عدد رقم 3 لسنة 2008
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
المسيح واحترام الآخر  

إن أعظم وسيلة للتقدم في الحياة الروحية لكل مؤمن، وللتغير من مجد إلى مجد، هي - بدون شك - التأمل والتغذي على حياة ذلك الشخص الفريد المجيد، الذي أجملت فأبدعت العروس في وصفه قائلة: «حَلْقُهُ حَلاَوَةٌ وَكُلُّهُ مُشْتَهَيَاتٌ».  وهذا ما يؤكده الرسول بولس في رسالة كورنثوس الثانية أصحاح 3 إذ يقول: «وَنَحْنُ جَمِيعًا نَاظِرِينَ مَجْدَ الرَّبِّ بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ، كَمَا فِي مِرْآةٍ، نَتَغَيَّرُ إِلَى تِلْكَ الصُّورَةِ عَيْنِهَا، مِنْ مَجْدٍ إِلَى مَجْدٍ، كَمَا مِنَ الرَّبِّ الرُّوحِ».  فقد كان الرب يسوع - بدون أدنى مبالغة - هو الكمال المطلق في كل شيء عندما كان يعيش على الأرض.  والتأمل فيما سجله الوحي عن تعامله وعلاقته بالآخرين فيه أروع الدروس وأعظم الفوائد لكل مؤمن.

في مجال العائلة

في إنجيل لوقا الأصحاح الثاني، يصف لنا الروح القدس مشهدًا رائعًا للرب وهو في الثانية عشرة من عمره «جَالِسًا فِي وَسْطِ الْمُعَلِّمِينَ يَسْمَعُهُمْ وَيَسْأَلُهُمْ».  في هذه السن المبكرة نجده يجلس بكل احترام بين الشيوخ، يسمعهم ويسألهم، على الرغم من كونه الكلي العلم والمعرفة، لكنه كالإنسان الكامل كان يظهر الاحترام للمعلمين.  ومن الواضح أنهم عجزوا عن الإجابة عن بعض التساؤلات فقام هو بالإجابة عنها، دون أي تفاخر أو تعالي، حتى أنهم «بهِتُوا مِنْ فَهْمِهِ وَأَجْوِبَتِهِ».

وعندما جاءت المطوبة مريم مع القديس يوسف ليبحثا عنه ووجداه في الهيكل قالت له أمه - مؤنِّبة - «يَا بُنَيَّ لِمَاذَا فَعَلْتَ بِنَا هَكَذَا؟  هُوَذَا أَبُوكَ وَأَنَا كُنَّا نَطْلُبُكَ مُعَذَّبَيْنِ!».  ففي الحال قام بتصحيح الخطأين اللذين وقعت فيهما المطوبة، دون أن يفقد احترامه وتقديره لها؛ أوضح لها أنهما هما اللذان كان يطلبانه في المكان الخطإ «إذ ظناه بين الرفقة»؛ بينما كان ينبغي لهما أن يعلما أن مكانه الطبيعي هو ”فيما لأبيه“، أي في الهيكل.  وفي إشارته للآب توضيح غير مباشر لحقيقة كون القديس يوسف ليس هو أبيه الحقيقي.  فما أعظم حكمته وهو في هذه السن المبكّرة، إذ بمنتهى اللطف والوداعة ينبّه إلى الخطإ دون أي حدة أو عدم احترام.  بل إن الوحي يسجل أنه بعد ذلك «نزل معهما وجاء إلى الناصرة وكان خاضعًا لهما».  فيا للروعة أن الله المتجسد كلي السلطان والقدرة يكون خاضعًا لوالديه كالإنسان الكامل.

أليس في هذا المشهد البديع درس لكل فتى وفتاة في كيفية إحترام الشيوخ والمعلمين والوالدين.  لقد كان الرب يسوع يعرف أكثر من المعلمين، ومع ذلك لم يتفاخر عليهم أو يحتقرهم.  وكانت أمه مخطئة فقام بتصحيح الخطإ بمنتهى الرفق والوداعة، ثم اتخذ موقفه كالابن البار الخاضع لوالديه.  حقًا ما أبعد الفارق بين هذ المثال الكامل وبين ما نراه اليوم في الكثير من الشباب في علاقتهم مع والديهم ومعلميهم، من عدم احترام بل وجرأة قد تصل إلى الوقاحة.

حتى للخطاة

أيضاٍ في الأصحاح الثامن من إنجيل يوحنا، وبعد أن بدأ الرب يسوع خدمته، نرى مشهدًا آخر رائعًا من مشاهد تعامل الرب مع الإنسان؛ الذي بالرغم من التشوه والحقارة التي أوصلته إليها الخطية، إلا أنها لم تنجح أبدًا في أن تُحَقِره أو تنقص من قدره في نظر السيد القدوس.  لقد ظل الرب يحب الإنسان ويحترمه، ويقدره على الرغم مما فعلت به الخطية من قبح ودمار.

