«أقيم لأجل تبريرنا» (رو 25:4)
«القيامة وارتباطها بسلوك المؤمن في جدة الحياة» (رو 4:6 و 5 و 9)
لقد بدأ الرسول في رسالة رومية من أصحاح 12:5 قسماً جديداً من الرسالة يستمر حتى آخر الأصحاح الثامن. في القسم الأول الذي ينتهي في أصحاح 11:5، تحدث الرسول عن الخطايا وعن احتياجنا إلى التبرير، والثمن لذلك هو دم المسيح (24:3، 25؛ 9:5) والوسيلة هي موت المسيح لأجلنا (8:5). أما في القسم الثاني فقد تحدث عن الخطية (بالمفرد) أي نبع الفساد الكائن في الإنسان. والذي تنبع منه الخطايا (مت 35:12)، واحتياج الإنسان إلى التحرير والعتق، وكُلفة ذلك العتق ليس دم المسيح، بل موت المسيح (7:6،10) ووسيلته هي موتنا نحن مع المسيح (8:6).
والموضوع في الأصحاح السادس هو العتق الكامل من الخطية كقوة تسود على الإنسان. ففي الحالة الحاضرة تسكن الخطية في المؤمن ولكن لا تسود عليه. وفي المستقبل -في السماء- سوف لا تسكن فيه بالمرة. إن سيادة الخطية على المؤمن قد مضت وابتدأت سيادة النعمة «فإن الخطية لن تسودكم، لأنكم لستم تحت الناموس بل تحت النعمة» (رو 14:6).
وكيف نحصل على هذه البركة العظيمة؟ بالموت. فمن المستحيل أن يكون للخطية أية قوة على إنسان ميت. وإن الخطية ليس لها سلطان على المؤمن أكثر من سلطانها على إنسان قد مات فعلاً. ونحن قد متنا عن الخطية، متنا بموت المسيح. وهل هذا حقيقي الآن بالنسبة لكل مؤمن؟ نعم، حقيقي الآن بالنسبة لكل مؤمن تحت السماء. إنها ليست مسألة اجتهادية بالمرة. بل هي بركة تخص كل ابن لله، كل مؤمن حقيقي. إنها مركز كل مؤمن، وما أعظمه مركزاً مقدساً! تبارك اسم ربنا المعبود الذي اكتسبه لنا وأدخلنا إليه.
ونحن نعلم أن المسيح مات على الصليب لأجلنا، لكن ماذا يعني أننا متنا معه؟ إن ذلك الموت الذي نتكلم عنه الآن يتعلق «بإنساننا العتيق»، وإنساننا العتيق ليس هو طبيعتنا القديمة الفاسدة، بل الإنسان كله كمن هو في الجسد في آدم الساقط، بكل عاداته ورغائبه وأمياله. هذا الإنسان صُلِبَ مع المسيح وانتهى ولم يعد له وجود أمام الله. وأنا الآن إنسان جديد في المسيح (أف 24:4)، ولست ذلك الإنسان العتيق الذي مضى وانتهي «لأنه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته (أي بالمعمودية)، نصير أيضاً بقيامته. عالمين هذا: أن إنساننا العتيق قد صُلب معه ليُبطل جسد الخطية، كي لا نعود نُستعبد أيضاً للخطية. لأن الذي مات قد تبرأ من الخطية. فإن كنا قد متنا مع المسيح، نؤمن أننا سنحيا أيضاً معه» (رو 5:6-8).
والطريق الوحيد للتحرر من قوة الطبيعة الفاسدة هو أن نحسب أنفسنا أمواتاً لها «كذلك أنتم أيضاً احسبوا أنفسكم أمواتاً عن الخطية، ولكن أحياءً لله بالمسيح يسوع ربنا» (رو 11:6). والآن نتعلم فرحين أن هذا هو ما فعله الله فعلاً مرة واحدة على الصليب، عندما حسب موت المسيح كأنه موتنا، وكل ما نحتاج أن نفعله هو أن نقبل هذه الحقيقة كما قبلنا غفران خطايانا. ونحن الآن كأحياء روحياً فيه، كمن أُقيم من الأموات، نتمتع بفوائد موتنا معه كقوة تحررنا من الخطية.
فكل ما كنا عليه في الجسد انتهى أمره في الصليب، وأستطيع الآن أن أقول: أنا الآن ميت للخطية، ميت للناموس، مع المسيح صُلبت، وعيناي الشاخصتان إلى المسيح المُقام تريان فيه نهاية شخصيتي الذاتية كابن لآدم. ولكن فيه أيضاً القوة الغالبة المنتصرة التي أصبحت لي ومن حقي، والتي تدخلني بحياة القيامة فيه إلى دائرة التمتع بالأمور التي هي من حق هذه الحياة الجديدة «فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيَّ» (غل 20:2).
وفي هذا قوتنا الحقيقية لنعيش منتصرين فوق الخطية، لأنه يفترض الموت، وعلى أساس أننا «متنا عن الخطية»، لا نعيش بعد فيها (رو 2:6). ونحن نتمتع بحرية ملؤها البركة في احتساب أنفسنا أمواتاً إذ لنا حياة جديدة. والمسيح الآن يشغل مركزه باستحقاقات الموت والقيامة. وهناك أنا، حيث المسيح موجود، وإنها لحياة أخرى تماماً؛ حياة لها محيطها ومناخها وجو العواطف والاهتمامات الخاص بها. «فإن الذين هم حسب الجسد فبما للجسد يهتمون، ولكن الذين حسب الروح فبما للروح» (رو 5:8).
