كنت - ذات مرة - جالسًا في حجرة المعيشة أقرأ كتابًا، وفي نفس الوقت أرقب ولديَّ بسعادة وهما يلعبان معًا بمجموعة من السيارات، ينسجان بها قصصًا من وحي الخيال، ويحدثان بها أصعب الحوادث، لكن دون وقوع خسائر أوإصابات! كانت السيارات كلها تقريبًا من النوع الصغير، باستثناء واحدة منهم كانت كبيرة ومتميّزة. وكان الأصغر وقتها لم يكمل بعد عامه الثالث. وبعد فترة من اللعب رأيت الأكبر يربت على كتف أخيه ويتودَّد إليه بلغته الخاصة الجميلة قائلاً له ما معناه: ”يا حبيبي أنت لعبت وقتًا طويلاً بالسيارة الكبيرة، أعطني إياها بعضًا من الوقت“.
أجاب الصغير بحسم: ”لا، لن أعطيك إياها“.
قال الأكبر: ”يا حبيبي.. الرب يسوع علَّمنا في الكتاب المقدس أننا ينبغي أن نتشارك في كل شيء!“
قال الأصغر بثقة شديدة: ”الرب يسوع قال في الكتاب المقدس أنا آخذ الجيدة وأنت تأخذ الرديئة“!!
أصابتني حالة من الذهول، غير مصدقٍّ لما سمعته أذناي. فأعدت عليه ما قاله لكي أتأكد من صحة ما سمعت، فلعلي أكون قد سمعت خطأ، أو أني أسأت التفسير. فإذ به يؤكد لي، بثقة شديدة، أن الكتاب المقدس يقول هذا!!!!!
رُحت في تفكير عميق، أتأمل ما فعلته الخطية في الكيان البشري. كيف أفسدته إلى هذا الحد؟ وكيف تسوده هكذا من البطن؟ نعم، لا حاجة له أن يتعلمها، فهو ينتجها ويصدِّرها! إنها الملكة المالكة فيه منذ لحظة الحَبَل به!
فها أنا أمام قلب بشري خام، لم تدخل عليه بعد التعديلات، قلب طفل لم يتعلم بعد لبس القناع، لم يتعلم بعد كيف يظهر غير ما يُبطن، لذلك ها هو في غشمه يخرج ما بداخله دون تجميلات؛ فإذ بجوهر ما بداخله هو ”الأنا“ حتى النخاع!! كيانه متمركز حول ذاته، محصور فيها بالتمام. يتنكَّر للآخر ولا يعترف بحقوقه.
بل الأسوأ من هذا؛ هو أن هذا الكيان الصغير جدًا، والذي نبت في بيئة حريصة كل الحرص على الحب والعطاء، حريصة كل الحرص على غرس مبدأ ”الآخر وليس أنا“، ها هو قادر، منذ الصغر، ودون أن يعلِّمه أحد هذا، على أن يوظِّف أي سلطة، ولو كانت سلطة الكتاب المقدس، لمصلحة ذاته وإشباع ”الأنا“ فيه!!
تركت عالم الأطفال ورحت أجوب بفكري عالمنا نحن الكبار، فرأيت أن هذه هي حالة قلوبنا بالتمام، مع فارق واحد: أننا، مع الأيام، صرنا نُتقن حرفة الإخفاء، سواء كان باستخدام وتوظيف اللغة أو من خلال بعض السلوكيات.
