بينما كنت أفكر في موضوعي هذا: الحياة لأجل الآخر، وكيف عاش الرب يسوع هذا الصنف المعتبَر من الحياة، أحسست أنني أمام مهمة شاقة تبدو مستحيلة. هل من الممكن لسطور قليلة مثل هذه أن تصف وتعبِّر عن قلب الرب يسوع الذي لم يفعل شيئًا لنفسه قَطّ؟ أليس مكتوبًا عنه أنه «لم يُرضِ نفسه» (رو15: 3)؟ أ لم يكن هذا هو نمط حياته؟ بل دعني أقول إنها كانت كلّ حياته: أن يعيش من أجل الآخرين! وأستعير قول أحدهم مغيِّرًا إياه قليلاً ”أنا لست إلا طفلاً صغيرًا ما زال يلهو بدلوه الصغير علي شاطيء نهر معرفة الرب“. ولست أظن أن ذلك الطفل يمكنه أن يحوي النهر كله في دلوه الصغير.
ولكن مهلاً يا قارئي العزيز، أليس دلو صغير من حلاوة ربنا يسوع المسيح لهو أغلي من كل ما في الوجود؟ بل إن قطرة واحدة من ينبوع قلبه وجمال شخصه وفرادة سماته لهي أسمى من أي شيء كان. دعونا إذًا نتأمل في حبيبنا المعبود، علي قدر ما يعطينا الروح، نتأمل فيه، ولو قطرة تلو قطرة، فكل تفصيلة صغيرة من تفاصيل حياته وشخصيته تساوي أكثر من الكون بما فيه.
الحياة لأجل الأخر ليست وعظًا كلاميًا
ودعونا أولاً نَفُضّ إشكالاً صغيرًا، فعندما نتكلم عن الحياة لأجل الآخر، لا نعني بالضرورة ”الحياة لأجل أن نعظ الآخر“. نعم قد يكون بعضنا لهم موهبة التعليم أو الوعظ، ولذلك فإن جزءًا هامًا من إتّباعهم الرب هو خدمة الكلمة، سواء من المنابر أو في الرعاية الشخصية الفردية أو العائلية، كل خراف المسيح بشكل شخصي أو عائلي في البيت. كما قال الرسول إنه علم «جهرًا وفي كل بيت» (أع20: 20)، وأنه كان ينذر، أي يعظ، «بدموع كل واحد» (أع20: 31) علي حدة.
وقد نجد أن البعض الآن، بل والكثيرون يتدافعون إلي المنابر، ويظنون أن كلمة ”خدمة“ مرادفة لكلمة ”منبر“، وأن المؤمن لكي يكون مكرَّسًا للرب عليه أن يعظ ويعظ ويعظ، ثم بعد ذلك أن يعظ أيضًا. فيفرغون الخدمة والتكريس من معنياهما، ويضعون الوعظ مكانهما. ولا عجب في ذلك لأن الواعظ يأخذ مكانة معتبرة وتكريمًا في مجتمعنا المسيحي الآن! حسبنا كنا الآن في عصور الإستشهاد، في مرحلة كنيسة سميرنا التي ذاقت المرار علي يد الدولة الرومانية، لكان عدد الوعاظ قد تقلص بنسبة لا تقل عن 75%، إذ كان المعلمون والوعاظ هم الهدف الأول للاضطهاد وقتها.
الرب يسوع والعائلة
دعونا نلتفت لسيدنا، أ لم يَقضِ ثلاثين عامًا من حياته دون أن يعظ؟ يا لجمال سيدي! فكل شيء عنده له مواقيته الخاصة، ومواقيت سيدي متوافقة تمامًا مع مواقيت أبيه. هل كان ينقصه القدرة علي الوعظ؟! بالطبع لا، فقد قَصَّ لنا الوحي المقدس في إنجيل لوقا قصة حدثت وقت أن كانت له اثنتا عشرة سنة، حيث ذهب الرب يسوع مع مريم أمه ويوسف إلي الهيكل إلي أورشليم في عيد الفصح كالعادة «وبعدما أكملوا الأيام، بقي عند رجوعهما الصبي يسوع في أورشليم... وإذ (يوسف ومريم) ظناه بين الرفقة، ذهبا مسيرة يوم... ولما لم يجداه رجعا إلي أورشليم يطلبانه. وبعد ثلاثة أيام وجداه في الهيكل، جالسًا في وسط المعلمين، يسمعهم ويسألهم. وكل الذين سمعوه بُهتوا من فهمه وأجوبته» (لو2: 43-47).
