
- الروح: الطريق الثالث والأهم والأكثر نجاحًا هو طريق الروح، أي طريق الصلاة - وإن كانت الصلاة في حالة المسيح تختلف في دوافعها، ولكنها تظل مثالاً لنا - فمن لا يستطيع أن يصفح ويتحمّل الإساءة، يحتاج إلى قوّة تسنده، وهذه القوّة لا يمنحها إلاَّ الله. لقد عرفنا أن حبّ الانتقام يسكن الإنسان بطبيعته، بينما المقدرة على المغفرة أمرٌ منوط بما هو فائق الطبيعة. من هنا الله وحده هو الذي يغفر وهو الذي يمنحنا القوّة لنغفر.
وإذا سرنا قُدمًا في قصة الصليب سنجد قصة رائعة تَجسَّد فيها الصفح والغفران في أجمل صورة. لقد تطاول اللص عليه في البداية مع زميله معيِّرًا ومجدِّفًا، منساقًا مع الجماهير الصاخبة يسخر من المسيح ويقول: «إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمَسِيحَ، فَخَلِّصْ نَفْسَكَ وَإِيَّانَا!» (لو23: 39). ومن الواضح أن هذه الإهانات التي وجَّهها للمسيح استمرت لعدة ساعات. ولكن في صحوة ضمير غير متوقَّعة، وفي آخر لحظة من لحظات حياته، قال بندم وانكسار وتوبة: «ﭐذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ». ويصمت الرجل، وهو ينتظر وقد استدار بكل كيانه نحو المسيح. واتجه المسيح بقلبه نحو الرجل التائب الذي اعترف به ربًّا وملكًا، وقال له: «ﭐلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ»!
خامسًا: غفرانه لأحبائه
قد يقول قائل إن الغفران للأحباء موضوع سهل ولا يحتاج إلى تحريض، فالغفران للأعداء هو الصعب. ولكني أعتقد أنَّ الغفران للأحباء في كثير من الأحيان يتطلَّب قدرة روحية كبيرة. فالصديق أو المُحب هو آخر من نتوقَّع منه الطعنات والإهانات. وحينما يحدث هذا يكون الغفران شيئًا عسيرًا.
والمسيح بعد حادثة إنكار بطرس له، نظر إليه، ليس نظرة اللائِم المُعاتِب ولكنها نظرة المُحب المُتعاطف، الذي يرثى للضعف، ويصفح عن الإساءة، تلك النظرة التي جعلت بطرس يبكي بكاءً مرًّا. ولم يكتفِ المسيح بذلك فقط، بل لكي يرد له شركته وثقته بنفسه، ظهر له مرتين بعد القيامة: مره منفردًا (1كو15: 5)، ومرة مع التلاميذ على بحيرة طبرية (يو21).
ولا ننسى أنه حينما سيظهر في المجد وسيعرفه شعبه الأرضي، ونسمع التساؤل العجيب: «مَا هَذِهِ الجُرُوحُ فِي يَدَيْكَ؟ فَيَقُولُ: هِيَ التِي جُرِحْتُ بِهَا فِي بَيْتِ أَحِبَّائِي» (زك13: 6).
يا ليت جميع الأزواج في البيوت المسيحية، يتعلَّمون درس الغفران والمسامحة بعضهم لبعض. فالغفران ركنٌ أساسي من أركان الحياة المسيحية. فما يُميِّز الإنسان المسيحي هو مقدرته على الغفران. وعندما يفعل المؤمن ذلك، فإنه يُصبح خير شاهدٍ لله. وبدون هذه الميزة تبقى مختلف التعبّدات الخارجية (الصوم والصلاة والسجود وكسر الخبز...) مجرّد أعمال خارجية نختفي خلفها، لكنها لا تُقرّبنا من الله بأي شكل من الأشكال إذ أننا لم نتعلم كيف نقترب من الآخرين.
نعلم جميعًا خطورة التمسُّك بالإساءة ورفض الغفران. نعلم أنه خطير أن نحتوى خصامًا بداخلنا. فالتأثير حتمًا سيرتد ويرجع علينا بفعل عكسي، ليس روحيًّا وحسب بل وجسديًّا أيضًا. إنَّ عدم الغفران هو من الأسباب الرئيسية التي تجعل كثير من شعب الله لا يختبرون القوة في حياتهم الروحية. هذا لأنهم ببساطة لا يغفرون، لا يدعون الإساءة تمر. يختارون أن يتمسَّكوا بعدم الغفران. إنَّهم يريدون تغيير في حياتهم، يريدون أن يختبروا مشيئة الله الكاملة، لكنهم غير مستعدين أن يغفروا. لا يريدون أن يسلكوا بالمحبة، من أجل ذلك يظلوا كما هم أطفال، بلا أي تقدم روحي!!