لقد وُلدنا من بطون أمهاتنا أنانيون، ومضت بنا السنون وكبرنا لتكبر معنا وفينا أنانيتنا. قوينا وتعلمنا وامتلكنا، فإذ بنا نوظف قوتنا وعلمنا وذكاءنا وممتلكاتنا لخدمة ذواتنا! إننا نفكر ونخطط ونعمل، بل ونصلي ونتدين ونتروحن، فقط لخدمة الأنا! نقيم العلاقات مع الآخرين حتى في مجال الخدمة لنعد الوجبات لهذا التنين. فما الناس من حولنا، والذين ننشد العلاقة معهم، سوى ألوان وأصناف من الطعام لهم مذاقات مختلفة يطلبها حضرة التنين، تنين ”الأنا“! معظم أعمالنا لخدمته، وأحلامنا تدور حوله، بل وحتى صلواتنا هي من أجله! إنه رابض سائد في داخلنا، لكننا بارعون في محاولة إخفاء وجوده، أو على الأقل خفض صوته وتجميل صورته. ولذا كثيرًا ما ينجح في الظهور مبتسمًا، حتى وهو منهمك في افتراس فريسته!! يلتهم بشراهة كل ما يجده، لكن بفم صغير وأسنان دقيقة وشفاه جميلة!! وعلى الرغم من حرشفه الضخم الكبير، إلا أنه كثيرًا ما يظهر ناعمًا وأنيقًا!! أما أغرب وأعجب الكل فهو عندما يرتدي ثوب الخادم، ويرتقي المنابر لتنساب من فمه العظات عن أهمية المحبة وإنكار الذات!!
وهنا امتلأ عقلي بأسئلة من هذا القبيل:
لماذا نحن هكذا؟
ما هذا البلاء الذي ابتُلينا به؟
من أين كل هذه الأنانية؟
لماذا كل هذا الدوران المستمر حول الذات من المهد وحتى اللحد؟
لماذا، حتى بعد الولادة الثانية، يستهلك الله كل هذه السنين في معاملاته معنا ليوقف دوراننا حول أنفسنا؟!
ما هو أصل حكاية أنانيتنا التي صارت هي سمة جنسنا وعالمنا؟
وهنا تنبهت إلى ملاحظة، لم تلفت انتباهي من قبل، أن الدراسات العلمية التي تهتم بدراسة الإنسان بصفة عامة، كالدراسات النفسية والاجتماعية والأنثروبولوجية، لم تهتم بدراسة هذه الظاهرة، والتي لا تدانيها ظاهرة آخرى في حجم انتشارها وسيادتها على الجنس البشري! لا توجد دراسة واحدة - على قدر علمي - تبحث عن أسباب الأنانية، وتقترح لها علاجًا!!
وكالعادة هرعت إلى النبع الصافي، النبع الذي لم يخذلني قَطّ في أن يروي عطشي للمعرفة والفهم، هرعت إلى كلمة الله. وكالعادة أيضًا عندما يكون الأمر يختص بالبحث عن أصل الشيء أو بدايته، فلا بد من سفر البدايات، سفر التكوين. وفي هذا السفر جلست من جديد أمام مأساة سقوط الإنسان.
كلنا يعرف مآساة السقوط، لكن أحيانًا يغيب عنا أن المسألة لم تكن ببساطة مجرد عصيان. نعم كان هناك عصيان، لكن لم يكن العصيان في حد ذاته هو غرض الإنسان، بل قد كان وسيلته لتحقيق غرض خطير ومخيف، هو ما يمكنني أن أسميه: ”رفض مركزية الله واختيار مركزية الأنا“!!
انظر كيف حدث العصيان. قال الشيطان للمرأة: «بل الله عالم أنه يوم تأكلان منه، تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر» (تك3: 5)! وعندئذ أخذت المرأة وأكلت وأعطت رجلها أيضًا فأكل! إذًا، فمن الواضح أن الأكل هنا كان بغرض تغيير الكينونة إلى كينونة مشابهة لله!! وبالطبع لم يصل بهما الشطط لأن يرغبا في أن يكونا مشابهين لله في كل شيء، إذ كانا يعلمان أن هذا مستحيل، لكنهما أرادا المشابهة في مسألة انفتاح الأعين ومعرفة الخير والشر. وبالطبع ليس المقصود هنا أعينهما الحرفية. لكن المعنى - على قدر فهمي - هو أنهما أرادا انفتاح أعينهما بمعنى أن يريان هما لنفسيهما ما هو لخيرهما وما هو لشرهما.
