كأنما قد لمس وترًا حساسًا في نفسي حين كلفني أخي الحبيب الدكتور ماهر بالكتابة في موضوع ”قبول الآخر“؛ فأنا فعلاً مهموم بهذه القضية. وأعتقد أننا نفتقد بشدة هذه الفضيلة الغائبة ”قبول الآخر“، أيًّا كان هذا الآخر المختلف عنا في الفكر أو العقيدة أو التوجُّه. بل أكاد أقول إننا نفتقد قبول بعضنا البعض متى اختلفت آراؤنا وتوجهاتنا!!
إذا أردنا أن نرجع إلى الأصل في هذا الموضوع - أو في أي موضوع آخر - فلمن نذهب إلا إليه؟ إلى المسيح العظيم؛ معلِّمنا ومثالنا في كل شيء.
فماذا علَّمنا المسيح في هذا الأمر؟
تلمع أمامي وبشدة هذه الحادثة، حين جاء إليه يوحنا - التلميذ الحبيب - وقال «يا معلم، رأينا واحدًا يخرج الشياطين باسمك فمنعناه، لأنه ليس يتبع معنا» (لو 9: 49).
قبلها كان التلاميذ قد فشلوا في إخراج الشيطان الذي كان يصرع وحيد الرجل الذي استقبل المسيح صارخًا عند نزوله من جبل التجلي، لكنهم حين وجدوا شخصًا يخرج الشياطين باسم المسيح منعوه من ذلك! لماذا؟ «لأنه ليس يتبع معنا»! إنه ليس من جماعتنا، غريب عن طائفتنا، لغته ومفردات كلماته مغايرة لما ألفناه!
ألا نفعل نحن كثيرًا مثلهم؟! لا نقبل الآخر لأنه «ليس يتبع معنا»، لأنه مختلف عنا، حتى لو كانت له نفس أهدافنا!
لكن ما كان أعجب إجابة السيد: «لا تمنعوه؛ لأن من ليس علينا فهو معنا» (لو 9: 50).
إنه يعطينا المثل في قبول الآخر!
ثم ماذا كانت التهمة التي وُجهت إلى السيد؟
«إنه يقبل خطاة ويأكل معهم»، وأنه «محب للعشارين والخطاة». وهو من جانبه قد رحَّب بالاتهام، ولم يَنفِهِ، بل أكَّده بقوله: «لأن ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب ويخلِّص ما قد هلك» (لو 19: 10).
فريقان على طرفي النقيض تمامًا:
المسيح.. والعشارون والخطاة
كلي القداسة والنبل.. وجماعة من السارقين والمرتشين والخطاة
لكن المسيح كان يقبلهم، ويقبل أن يأكل معهم!
جماعة أخرى، هي جماعة الفريسيين، الذين في أكثر من مناسبة وجَّه إليهم أشد الكلمات إيلامًا وأقسى الويلات، موبِّخًا رياءهم؛ لكن المسيح كان أيضًا يقبلهم، بل ولم يرفض لأحدهم دعوة إلى وليمة أو غذاء. لماذا؟ لأنه لم يكن يصدر أحكامًا مُسبقة على الناس، كما نفعل نحن كثيرًا.
إنه يقبل الإنسان لكونه إنسانًا، كيفما كانت حاله، وهو يرى فيه دائمًا إمكانية التغيير. إنه يراه بعيني الله، الآب الحنون، الذي ينتظر ببالغ الشوق عودة ابنه الضال، ليضمّه إلى حضنه، ويقبله فرحًا.
آه يا سيدي، كم نحتاج أن نتعلم منك كيف نقبل الآخر!