هل أنت مستعد أن تسمح، لِما قاله شخص فى حقك، أو ما فعله أحد ضدك، أو ما ظلمك به الآخرون، أن يحرمك من أن تختبر أفضل ما لدى الله لحياتك؟ شخصيًّا أنا لست مستعدًا لذلك. لا يستحق الأمر ذلك. يتطلب الأمر قرارًا. كل شخص أنت متخاصم معه سيحدد مصيرك إن لم تغفر له.
لا شيء يُعلِن بوضوح أنَّك اخترت أن تتجاهل وصية السلوك بالمحبة أكثر من رفضك للغفران. وإن رفضت أن تسلك بالمحبة، فعندئذٍ أنت ترفض أن تُعطى الله ما لديك، وبذلك لا تتوقَّع أن تنال أفضل ما لدى الله لحياتك، إن كنت غير مستعد أن تعطيه أفضل ما لديك.
«مُلاَحِظِينَ لِئَلاَّ يَخِيبَ أَحَدٌ مِنْ نِعْمَةِ اللهِ. لِئَلاَّ يَطْلُعَ أَصْلُ مَرَارَةٍ وَيَصْنَعَ انْزِعَاجًا، فَيَتَنَجَّسَ بِهِ كَثِيرُونَ» (عب12: 15). لنختبر علاقاتنا البشريَّة اليومية ونضعها على المحك، لنعرف ”غثها من سمينها“. تارة نستهتر بالوصية الكبرى ونخالفها، وأخرى نلجأ إلى النزاعات والخصومات. وكذا بدل أن نُدْمِل جروحنا نتركها تنزف حتى النهاية.
* * * *
كان هناك صديقان يمشيان في الصحراء، وفي أثناء سيرهما تجادل الصديقان، واحتدَّ النقاش، حتَّى ضرب أحدهما الآخر على وجه. فلم ينطق الرجل الذي لُطم على وجهه بكلمة رغم تألُّمه، غير أنَّه كتب على الرمال: ”اليوم أعز أصدقائي ضربني على وجهي“. ثمَّ تابع الصديقان سيرهما إلى أن وجدا واحة، فقرَّرا أن يستحمَّا، إلاَّ أنَّ الرجل الذي ضُرب على وجهه عَلِقت قدمه في الرمال المتحرِّكة وابتدأ في الغرق، ولكن صديقه هرع إليه في آخر لحظة وأمسكه وأنقذه من الغرق، وبعد أن نجا من الموت، قام وكتب على قطعة من الصخر: ”اليوم أعز أصدقائي أنقذ حياتي“.
وهنا سأل الصديق الذي ضرب صديقه وأنقذه من الموت: ”لماذا في المرة الأولى عندما ضربتك كتبت على الرمال، والآن عندما أنقذت حياتك كتبت علىالصخر؟“، فأجاب صديقه: ”عندما يؤذينا أحد علينا أن نكتب ما فعله على الرمال، حيث رياح التسامح يُمكنها أن تُمحوها، ولكن عندما يصنع أحد معنا معروفًا، فعلينا أن نكتب ما فعله معنا على الصخر، حيث لا يمكن لأي شيء أن يمحوها“!!
إخوتي الأحبَّاء.. لنتعلَّم أن نكتب آلامنا على الرمال وأن ننحت المعروف على الصخر، والرب يعطى لنا طاقة روحية على أساسها تكون لنا روح التسامح وغفران الإساءة، فنعرف كيف نعامل بعضًا بعضًا، مستمعين إلى نصيحة الرسول: «كُونُوا لُطَفَاءَ بَعْضُكُمْ نَحْوَ بَعْضٍ، شَفُوقِينَ مُتَسَامِحِينَ كَمَا سَامَحَكُمُ اللهُ أَيْضًا فِي الْمَسِيحِ» (أف4: 32). وفي كل مرة نشعر بالإساءة، نُردِّد ما علَّمه السيد: «وَﭐغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا، كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أَيْضًا لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا» (مت6: 12).