أي أنهما بالعصيان كانا يطالبان بالحكم الذاتي والاستقلال التام. كانا يريدان التغيير من كينونة تابعة لله معتمدة عليه، إلى كينونة مستقلة بذاتها تدير نفسها بنفسها. فهي، طالما أنها تعرف خيرها وشرها، فهي قادرة على الحكم الذاتي والاستقلال التام. وقد تجاهلا أن الوحيد، في هذا الوجود، القادر على ”الاستقلال الذاتي“ هو ”ذاتي الوجود“، أي الخالق وليس المخلوق. لقد نسي آدم أنه كائن اعتمادي حتى النخاع! ونظرة واحدة سريعة لجسده كانت كافية لتقدِّم له عشرات البراهين على ذلك. فهو يعتمد في بقائه حيًّا على نسبة أوكسجين معينة لا بد من توافرها في الهواء، وعلى ضغط جوي معين لا بد من وجوده هو تحته، وإلا انفجر جسده! بل وأبسط الكل فإن حياته كلها تقوم على طعام وشراب لا يتوفران له إلا على كوكب الأرض... إلخ.
إذًا يمكننا القول إنه كان أمام آدم اختياران: أن يستمر، أو أن يستقل!
أن يستمر في هذا الوضع المتوسط الذي جُبل عليه، مُقرًّا بمركزية الله وتابعية الأنا. وأقصد بالوضع المتوسط، هو هذا الموقع الذي حدَّده له الله في دائرة الوجود، بأن يكون بين الله والأرض. يخضع لمن فوقه، أي لله، ويسود على ما تحته، أي على كل الأرض. وكان عليه أن يظهر قبوله لهذا الوضع ”التابعي“ من خلال استمرارية طاعته للوصية بأن لا يأكل من شجرة معرفة الخير والشر. وأعتقد أن الله حرّم الأكل منها، بعد أن دعاها بهذا الاسم، لكي يُذَكّْر آدم، بصورة توضيحية، أن الكائن الوحيد في كل الكون الذي يعرف ما هو الخير العام لكل الخليقة وما هو الشر لها، هو الله. وبالتالي على الكل أن يطيعه ويخضع له ويدور حوله. ليس استبدادًا منه، حاشا! لكن لكي تنتظم منظومة الوجود وتنجح وتبقى. فالوجود واسع وكبير؛ فيه الله نفسه الواجب الوجود، وفيه العالم الروحي بقواته ورياساته وسلاطينه وسياداته، وفيه العالم المادي ببلايين مجراته، وفيه أيضًا الأرض بسمائها وبحارها، بنباتاتها وحيواناتاها، وفيه الإنسان الذي يسود على الأرض وما فيها. كل هذه تشكِّل معًا منظومة ضخمة للغاية في حجمها وتعقيداتها وقدراتها، وأيضًا في الغرض من وجودها.
تخيَّل معي لو استقل كل كيان من هذه الكيانات، التي هي بلا حصر، وقرَّر كل منها أن يختار ما يراه خيرًا له هو، وأن يرفض ما يراه شرًا له هو، غير واضع في الاعتبار خير الآخر، أو شر قد يصيبه بسبب هذا الاختيار؟! فهل سيستمر الوجود لحظة واحدة بعد هذا القرار؟
إن المنطق يحتم أنه من المستحيل أن تكون كل هذه المنظومة قد خُلِقَت بهذا النظام المُتقَن عبثًا أو سُدى. والمنطق يحتم أنه، لكي تنسجم هذه المنظومة كلها معًا، وتحقِّق غاية وجودها، وكذلك لكي لا تتصادم أحدها مع الآخر فتنهار جميعها، لا بد من أن يكون لها كلها مركز واحد وحيد يدير حركتها، والكل ينتظم ويدور حوله في خضوع تام. وبالطبع لا يمكن أن يكون هذا المركز سوى الله.