هكذا كان الرب، وهو ما زال صبيًا في سن الثانية عشرة، جالسًا في وسط المعلمين، وأيَّ معلمين، معلمي الشريعة الذين بلغوا من العمر أطوله مكرسين إياه من أجل دراسة الشريعة، ولكنه كان يسمعهم ثم يسألهم. وعندما كانوا لا يستطيعون الإجابة كان يجاوب هو له المجد. فقد أبهت الشيوخ بفهمه وأبهرهم بأجوبته. كان يستطيع أن يعظ إذًا، ولكنه لم يعظ إلا عندما كرَّسه الله للخدمة العلنية، بعد المعمودية وحلول الروح القدس والتجربة علي الجبل.
وماذا كان يفعل - له المجد - طوال هذه السنين؟ يخبرنا لوقا أنه بعد هذه الحادثة نزل المعلم العظيم ذو الاثني عشر عامًا مع مريم ويوسف «وجاء إلي الناصرة، وكان خاضعًا لهما» (لو2: 51). نعم كان يؤدّي واجبه من أجل عائلته تمامًا كما قال الرب. كان - له المجد - أفضل ابن لأيّ عائلة جاء علي الأرض علي الإطلاق. كان من حق مريم ويوسف أن يتمتعا بتربية طفل مثل باقي العائلات، فكان لهما هذا الطفل والولد الذي لا يُخزي عائلته قَطّ.
كان يستطيع أن يعلمهما لا أن يخضع لهما، ذاك الذي تطيعه الملائكة والسماوات والأرض وكل الخليقة، بل والذي لا يستطيع إبليس وجنوده أن يفعلوا شيئًا دون سماح منه؛ كان خاضعًا لعائلته. وبدلاً من أن يقبل تربيتهم له كان يمكنه أن يربيهما هو ويعلمهما أيضًا، إذ كان كفوًا تمامًا لهذا الأمر، فهو المعلم الأعظم. لكنه - له المجد - وهبهما نفسه، وهبهما ذلك الولد الذي يدخل السرور والسعادة لقلب عائلته، فلم يَعِش لنفسه ولم يُرضِ نفسه. بل أعطى عائلته حقها الواجب. حتي في زمن طفولته، لم يعِش لنفسه كباقي الأطفال، لكنه عاش من أجل الآخرين، خاضعًا لعائلته، مقدِّرًا وصية الرب من جهة العائلة.
ويلخص لنا إنجيل مرقس، إنجيل العبد الكامل، فترة شبابه الثماني عشرة سنة قبل أن يتكرس للخدمة، إذ ينقل لنا تعليق الناس في المكان الذي قضي فيه شبابه إذ قالوا عنه «أليس هذا هو النجار إبن مريم؟» (مر6: 3). ألا تتعجب معي يا أخي وألا تتعجبي معي يا أختي؟ لقد قضى سيدنا أغلي فترات حياته كشاب يعمل في ورشة النجارة التي ليوسف النجار، وكانت مهنته نجارًا. كان كل ما يشغل حياته هو أن يساعد يوسف النجار، رب العائلة، في توفير حياة كريمة من أجل العائلة التي أكرمها الله بوجوده فيها.
حياة بسيطة طبيعية عاشها الحبيب الغالي، دون تطرف أو مغالاة، يقدم حياته الكريمة وشخصه العظيم للعائلة حسب فكر الرب. ألا تتخيله معي وهو يعمل كنجار بسيط في ورشة نجارة في مدينة الناصرة المحتقرة؟ كم كنت أتمني أن أرى قطعة من قطع الأثاث التي صنعها بمنتهى الأمانة. كم من فقير أهداه قطعة من الأثاث أو كوبًا خشبيًا، كم من أرملة فقيرة أصلح لها بابها أو مائدتها دون أن يأخذ منها أموالاً. كم علم من أطفال وصبيان حرفة النجارة ليتكسبوا أموالاً دون أن يتلقى شيئًا في مقابل ذلك. أشياء صمت الوحي عنها، ولكنه لخصها جميعها في كلمة واحدة قيلت عنه في سن الثلاثين قبل بدء الخدمة مباشرة. فقد شهد عنه الآب قائلاً «هذا هو إبني الحبيب الذي به سُررت» (مت3: 17). نعم فطوال ثلاثين عام راقبت عين الله ذلك الكلمة المتجسد، ولم تجد منه إلا كل توافق مع فكر الله، ووجد فيه الله سرورًا إذ كان كل ما يعمله يعمله حسب مشيئة الله.