أيها الأحباء، إن التعليم الإلهي الصحيح هو أننا متنا بموت المسيح عن الخطية، فكيف وقد أُقمنا بحياة المسيح نجد لذة في الخطية ونعيش فيها؟! إنه ليس من المعقول أن يفكر أحد في إطعام جثة مائتة. وليس منا من يفكر في إخراج ميت من قبره ليتأمله أو يتحدث معه، فلنعامل إنساننا العتيق مع كل أعماله بهذا المبدأ.
والتأمل في رومية 2:6-14 يعيننا مبدئياً على فهم مركز المؤمن الحقيقي بالنسبة للإنسان العتيق والإنسان الجديد. وفي هذه الأعداد يستعمل الرسول المعمودية لتوضيح هذا الحق. فالمعمودية تنقل الشخص من دائرة إلى دائرة أخرى، ولا بد أن يقترن هذا بالطبع بتغيير حالته أيضاً. ونحن نذكر أن أول ذكر للمعمودية في العهد الجديد كان بالارتباط بخدمة يوحنا المعمدان (مت 3)، وكانت المعمودية في ذلك الوقت تعني الشعور بالحاجة إلى غسل الماضي بكل متعلقاته والبدء بحياة جديدة بالنظر إلى قرب ملكوت السماوات الذي كان المعمدان يكرز به. وعلى هذا الأساس: أساس غسل الماضي، والبداءة الجديدة، تقوم المعمودية المسيحية. لذلك يقول حنانيا لشاول الطرسوسي: «قًمْ واعتمد واغسل خطاياك داعياً باسم الرب» (أع 16:22). ومنذ يوم الخمسين فصاعداً نقرأ أن كل يهودي أو أممي يقبل الرب يسوع بالإيمان، لا بد له أن يعتمد اعترافاً -لا برفض الماضي فقد- بل باتخاذ مركزاً جديداً في المسيح.
والمعمودية أيضاً في رومية 6 مرتبطة بالموت والدفن. وهذا يعني إنهاء كل الارتباطات السابقة للدخول إلى جو جديد. فالدفن كما نعلم هو قطع آخر الرُبط بين الإنسان وحياته السابقة. ونحن باعترافنا أن حالتنا هي حالة الموت، فإننا نقبل الدفن مع المسيح في قبره، وهو المكان الوحيد الذي يليق بالإنسان العتيق، الإنسان في آدم بصفة عامة «فدُفِنَّا معه بالمعمودية للموت، حتى كما أُقيم المسيح من الأموات، بمجد الآب، هكذا نسلك نحن أيضاً في جدة الحياة» (رو 4:6).
ولقد كان عبور نهر الأردن يرمز بكيفية خاصة إلى موتنا وقيامتنا مع المسيح؛ الموت عن كل متعلقات الحالة الأولى التي كنا عليها، وإلى بداءة حالة جديدة بقوة الحياة مع المسيح الذي قمنا معه. فموته وقيامته يأتيان بنا الآن إلى دائرة البركات السماوية بكل مشتملاتها. الإنسان العتيق، أي انتسابنا إلى آدم الأول، بقي تحت مياه الدينونة، مع كل أفكاره وشهواته الشريرة، بنفس الطريقة التي دُفن بها الاثنا عشر حجراً في قاع الأردن (يش 9:4). والإنسان الخارج هو «خليقة جديدة» و«إنسان جديد» (2كو 17:5؛ كو 10:3) يمثله الاثنا عشر حجراً المأخوذة من قاع الأردن، والمقامة على شاطئ أرض الموعد، التي تشير إلى السماويات، التي هي مناخ القديسين وهم على الأرض. هذه الحجارة، وإن كانت صامتة، لكنها تتكلم بأفصح لسان، وتقول «فإن كنتم قد قمتم مع المسيح فاطلبوا ما فوق، حيث المسيح جالس عن يمين الله. اهتموا بما فوق لا بما على الأرض. لأنكم قد مُتم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله» (كو 1:3-3).
والخلاصة -أيها الأحياء- أن موت وقيامة المسيح يأتيان بنا الآن إلى دائرة البركات السماوية بكل مشتملاتها. ومع أننا كما يقول الرسول بولس: «مع المسيح صُلبت» لكننا «نحيا». ولكن أين نستطيع أن نجد حياة مُحررة تماماً من الطبيعة الموروثة من آدم والتي بها نستطيع أن نعيش لله؟ إننا نجدها في المسيح فقط، المسيح الذي له قد اعتمدنا. وأين هو المسيح؟ إنه مُقام ومُمجَّد. والمركز الجديد الذي أُخذنا إليه على هذه الأرض يملأه المسيح وحده. هو، وهو وحده، مُعطي الحياة التي نحتاج إليها، الحياة النقية المقدسة التي لها نقاوة وقداسة مصدرها. أما تلك التي أُخذت من آدم فكانت -مثل مصدرها- لا هي نقية ولا هي مقدسة.
(يتبع)