ليتنا نختبر أنفسنا في هذا الأمر.. مثلاً:
- إذا صلى شخص في الاجتماع صلاة تختلف عن ما تعودناه، أو بتعبيرات غير مألوفة لدينا، أو تحتوي على أخطاء كتابية، أو تدل على عدم النضج؛ هل ننظر إليه شذرًا، ونستاء منه وننتقده ولو في داخلنا؟ أم إننا نقبله، ونشجِّعه ونرى فيه إمكانية أن ينمو وأن يتغير؟
- إذا حضرت إلى الاجتماع فتاة، أو سيدة، في ثياب عالمية لافتة للأنظار؛ هل نتجنبها ونبتعد عنها، أم نرحِّب بها ونشجِّعها وندرك أنها تحتاج إلى حضور الاجتماعات أكثر مما نحتاج نحن؟
- إذا أبدى شخص رأيًا، أو قال ملحوظة لا تتفق مع ما أرى أو أعتقد؛ هل أفكر في ما قال محاولاً تفهّم وجهة نظره، أم أُبادر إلى التصدي له ومهاجمة أفكاره؟
- إذا دُعيت إلى الاشتراك في مجموعة عمل أو خدمة، تخدم هدفًا نبيلاً، لكن المجموعة تحوي أفرادًا من اتجاهات مختلفة؛ هل أعتذر أم أشارك؟
- هل أصلي لأجل الخدمة والخدام في مختلف الجماعات والطوائف، أم إن صلاتي عادة ما تكون محصورة في دائرتي المحدودة؟
وهكذا، من الممكن أن نطرح عشرات الأسئلة لنعرف مدى قبولنا للآخرين.
قريبًا سيجتمع شمل المؤمنين جميعًا في السماء، فلماذا لا نقبل بعضنا على الأرض!
لكن السؤال المهم هو:
لماذا نحن أحيانًا لا نقبل الآخر؟
- لأننا لا نعرف الآخر، أو إننا لا نعرفه كما ينبغي
ونحن لا نعرفه غالبًا لأننا لا نريد، نجهله عن قصد وتعمّد؛ فليست لدينا الرغبة ولا الطاقة لكي نقترب ونعرف. ولأننا لا نعرف الآخر فإننا نرسم له في أذهاننا صورة قد تكون مغايرة تمامًا للحقيقة. فالفراغ الناشئ عن عدم المعرفة تملؤه الأوهام، ونبني للآخر تصوّرًا وظنونًا تصنع منه شبحًا نرفضه وننفر منه. ونحن نحتاج أن نقترب من الآخرين برغبة صادقة في المعرفة والفهم، ثم في التفهم للمبررات التي يبنون عليها توجّهاتهم، نحتاج أن نضع أنفسنا مكان الآخرين لنفهمهم ولنلتمس لهم المعاذير أحيانًا.
- لأننا نعتقد أننا على صواب دائمًا، والآخر على خطإ على طول الخط
لكني لو علمت أن آرائي التي أعتقد أنها صائبة تحتمل الخطأ أو سوء الفهم في بعض المواقع؛ وإن آراء الآخر، وإن كنت أراها خاطئة، فقد تحتمل الصواب في بعض نواحيها، إذًا لأمكنني قبول الآخر أو على الأقل فهمه.
ولكي لا يساء فهم ما أقصد، فأنا هنا لا أتحدث عن أمور جوهرية أو حقائق خطيرة، لكن عن تفاصيل وأشياء تحتمل الألوان الوسط بين الأبيض والأسود.
نحتاج أن نتعود على وجود الرأي والرأي الآخر، وإن الحقيقة أحيانًا تحتمل أكثر من وجه واحد.
- لأننا نُنّصب أنفسنا قضاة على الآخرين
فندينهم ونُصدر في حقِّهم أحكامًا نهائية واجبة النفاذ. نُقيم لهم محاكمات، نحن فيها نمثل الإدعاء والقضاة في آن معًا!!
وفي هذا يقول الرسول بولس: «ومن هو ضعيف في الإيمان فاقبلوه، لا لمحاكمة الأفكار. واحد يؤمن أن يأكل كل شيء، وأما الضعيف فيأكل بقولاً. لا يزدرِ من يأكل بمن لا يأكل. ولا يَدِن من لا يأكل من يأكل. لأن الله قَبِلَهُ. من أنت الذي تدين عبد غيرك؟ هو لمولاه يثبت أو يسقط. ولكنه سيثبت لأن الله قادر أن يثبته» (رو 14: 1- 4).
- لأننا لا نرى في الآخر إمكانية أن يتغير
نحن نصدر بحق الآخر أحكامًا سابقة التجهيز، ولا ندرك أنه من الممكن أن يتغير، وأننا حين نقبله، فإنه في الإمكان أن يتغير، وأن يُربح للمسيح ولنا أيضًا. وهذا هو السبب الذي لأجله كان المسيح يقبل الخطاة والعشارين، وأيضًا الفريسيين. لقد كان يرى فيهم ما يمكن أن تفعل نعمته، وما يمكن أن يفعل قبوله لهم.