يقول لوقا إن يسوع كان أولاً يفعل ثم يعلم ما يفعله للآخرين (أع1: 1). لم يكن كالكتبة والفريسين الذين كانوا «يحزمون أحمالاً ثقيلة عسرة الحمل ويضعونها علي أكتاف الناس، وهم لا يريدون أن يحركوها بأصابعهم» (مت23: 4). لكنه قبل أن يعلّم بأي تعليم ما، كان يفعله هو شخصياُ أولاً عائشًا إياه. لقد كان شعاره «مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ» (أع20: 35)، وكان يعيش هذا الشعار بطوله وعرضه وعمقه وارتفاعه، فقد عاش الشعار بصورة مطلقة إلهية، إذ لم يتخذ الشعار تشدقًا بالكلمات، بل بذل نفسه، وقتًا وعرقًا، جهدًا ودمًا، وحياةً وموتًا، من أجل الآخرين.
ثم نراه بعد ذلك في أحلك المواقف العصيبة وهو معلّق علي الصليب في اللحظات الأخيرة من حياته، وهو في قمة المعاناة إذ تم تعريضه للجلد الوحشي حتي قال «على ظهري حرث الحراث، طولوا أتلامهم» (مز129: 3) وتم ضربه وإهانته بمخلتف الطرق القاسية، ووضعوا إكليل شوك علي رأسه وسمروا يديه ورجليه بقسوة في الصليب الخشبي الجاف، وعلقوه بين السماء والأرض؛ ورغم هذا نراه في هذه اللحظات ما زال مشغولاً بعائلته. نعم، في وسط كل هذه الآلام لم يكن مشغولاً بنفسه ولا بآلامه، بل نشاهده مشغولاً بأمه، إذ ينظر لها وليوحنا تلميذه ويقول «يا امرأة هوذا ابنك... (وليوحنا) هوذا أمك» (يو19: 26،27). لقد اهتم بأمه حتي في أحلك لحظات حياته وأكثرها ألمًا. لم ينشغل بآلامه، لم يحاول أن يجد تعزية في نظرات الشفقة التي في عيون القلائل الذين تبعوه للصليب، بل فكّر في مصير أمه بعد موته، وقرر أن يعطيها أفضل ابن ممكن بدلاً منه، ليعزيها بعد رحيله للسماء، إذ أعطاها يوحنا الحبيب، رسول المحبة، أقرب أصدقائه وأحبهم إليه، ابنًا لها وأوصاه أن يعتني بها كأمه تمامًا.
ولكن ليس فقط لم ينشغل بآلامه، بل لم تثنه عظمة المهمة التي كان يقوم بها علي الصليب عن الاهتمام بعائلته. لقد كانت هذه اللحظات علي الصليب لحظات محورية في تاريخ البشرية كلها، حيث كان الرب يصنع خلاصًا ويكفِّر عن خطايا البشرية كلها ويصنع الكفارة ويأتي بالبر الأبدي. كان في أعظم مهمة وأشرف عمل علي الإطلاق، ولكنه في وسط ذلك نجده يهتم بأحد أفراد عائلته، فهو يعيش من أجل عائلته. أوَ ليس ذلك صليبًا بحد ذاته؟ أن ينكر الإنسان علي نفسه رغباته، بل وآلامه، ويهتم بالآخرين؟ أليس هذا صليبًا منفردًا غير مرئي، حمله الرب بجانب الصليب الآخر الذي حمَّله إياه البشر؟ نعم.