هذا ما يقرّه العقل ويحتّمه المنطق، وهو ما كان مطلوبًا من آدم الاعتراف به، ليس بصورة شفوية، كأن يحفظ شعارًا يردده كل صباح(!)، كلا، بل بصورة عملية بأن يمرّ كل يوم بجوار تلك الشجرة دون أن يأكل منها، إقرارًا منه بمركزية الله وتابعية الأنا. ولم يقبل الله أن يفرض هذا على آدم فرضًا، بأن يجعله حتمية تحتمها عليه طبيعته أو جيناته، لأنه لم يخلق ”روبوت“ بل خلق كائنًا حرًّا كريمًا؛ لذا جعل مسألة اختيار التبعية لله كالمركز اختيارًا حرًا يختاره آدم بمطلق عقله الواعي وإرادته الحرة.
لكن، للأسف الشديد، رفض آدم الاستمرار في هذا الوضع، واختار الاختيار الثاني ألا وهو الاستقلال!
حماقة الاستقلال
إذا نظرنا بتدقيق للخليقة من حولنا، باحثين عن سِمة مشتركة بين كل مجموعة من الكائنات، فإننا حتما سنجد الكثير. لكن إن بحثنا عن سمة واحدة عامة تشمل الجميع: الجماد والأحياء، الفلك والذرات، ما في الأرض وما في السماوات؛ فإننا لا نجد أروع من هذه السمة المشتركة بين الجميع، والتي أعتبرها بصمة الخالق وتوقيعه على كل أعماله، وأسميها: ”الجوهر المركز“. وأقصد بهذا التعبير: وجود كيان جوهري مركزي، تدور حوله، وتتبعه، كيانات أخرى، لكل منها كيانه الخاص ووظيفته الخاصة. إلا أن أداء كل كيان من هذه الكيانات لوظيفته، بل واستمرارية وجوده، يعتمدان، بشكل مطلق، على التبعية المطلقة للجوهر المركز، بل وعلى الاحتفاظ بالبقاء في الموقع المحدَّد له بدقة، بُعدًا أو قُربًا من المركز.
انظر إلى أكبر ما نعرفه، أو إلى أصغر ما نعرفه؛ ستجد هذا واضحًا. فنحن لا نعرف أكبر من المجرَّات، ولا نعرف أصغر من الذرات. وإذا تأمّلت المجرة، والتي قد يصل طولها إلى عشرات الآلاف من السنين الضوئية، أو إذا تأملت الذرات والتي تُقاس بالنانوميتر، فإنك ستجد الجوهر المركز، وحوله بمسافات محدَّدة بدقة، توابعه.
انظر إلى داخل مجرّتنا، وتأمل - على سبيل المثال - مجموعتنا الشمسية؛ لماذا تسمّت بـ”الشمسية“؟ لأن الشمس – ببساطة - هي المركز، وحولها في مدارات مُحكَمة تدور الكواكب، لا يقدر أي كوكب أن يكون هو المركز، بل ولا حتى على ترك موقعه أو تغيير مداره، هذا إذا أراد البقاء وعدم الموت!
وإذا تركنا المجرة ونظرنا للذرة؛ نجد هناك النواة، وحولها في مدارات محددة، الإلكترونات، تدور في فلكها وتتبعها.