وهكذا قَبِِل المرأة الخاطئة التي جاءت إليه في بيت سمعان الفريسي، في حين رفضها سمعان وتكلم في نفسه قائلاً: «لو كان هذا نبيًا لَعَلِم من هذه الامرأة التي تلمسه وما هي! إنها خاطئة» (لو 7: 39).
والمرأة التي أحضروها إليه وقد أُمسكت وهي تزني في ذات الفعل، حين وجدت نفسها وحيدة في محضره، بعد أن انسحب جميع المشتكون عليها، لم يطردها، ولم يزجرها، ولم يدنها؛ بل قال لها «ولا أنا أدينك. اذهبي ولا تخطئي أيضًا» (يو 8: 11). لقد رأى فيها إمكانية أن تتغير وأن تصبح بنعمته قديسة ولا تخطئ.
- لنقص في محبتنا للآخر
لكي نقبل الآخر علينا أن نحترمه وأيضًا أن نحبّه. لقد قَبل المسيح الخطاة لأنه أحبهم، وحين نحب الآخرين فإننا نقبلهم. وفي أصحاح المحبة العظيم (1كو13)، يعلِّمنا الرسول بولس إن المحبة «تتأنى وترفق... ولا تنتفخ، ولا تقبِّح، ولا تطلب ما لنفسها، ولا تحتَدّ، ولا تظن السوء... وتحتمل كل شيء، وتصدّق كل شيء، وترجو كل شيء، وتصبر على كل شيء» (ع 4-7).
- لأننا نخاف أن نتأثر بأفكاره أو توجّهاته
لكن هناك فارقًا بين قبول الآخر وبين أن أكون شريكًا له، خاصة فيما لا يتفق أو لا يليق. فالكتاب نهانا عن أن نكون تحت نير مع غير المؤمنين (2كو6: 14)، وحذّرنا بأن «المعاشرات الردية تفسد الأخلاق الجيدة» (1كو15: 33)، وقال لنا أيضًا «لا تشتركوا في أعمال الظلمة غير المثمرة بل بالحري وبِّخوها» (أف5: 11).
على أن المبالغة في الانغلاق، كأننا نخاف من أي ريح تهب، تأتي بنتائج عكسية، إلا إذا كنا أطفالاً مضطربين ومحمولين بكل ريح تعليم، وإلا إذا كنا غير ثابتين في الحق، وغير متأصلين ومبنيين وموطَّدين في الإيمان.
- لأننا ننغلق على أنفسنا ونتمحور حول ذواتنا
لا نريد أن نسمع إلا أصواتنا مكرَّرة، ولا أن نرى إلا صورتنا منسوخة مئات المرات. إننا نرى في الآخرين ما هم مختلفون فيه عنا، ولا نلقي بالاً إلى الأرضية المشتركة التي تجمعنا بهم، وما يمكن أن نلتقي فيه معهم، فنحرم أنفسنا من الكثير.
وأخيرًا..
فإننا ربما اعتقدنا أننا نستطيع أن نكتفي بأنفسنا ونستغنى عن الآخرين؛ لكن هذا غير صحيح، فنحن نحتاج بعضنا البعض، ونكمِّل بعضنا البعض، وهناك أشخاص ومناطق في الحياة وفي الخدمة لا نستطيع أن نصل إليها إلا بالتعاون مع الآخر.
خلاصة القول
إننا إذا أردنا أن نتغير في هذا الأمر - قبول الآخر - كما في أي أمر آخر، علينا أن نطيل النظر إلى المسيح، أن نتأمله ونطيل الجلوس إليه والاعتشار به، فنتشبع من فكره وعواطفه.. نتغير إلى تلك الصورة عينها.
ثم لنحاول الاقتراب من الآخر؛ لنفهمه ونحترمه ونحبه. ولنعطي مساحة كافية للاختلاف في الرأي، ومساحة كافية لاختلاف الخلفيات والثقافات. لنتخلى عن ذاتيتنا، لتتسع آفاقنا وعقولنا وقلوبنا للآخرين؛ فنصلي من أجلهم ونحبهم كما أحبهم المسيح.