أخي.. أختي.. إن حياتنا من أجل عائلاتنا لَهي جزء هام من تكريسنا للرب. أ لم يترك «لنا مثالاً لكي نتبع خطواته» (1بط2: 21)؟ يجب علينا ألا نظن أننا يجب علينا التخلص من التزامتنا الطبيعية تجاه الآخرين لكي نكون مرضيين للرب، بل علي العكس تمامًا، لقد وضع الرب نظامًا في العائلة على الأرض ويريدنا أن نسلك بحسبه. لقد أظهر لنا فكره في ابنه المتجسد إذ قد عاش تمامًا من أجل الآخرين مبتدءًا بعائلته إذ إنه «إن كان أحد لا يعتني بخاصته ولا سيما أهل بيته، فقد أنكر الإيمان، وهو شر من غير المؤمن» (1تي5: 8).
نعم يا أخي، نعم يا أختي، يجب علينا أن نبدأ بعائلاتنا أولاً، إذ نقضي لهم حتي الاحتياجات الطبيعية. إن كنت ابنًا أو ابنة فاسمع قول الرب «أكرم أباك وأمك» (أف6: 2). وإن كنت أبًا أو أمًا فاسمع كلمات الروح القدس «ربّوهم بتأديب الرب وإنذاره» (أف6: 4). إن أولادكم مسؤولية ووكالة أوكلكم عليها الرب. وعضويتك لعائلة لهو أيضًا مسؤولية أوكلها عليك الرب، وسيأتي اليوم الذي سيقول لك «أعط حساب وكالتك» (لو16: 2). نحن لسنا في هذا العالم لأنفسنا، بل للآخرين. يقول أحد الملحدين ”الجحيم هو الآخرون“ ولنصحِّح له هذا القول الأناني الصنمي قائلين: ”الجحيم هو التمحور حول الذات“؛ فإن حياتنا لأجل أنفسنا هي الجحيم عينه. أ لن يقضي الخطاة الأبدية المريرة في الجحيم مع أنفسهم؟ إن كانت حياة أحد هي من أجل نفسه، فهو يصيب نفسه بأقسى أنواع العذابات.
الرب يسوع والتلاميذ
وإن ابتدأ الرب - له المجد - بعائلته، معطيًا لنا المثال، فقد وهب - بعد ذلك - آخر ثلاث سنين من عمره القصير للآخرين من أمَّته. لقد تفرغ تمامًا للخدمة، بناء علي دعوة الرب له ومسحه إياه بالروح القدس. من أجل ذلك قال له المجد «روح السيد الرب عليَّ، لأن الرب مسحني لأبشِّر المساكين، أرسلني لأعصب منكسري القلب، لأنادي للمسبيين بالعتق، وللمأسورين بالإطلاق» (إش61: 1).
كان قد تقبَّل عطية من الآب، وهي التلاميذ. لم تكن الكنيسة قد ظهرت بالفعل لحيِّز الوجود، لكنها كانت ستأتي في المستقبل القريب، ومجموعة التلاميذ الصغيرة التي من حوله هي نواتها الأولى. فماذا يا تري فعل لهم؟
لقد كرَّس لهم وقته وجهده من أجل أن يعدّهم لمهمة عظيمة سيتولونها بعد موته. كم من مرة احتملهم، واحتمل عدم إيمانهم، بل وعدم سلوكهم بحسب المبادئ السامية التي علَّمها لهم. كان يحميهم من الأعداء، ويحميهم أيضًا من أنفسهم. وقد لخَّص ذلك كله في حديثه مع أبيه في الأصحاح السابع عشر من إنجيل يوحنا.
أول كل شيء؛ لقد عرَّفهم الآب، إذ قال للآب «أنا أظهرت اسمك للناس الذين أعطيتني من العالم. كانوا لك، وأعطيتهم لي» (يو17: 6). ولم يكن طريقه في تعريفهم بالآب هو الحديث عن الآب، وإن كان هذا قد حدث بالفعل؛ لكنه قال لتوما يومًا: «الذي رآني فقد رأى الآب» (يو14: 9). لذا صرَّح يوحنا عنه «رأينا مجده مجدًا لكما لوحيد من الآب، مملوءًا نعمة وحقًا» (يو1: 14). لقد كان كل من يقترب منه يرى فيه قداسة الآب، ويشعر فيه بمحبة الآب، ويدرك في سلوكياته حكمة الآب؛ وهكذا يصير كل من يقترب منه علي مقربة شديدة من الآب السماوي. أ لم يُحدث هذا الأمر بركة غير عادية في كل من حوله.