وإذا تركنا الجماد وذهبنا للكائنات الحية، نبات أو حيوان أو الإنسان، فإن وحدة بناء جسمه الأساسية هي الخلية. وهذه أيضًا أعظم أعجوبة موجودة على الأرض، كما يقرِّر العلماء، إذ على الرغم من صغرها المتناهي بحيث أن طول مليون منها، متراصين جنبًا إلى جنب، لا يصل لثلاثة سنتيمترات! ويحتوي جسد الإنسان البالغ، على مائة بليون منها! فإن كل خلية من المائة بليون تحتوي في داخلها على مولِّدات للطاقة، وأجهزة مواصلات واتصالات، وأجهزة للدفاع، وأجهزة للتخلص من البقايا، بالإضافة إلى أجهزة لتخزين وحفظ المعلومات تصل في كفاءتها لحد أن شريط الـDNA في خلية الأميبا، يمكنه أن يخزن ويحتفظ بالمعلومات الموجودة في كل دوائر المعارف الموجودة في كل الدنيا! هذا المصنع الرهيب، من يحكمه ويحميه ويجعله يؤدي وظيفته ويستمر في بقائه؟ إنها النواة التي تقبع في مركزه!
هذه السمة المشتركة في كل الخليقة؛ أي وجود الجوهر المركز وحوله توابع تعتمد عليه في أداء وظيفتها بل وفي وجودها نفسه، هي من وجهة نظري، توقيع الخالق المبدع على لوحته. ومن خلاله يوصل لنا رسالة أعمق، فحواها أن كل ما يحتويه الكون المخلوق من موجودات مادية أو كائنات حية، جسدية أو نفسية أو روحية، ما يُرى وما لا يُرى؛ هي كلها توابع تدور حول جوهر مركز واحد، تعتمد عليه في تحقيق غاية وجودها، بل ومنه تستمد الوجود. هذا الجوهر المركز هو الله. وبالتالي فاختيار الاستقلال عنه ليس سوى اختيار الموت والاضمحلال.
افتراض خيالي
تخيَّل معي، للحظات، أن الأرض نظرت إلى ثِقلها الرهيب واتساعها العظيم، نظرت إلى جوفها الرهيب الذي يموج بالنيران، وإلى قشرتها العجيبة التي تنخفض قليلاً فتحتضن البحار والمحيطات، أو تعلو قليلاً فتكوِّن التلال والجبال! نظرت إلى هذا الغلاف العجيب الذي يغلِّفها، والذي فيه تمرح الطيور وتطير ومنه يتنفس الإنسان. نظرت إلى غاباتها وحيواناتها. نظرت لهذا الكائن العجيب الذي يحيا على ظهرها، ألا وهو الإنسان. بل، فوق الكل، رأت أن الخالق اختصَّها من بين بلايين المجرات، وهي بينهم لا تزيد عن ذرة في بحر من الرمال، اختصها بشرف زيارتها، بل والإقامة عليها في صورة إنسان! رأت الأرض كل هذا، فامتلأت عُجبًا بنفسها وفرحًا بحالها. إلا أن هناك شيئًا ما أفسد عليها فرحتها، ونغَّص عليها عيشتها، ألا وهي تلك التبعية المطلقة للشمس دون فكاك. فقالت في نفسها: لماذا أظل، وأنا بكل هذه الامتيازات، حبيسة هذا المدار، أدور فيه حول الشمس دون أدنى حرية للاستقلال؟ لماذا تحدِّد هي لي موقعي بل وسرعتي؟ أنا أعلم أن الشمس أعظم مني وأكبر، لكن الحياة توجد عليَّ أنا وليس عليها! لماذا أدور أنا حولها ولا تدور هي حولي؟ أو لا داعي أن تدور حولي، لكن على الأقل تطلقني من عقالها وتتركني أستمتع أنا بالدوران حول نفسي. أنا لن أقطع العلاقة بها، لكن ستكون علاقتنا علاقة الكبار المتساوين في كل شيء، وليس علاقة التبعية التي لا تليق بي بعد كل هذه الأمجاد.
تخيل معي أنه صار لها ما أرادت، وأعطتها الشمس حريتها، وأطلقتها لتخرج عن المدار؛ ماذا تتوقع للأرض بعد برهة واحدة من هذا الاستقلال، سوى الموت الزؤام؟
إن كل صور الحياة على الأرض تعتمد بشكل مطلق على التبعية المطلقة للشمس، والدوران حولها في مدار ثابت، دون أدنى استقلال. ولذا ففي لحظة الاستقلال عينها ستختفي من عليها كل صور الحياة.