في هذا المشهد نرى الكتبة والفريسيون يقدمون له امرأة أُمسكت في زنا.  ويا لبشاعة ما كانوا يفعلونه، إذ كانوا في الظاهر يظهرون غيرة على الناموس، بينما في الحقيقية كانت هذه المرأة مجرد وسيلة أو أداة في أيديهم يستخدمونها لكي يجربوا الرب.  فسألوه قائلين: «موسى في الناموس أوصانا أن مثل هذه تُرجم.  فماذا تقول أنت؟».  فلم يفقد تقديره لها كإنسانة لها أحاسيس ومشاعر.  فنراه يصمت أمام سؤالهم، وينحني على الأرض ليكتب، وكأنه - على ما أعتقد - يتجنب النظر إلى المرأة التي كانت بالتأكيد كل العيون تنظر إليها بمنتهى الازدراء والتعالي.

لكنهم عندما استمروا يسألونه لم ينقض الناموس، بل أكد لهم أنها ينبغي أن تُرجم، ولكنه وضع شرطًا لِمَن يُنفذ العقوبة وهو أن يكون بلا خطية، فقال لهم: «من كان منكم بلا خطية فليرمها أولاً بحجر».  وهكذا بكلمات قليلة بسيطة، حرّك ضمائرهم فبكتتهم فخرجوا واحدًا فواحدًا مبتدئين من الشيوخ، وبقى هو وحده الذي بلا خطية، والذي له الحق وحده في أن يدينها.  ثم قال لها: «يا امرأة، أين هم أولئك المشتكون عليك؟  أما دانك أحد؟  فقالت: لا أحد يا سيد!  فقال لها يسوع: ولا أنا أدينك.  اذهبي ولا تخطئي أيضًا».

وهنا نرى أن محبته لها وتقديره لمشاعرها لم تجعله يتنازل عن قداسته المطلقة، فقد أعلن عن غفرانه لها الذي هو بالطبع مؤسَّس على عمله الكفاري على الصليب، وكأنه يقول: ”سوف لا أدينك، بل سوف أحتمل أنا عقاب خطيتك“.  لكن في ذات الوقت أكد لها رفضه التام للخطية فقال لها: «اذهبي ولا تخطئي أيضًا».  فما أروعه مثالاً للاتزان الكامل، نحتاج جميعًا أن نحذو حذوة في تعاملنا مع الخطاة، فلا نجعل رفضنا للخطية وكراهيتنا لها تُنسينا إنسانيتهم فنحقِّر من شأنهم.  وفي نفس الوقت لا نجعل تعاطفنا معهم ينسينا أن الله قدوس ويكره الخطية، فنهوّن منها بل وقد نبررها لهم.  لكن الرب يسوع أظهر الاحترام والتقدير للمرأة، وفي ذات الوقت أظهر رفضه التام للخطية والنجاسة.

للمقاومين والأعداء!

أيضًا لم يظهر الرب الاحترام لعائلته، والخطاة الذين جاء ليبحث عنهم فقط، بل حتى مقاوميه الذين رفضوه وتشاوروا عليه لكي يقتلوه، لم يزدرِ بهم أو يحقِّر ويسفٍِّه آرائهم، على الرغم من أنها كانت في كثير من الأحيان تنطق بالسخافة والسطحية.  فعندما جاء إليه الصدوقيون، الذين يقولون ”ليس قيامة“، ليسألوه السؤال السخيف عن السبعة إخوة الذين مات أولهم ولم يترك نسلاً، فأخذها الثاني ثم الثالث، حتى أخذها السبعة ولم يتركوا نسلاً؛ ثم بعد ذلك ماتت المرأة أيضًا.  ثم أخيرًا جاءوا بسؤالهم العجيب وكأنهم أوقعوا الرب له كل المجد في مأزق: «فَفِي الْقِيَامَةِ لِمَنْ مِنَ السَّبْعَةِ تَكُونُ زَوْجَةً؟  فَإِنَّهَا كَانَتْ لِلْجَمِيعِ» (مت22: 18)، فما أغربه وأسخفه افتراض!

لكن على الرغم من ذلك لم يسخر منهم السيد أو يزدري بهم، بل فى طول أناة ووداعة أجابهم موبخًا اياهم على عدم معرفتهم الكتب ولا قوة الله، ثم أجاب على سؤالهم كاشفًا لنا عن الطبيعة السماوية التي يكون عليها القديسون في السماوات «لاَ يُزَوِّجُونَ وَلاَ يَتَزَوَّجُونَ بَلْ يَكُونُونَ كَمَلاَئِكَةِ اللَّهِ فِي السَّمَاءِ».  ثم بعد ذلك أقنعهم من التوراة التي يؤمنون بها أن قيامة الأموات حقيقية مؤكَّدة في كلمة الله.  فما أعظم سيدنا، يجيب على أسخف الأسئلة بحكمة وعقل دون رفض أو احتقار للسائلين بالرغم من معرفته أنهم يقاومون تعليمه عن قيامة الأموات.

ويعوزنا الوقت والمساحة للتأمل في روعة سيدنا الحبيب في تعاملاته مع مختلف أنواع البشر.  الذي كان يحترم الإنسان، كل إنسان، بالرغم من كل عيوبه، وكان يقدِّره على الرغم من أنه كان أكثر شخص يعرف حقيقته.  فما أحوجنا جميعًا إلى النظر إليه - تبارك اسمه - والتشبه به في تعاملنا مع الآخرين، فنحترمهم ونقدرهم حتى لو اختلفنا معهم، ونظهر تقديرنا لمشاعرهم حتى لو كانوا خطاة بعيدين عن الله.

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com