وكان أيضًا يحفظهم من أن يصيبهم شر ما؛ إذ قال للآب «حين كنت معهم في العالم، كنت أحفظهم في اسمك. الذين أعطيتني حفظتهم، ولم يهلك منهم أحد» (يو17: 12). ونري هذا الأمر متجلّيًا في لحظة القبض علي الرب يسوع في البستان، حين حرص علي أن ينقذ التلاميذ من أيدي القوة المُرسلة للقبض عليه، حيث أظهر أولاً قوته الإلهية، مما أزعج القوة المرسلة لإلقاء القبض عليه، وجعلهم يرجعون إلي الوراء ويسقطون علي الأرض. ثم إذ أربكهم، أمرهم قائلاً «إن كنتم تطلبونني، فدعوا هؤلاء يذهبون» (يو18: 6،8). فكان له ما أراد، منقذًا إياهم من أيدي الطغاة.
لقد لخّص حياته من أجلهم بأن قال «لأجلهم أقدِّس أنا ذاتي» (يو17: 19)، أي أخصِّص ذاتي لأجلهم. ثم نسمعه وهو يقول للآب «أنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني» (يو17: 22). أي حتى مجده الاكتسابي، الذي أخذه بتعبه، أبى أن ينفرد به لنفسه، لكنه أشرك فيه كنيسته!
لقد أكَّد الرسول بولس ذلك الأمر لما قال «إذ أقامه من الأموات، وأجلسه عن يمينه في السماويات فوق كل رياسة وسلطان وقوة وسيادة وكل اسم يُسمّى، ليس في هذا الدهر فقط، بل في المستقبل أيضًا. وأخضع كل شيء تحت قدميه، وإياه جعل رأسًا فوق كل شيء للكنيسة» (أف1: 20-22). فالرب في ذاته، بطبيعته، هو في الأصل فوق كل شيء، لكنه اكتسب هذا المجد أيضًا، كإنسان، بالموت والقيامة، ولم يحتفظ لنفسه بالمجد الذي اكتسبه، لكنه أشرك كنيسته في كل ما اكتسبه.
ألا يستوجب ذلك منا أن نترك اهتماماتنا بأنفسنا ونهتم فقط بكنيسته محبوبته؟ ألا يكفي التلميذ أن يكون كمعلمه (مت10: 25)؟!
الرب يسوع والخطاة
وماذا عن صالبيه ورافضيه؟ ماذا كان موقفه منهم؟ كان الرب يدرك من البداية أن أمّته سترفضه وتهينه وتؤلّمه وتصلبه، لكنه وهب حياته لها دون أدنى تردّد! كان يعلم، من قبل إنشاء العالم، أنه سيُكتب عنه «إلى خاصته جاء، وخاصته لم تقبله» (يو1: 11)؛ ومع ذلك فهو لم يدّخر جهدًا من جهتهم، بل بذل كل جهده لكي يتواصل معهم ولكي يخلّصهم. بل لقد كان يتعاطف معهم، ويتألم معهم، ويهتم بآلامهم ومشاكلهم.
أ لم يلقَ خائنه ومسلمه يهوذا أرقى معاملة من الرب؟ أ لم يُعطه الفرصة كاملة، ولآخر لحظة كان يحذره ويعتبره صاحبًا، قائلاً له: «يا صاحب لماذا جئت؟» (مت26: 50). أ لم يكن هذا في الوقت الذي كان يهوذا فيه يسلمه بالفعل لأيدي الأشرار وكان ثمن الخيانة يرقد في جيبه شاهدًا عليه؟
نراه يبكي قرب صلبه، ليس من أجل آلامه القادمة، ولكن من أجل أورشليم، المدينة التي ستصلبه. لقد كان الألوف قد «أخذوا سعوف النخل وخرجوا للقائه، وكانوا يصرخون: أوصنّا مبارك الآتي باسم الرب، ملك إسرائيل» (يو12: 13). فلم يلتفت لهتاف الجماهير ومناداتها له كالملك القادم، رغم أن هتافهم قد جعل أورشليم ترتج كلها (مت21: 10). فلم يكن هذا ليحرّك ساكنًا لديه، إذ لم يكن مشغولاً بنفسه، بل بأمّته وبما ينتظر هذه المدينة العاصية، وكان متألمًا من أجلها فنجده «نظر إلى المدينة، وبكى عليها» (لو19: 41)؛ لأنها سوف تقبل غضبًا من يد الرب بسبب صلبها إياه!