هذا الذي لا يمكن أن تفعله الأرض، للأسف الشديد، فعله الإنسان. لقد طلب أن يكون كالله، أي طلب أن يكون مَركزًا! ويكفّ عن التبعية لله. وقد صار له ما أراد، ومن يوم استقل عن الله، بدأ رحلة الموت الأبدي، رحلة الدوران حول نفسه. والتاريخ، والواقع من حولنا، يؤكِّدان لنا باستمرار أن الإنسان، في كل مكان وزمان، بدءًا من الطفل الصغير وحتى الشيخ الكبير، لا يكفّ عن الدوران حول نفسه، بل وعن محاولة جعل نفسه مركزًا لكل من، وما، حوله! مطالبًا، سِرًّا أو عَلنًا، بأن يدور الكل حوله! من يومها لم يكف الطفل عن اختيار السيارة الكبيرة لنفسه، وترك الصغيرة لأخيه! من يومها نشأت الأنانية، ودخلت الخطية. لذا لست أبالغ إذا قلت إن الأنانية ليست مجرد خطية، بل هي الخطية نفسها.
الأنانية والناموس
من المعروف أن الناموس لم يُعطَ من الله لكي يعالج الخطية، بل لكي يكشفها ويعريها. وإذا تاملت الوصايا العشر جيدًا، لَتبيَّن لك بوضوح أنها مصمَّمة بدقة لتكشف خطورة تجاهل الله كالمركز، وبشاعة التمركز حول الذات. فإذا أخذنا الناموس في صورته التلخيصية، كما علَّم به المسيح في مرقس12: 29-31، لوجدناه يطالب بأمرين فقط هما: التمركز حول الله والعيشة من أجل الآخر.
«فأَجَابَهُ يَسُوعُ: إِنَّ أَوَّلَ كُلِّ الْوَصَايَا هِيَ: اسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ؛ الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ. وَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ. هذِهِ هِيَ الْوَصِيَّةُ الأُولَى (التمركز حول الله). وَثَانِيَةٌ مِثْلُهَا هِيَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ (العيشة من أجل الآخر). لَيْسَ وَصِيَّةٌ أُخْرَى أَعْظَمَ مِنْ هَاتَيْنِ».
وإذا أخذنا الناموس في نسخته الكاملة، كما علَّم بها موسى في خروج20: 1-17، نجدها تؤكد الفكر نفسه؛ فالوصايا الأربع الأولى خاصة بالله، تؤكِّد على حتمية التمركز حوله. والستة الباقية خاصة بالآخر، وخطورة تجاهل حقوقه؛ كالآتي:
- «أكرم أباك وأمك»، لا تهمل سداد دينك لهما بسبب المشغولية بالذات.
- «لا تقتل»، لا تلغِ وجود الآخر بسبب الرغبة في تعميق وتجذير وجود الذات.
- «لا تزنِ»، لا تستغل جسد الآخر من أجل متعة وقتية للذات.
- «لا تسرق»، لا تعتدِ على ممتلكات الآخر بسبب تفضيل الذات.
- «لا تشهد بالزور»، لا تظلم الآخر من أجل ربح للذات.
- «لا تشتهِ»، لا تنكر، ولو في قلبك، حق الآخر في أن يستمتع بما له، من إجل إشباع الذات.
الأنانية والسرطان
هل تعلم عزيزي القارئ أن السرطان، هذا المرض الخبيث، ما هو إلا استقلال خليه وتمرًّدها على وضع التبعية؟!