كان يرى، بعيني النبوة، ما سيحدث لها فقال «ستأتي أيام ويحيط بك اعداؤك بمترسة، ويحدقون بك، ويحاصرونك من كل جهة. ويهدمونك وبنيك فيك، ولا يتركون فيك حجرًا على حجر؛ لأنك لم تعرفي زمان افتقادك» (لو19: 43-44). وكان ينطق بهذه الكلمات وهو يبكي من أجل المدينة الشريرة التي سيصرخ ساكينها لبيلاطس قائلين «أصلبه أصلبه... دمه علينا وعلى أولادنا» (يو19: 6؛ مت27: 25). فلم يحرك هتاف الجماهير قلبه ولا عقله، لأنه لم يكن مشغولاً بنفسه، بل بأمته.
في زمان قبل هذا الزمان، منذ أكثر من ألف عام علي حادثة الصلب، إنتصر شعب الرب علي الأعداء عن طريق داود، فغنت الفتيات «ضرب شاول ألوفه وداود ربواته» (1صم21: 11)، فلم يُطق شاول أن يكون هو رقم ”اثنان“ في المديح وداود رقم واحد؛ ومنذ هذه اللحظة بدأ يخطِّط لقتل داود. ولكننا نري ربنا المعبود، ليس فقط لم يتأثر بكلمات مديح من هتاف لجماهير وتلويح بالأغصان وفرش للملابس علي الأرض، لكنه لم يتأثر أيضًا بكلمات الرثاء. فعند خروجه إلي الصلب كان مظهره - له المجد - مُفسَدًا، أي مشوَّهًا من التعذيب، أكثر من أي رجل (إش52: 14). كانت الدماء تسيل من كل مكان في جسده الكريم، وكان قد تعرّض لآلام جسدية ونفسية رهيبة. فلما رأته بنات أورشليم كن «يلطمن أيضًا وينحن عليه». لكنه لم يتجاوب مع رثاء بنات أورشليم له وتعاطفهن مع آلامه، بل قال لهن «لا تبكين علي بل إبكين علي أنفسكن وعلي أولادكن» (لو23: 27، 28).
وما أصعب هذا الأمر! أن ترفض المديح لهو شيء صعب.. ولكن أن تكون في قمة الألم الجسدي، والشعور بالظلم والخيانة والإهانة، وتمشي ذاهبًا في طريق الموت، ثم ترثيك بنات أورشليم باكيات عليك متعاطفات معك، فلا تنشغل علي الإطلاق بآلامك وأحزانك!! إنه سيدي الذي ليس له مثيل! رغم الرثاء والتعاطف من البنات، ونوحهن عليه، ورقتهن من جهة ألمه؛ إلا أنه لم يتجاوب معهن. كم كانت نفسه الحزينة الرقيقة تحتاج للمساندة والتعضيد؟ ولقد كُن يعزفن لحنًا يتوافق مع ألمه، لكنه كان يعزف لحنًا آخر، إذ إنشغل هو بهن وبمدينة أورشليم وبأولادهن. كان في انشغاله بالشر القادم علي الشعب، الذي ينادي بصلبه، يكشف لنا عن معدن فريد لشخص عجيب، لم يكن مشغولاً بنفسه علي الإطلاق، بل مشغولاً بأمّته إلي أبعد الحدود رغم رفضها له وصلبها إياه.
ومشهد آخر، وعلي الصليب أيضًا، وفي قمة آلامه - كما رأينا - وفي عظمة العمل الذي كان يقوم به، اهتم بلصٍّ وقاتل كان معلَّقًا بجانبه علي الصليب. يا للعجب! إن رأسه «ذهب إبريز» (نش5: 11)؛ فأفكاره ليس لها مثيل، ودوافعه، كما قالت العروس، نقية تمامًا من أي اهتمام شخصي، إذ شبهت دوافعه بالعاج فقالت «بطنه عاج أبيض» (نش5: 14)، فدوافعه نقية جدًا، وسماوية جدًا، لذا أضافت العروس أن «بطنه عاج أبيض مغلف بالياقوت الأزرق» (نش5: 14).
كان اللص القاتل مستوجبًا للموت، والأكثر من ذلك، لقد كان هذا المجرم المعلَّق بجانب ربنا المعبود يشترك في إهانة الرب والسخرية منه لبعض الوقت إذ «كان اللصان اللذان صُلبا معه يعيّرانه» (مت27: 44)، ولكن ربنا المعبود يسوع، ذاك العجيب، «شُتِم فلم يَشتِم عوضًا» (1بط2: 23)، حتي سبى صمته وغفرانه لصالبيه قلبَ المجرم القاسي المعلّق علي الصليب. فنجده يكلم الرب قائلاً «اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك» (لو23: 42). كان ممكنًا للرب أن يصمت تجاه هذه المَقولة، وكان لن يفرق صمته هذا تجاه خلاص ذلك اللص التائب، كان سيذهب للفردوس إذ قد تاب. ولكننا نجد الرب يريد أن يشجعه ويشدّده في لحظاته الأخيرة، ويقدِّم له جرعة روحية ترفع نفسه التائبة المحزونة.
لقد خَصَّ الربّ لصًا مجرمًا، كان يعيِّره من دقائق قليلة، بإحدى العبارات السبع التي نطق بها المخلِّص الكريم على الصليب. ويا لها من عبارة، وما أروعه من إعلان خاص لذاك الذي عاش كل حياته في الخطية والشر والنجاسة والظلم والقسوة. «الحق أقول لك: إنك اليوم تكون معي في الفردوس» (لو23: 43).
هل تهتم بنفسية قاتلٍ يا سيدي الحبيب وأنت علي عود الصليب؟! هل تعتني بذاك الذي ذبح وسرق ووجَّه كلمات الإهانة لابن الله؟! ألا تتركه ليذوق بعضًا مما فعل؟! لماذا تشجِّع نفسه المتألمة؟! هل تهتم بمثل هذا في وسط آلامك وضيقة نفسك؟! لقد مددت يدك له ياسيدي لكي تنتشله من مستنقع الألم الحاضر، وتنقذه من الأبدية الأليمة في الجحيم؛ وكنت في نفس الوقت تمدّ يدك لله لكي تقبل منه ذاك العذاب الذي كان يستحقه لص مجرم مثل هذا. أ حتي على الصليب يا سيدي، رأيناك تهتم بأمك، وهي تستحق اهتمامك؛ ولكن أ تهتم بالفجار؟!
يا لك من محبة يا إله المحبة التي «لا تطلب ما لنفسها» (1كو13: 5). أنت «الله محبة» (1يو4: 8). أنت من وضعت نفسك لأجل أحبائك (يو15: 13)
أي كلمات تعطيك قدرك؟ أي تسبيحات تكفيك؟ إن العمر لا يكفيك وإن أفنيناه في حبك. أعطنا يا سيدنا أن نمشي علي آثارك. أعطنا ألا نعيش لأنفسنا. أعطنا أن نظهر سماتك وصفاتك في حياتنا. أعطنا أن ننسى ذواتنا وبكل سرور نَنفق ونُنفق (2كو12: 15) من أجل الآخرين. اربطنا بك يا أيها الكرمة الحقيقة، وليسِر تيار عصارة روحك القدوس فينا نحن الأغصان، منعشًا لنا لكي نثمر وتظهر «حياة يسوع... في جسدنا المائت» (2كو4: 10، 11).
سيدي نحن مأخوذون في دوامات ذواتنا واهتماماتنا، ونسينا عائلاتنا، وأحباءنا، وأفراد جسدك، والعالم الضائع في غياهب الظلام! سيدي، نحن نعترف أننا فشلنا في المهمة العظمى، وتركنا عملك، وعشنا لأجل أنفسنا. سيدي «ألا تعود أنت فتحيينا؟» (مز85: 6). أليس عندك «ينبوع الحياة» (مز36: 9)؟ سيدي، ها نحن بين يديك.. خلِّصنا من أنفسنا. ولك كل المجد. آمين.