إنها مجرد خلية ترفض الخضوع للقواعد الموضوعة لها بخصوص سرعة انقسامها وحدود مكانها! إنها خلية تقرِّر، في لحظة جنون، لم يُعرَف سببه بعد، أن تغيِّر من سرعتها ومكانها. إنها تريد حرّيتها لتحقِّق ذاتها بعيدًا عن القواعد التي تحكم باقي النسيج. تبغي أن تكون المركز! وفعلاً هي تتحول إلى مركز! لكن للأسف الشديد مركز لورم خبيث، يتحتم استئصاله، وإلا سيدمِّر الجسد كله.
هذا ما قاله الله لآدم: «لأنك يوم تأكل منها موتًا تموت» (تك2: 17). أي يوم تختار أن تكون المركز، تحكم على نفسك بأنك قد صرت سرطانًا، لا بد من استئصاله، لكي لا يدمّر كل ما حوله.
وما الجحيم الأبدي سوى استئصال لكل الأورام وإلقائها في مقلب النفايات، لكي يتنقى الوجود، ويأتي الخلود الأبدي.
وإنني أتوجه بالسؤال للساخرين من سلطة الله والرافضين لها، المطالبين بالحرية المطلقة، بل وللرافضين أيضا حق الله في الدينونة بالاستئصال والنفي الأبدي في الجحيم: إذا تسرطنت خلية في جسدكم وأرادت الاستقلال، لماذا لا تعطونها حريتها؟ لماذا لا تعطونها حق اختيار سرعة انقسامها ومكان إقامتها؟ لماذا تنكرون عليها حق تقرير مصيرها؟ لماذا توافقون بالإجماع على أن استقلالها دمار لكل الجسد ولذا يتحتم استئصالها؟ لماذا تنكرون عليها ما تطالبون به لأنفسكم ألا وهو الاستقلال؟ وتحللون لنفوسكم ما تستنكرونه على الله، ألا وهو العلاج بالاستئصال؟
هذا هو أصل الحكاية، حكاية الأنانية؛ فهل من علاج؟
أقول باختصار: إن كان آدم الأول أتى بها، فإن آدم الأخير جاء لينزعها. لكن ليس بدون ثمن باهظ تحمله هو وحده! يقول عنه الرسول في عبرانيين9: 26-28 «وَلكِنَّهُ الآنَ قَدْ أُظْهِرَ مَرَّةً عِنْدَ انْقِضَاءِ الدُّهُورِ، لِيُبْطِلَ الْخَطِيَّةَ بِذَبِيحَةِ نَفْسِهِ. وَكَمَا وُضِعَ لِلنَّاسِ أَنْ يَمُوتُوا مَرَّةً ثُمَّ بَعْدَ ذلِكَ الدَّيْنُونَةُ، هكَذَا الْمَسِيحُ أَيْضًا، بَعْدَمَا قُدِّمَ مَرَّةً لِكَيْ يَحْمِلَ خَطَايَا كَثِيرِينَ، سَيَظْهَرُ ثَانِيَةً بِلاَ خَطِيَّةٍ لِلْخَلاَصِ لِلَّذِينَ يَنْتَظِرُونَهُ».
هذا هو غرض مجيئه الأول أن يبطل الخطية بذبيحة نفسه، يوقف نشاط هذا السرطان، ويستأصل بختانه الإنسان العتيق الذي يدمِّر نفسه، ويخلق إنسانًا جديدًا يتمركز حول الله، ويتجدَّد للمعرفة حسب صورة خالقه في مزيد من الطاعة والإثمار.
وهذا هو غرض مجيئه الثاني ومُلكه، فلا بد أن يجمع الله كل شيء قد استقل، في المسيح، ما في السماوات وما على الأرض؛ ليعود هو المركز لكل منظومة الوجود.
وهذا هو السبب الذي من أجله ينبغي أن يملك المسيح، حتى يضع جميع المتمردين على التبعية، تحت رجليه. وآخر عدو يُبطل هو الموت، فحيث لا استقلال لا يوجد موت.
وهذا هو السبب الذي من أجله سيخضع حتى الابن نفسه، لكي يكون الله الكل في الكل.