عدد رقم 2 لسنة 2004
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
أغرب صور الخداع   من سلسلة: مؤمنون في أماكن خاطئه

لا زلنا مع يعقوب عند لابان في حاران.  وقد رأينا كيف بدأت المتاعب هناك، وبدأ الحصاد للزرع الرديء، وبدأت المعاملات الإلهية التأديبية.  وإن كان قد رفض أن يسلك طريق الطاعة والخضوع والتسليم للرب، فإن عليه أن يخضع مُجبَراً للابان ويخدم سيداً من أردأ النوعيات.

وكما قال أحد الأفاضل: الله ليس عنده سوى ابن واحد بلا خطية.  لكن ليس عنده ولا ابن واحد في أولاده بلا تدريب.  فالكل يحتاج إلى ضغط الظروف لكي يتعلم.  ولأجل هذا كانت البرية ضرورة في سياسة الله ومعاملاته مع المؤمنين. 

لم يُسَلِّم يعقوب أمر زواجه أو أجرته للرب.  بل كما هي عادته، أراد أن يخطط ويدبر كل أموره بحكمته البشرية وذكائه الطبيعي.  وكان يقتحم الأمور ويتعقبها تعقباً.

«وكان للابان ابنتان، اسم الكبرى ليئة واسم الصغرى راحيل.  وكانت عينا ليئة ضعيفتين، وأما راحيل فكانت حسنة الصورة وحسنة المنظر.  وأحب يعقوب راحيل،  فقال: أخدمك سبع سنين براحيل ابنتك الصغرى.  فقال لابان: أن أعطيك إياها أحسن من أن أعطيها لرجل آخر.  أقم عندي.  فخدم يعقوب براحيل سبع سنين.  وكانت في عينيه كأيام قليلة بسبب محبته لها» (ع 16-20).

لقد سلك يعقوب بحسب الجسد، واختار طبقاً لمرأى عينيه.  وكان عليه أن يتعلم أنه «ليس كما ينظر الإنسان.  لأن الإنسان ينظر إلى العينين، وأما الرب فإنه ينظر إلى القلب» (1صم 7:16).  وكم من شباب ينخدعون بالجمال الطبيعي، مع أن الحكيم يقول: «الحسن غش والجمال باطل، أما المرأة المتقية الرب فهي تُمْدَح» (أم 30:31).  ولم يتوقع يعقوب أن راحيل ستسبب له الكثير من التعب والكدر والمَرَار.  إنه بجهل حدد الأجرة أن يخدم سبع سنين لكي يأخذ راحيل.  وبالطبع رحَّب لابان بهذا الاقتراح.  وكما قال عنه الكتاب: «لأجل امرأةٍ رَعى» (هو 12:12).

وما أبعد الفرق بين يعقوب هنا وبين عبد إبراهيم في يوم سابق، والذي ذهب إلى نفس المدينة حاران.  وعند البئر جلس مصلياً، يطلب بكل ثقة وهدوء، كالأمير، أن الفتاة التي أقول لها أعطيني لأشرب فتقول اشرب وأنا أسقي جمالك أيضاً، تكون هي الفتاة المُعَّينة لإسحاق.  وعندما جاءت رفقة وتحققت فيها العلامة، كان العبد يتفرس فيها صامتاً ليعلم أ أنجح الرب طريقه أم لا؟ وبكل أناة وتعقل كان يتحسس الطريق ليصل إلى فكر الرب وإلى الفتاة التي عيَّنها.  فالرب هو العارف القلوب والعارف المستقبل.  إنه إله أرواح جميع البشر.  لهذا كان إيمان العبد متعلقاً به ومستنداً عليه.  أما هنا في يعقوب فلا نرى شيئاً من هذا.  وإنما نرى العكس.  فيعقوب هو الذي يسقي غنم راحيل ولابان، ويخدم ويرعى.

كانت وصية أبيه له قبل أن يذهب إلى حاران أن لا يأخذ زوجة من بنات كنعان.  وكما قال أحدهم: إن كنعان معناها تاجر.  فالزواج ليس صفقة تجارية.  وهذا مبدأ أدبي هام لكل مُقبل على الزواج.  ولكن بالأسف ذهب يعقوب إلى أردأ تاجر وهو لابان.  ولابان يبيع كل شيء، حتى بناته، بأغلى ثمن لمصلحته الشخصية (تك 15:31).  كانت الأجرة سبع سنين خدمة شاقة لكي يأخذ راحيل زوجة.  وكانت في عيني يعقوب كأيام قليلة بسبب محبته لها.  وكانت أيضاً قليلة واحتاجت أن تتضاعف بسبب بطء تعلّمه في مدرسة الله.  والدروس الإلهية تسير دائماً ببطء ولكنها تتأصل وتتعمق في النفس مع السنين.  وعلينا أن نعرف أن الذكاء الطبيعي ليس هو الذكاء الروحي.  فكم من أذكياء في أمور الزمان ولكنهم أغبياء في فهم أمور الله.  والحكمة الإنسانية تختلف تماماً عن الحكمة النازلة من فوق. 

«ثم قال يعقوب للابان: أعطني امرأتي لأن أيامي قد كملت .. فجمع لابان جميع أهل المكان وصنع وليمة.  وكان في المساء أنه أخذ ليئة ابنته وأتى بها إليه.  فدخل عليها.  وأعطى لابان زلفة جاريته لليئة ابنته جارية.  وفي الصباح إذا هي ليئة» (ع 21-25). 

لقد تميّز يعقوب بذكاء حاد، وكان يعمل حساباً لكل صغيرة وكبيرة.  وهذا ما ظهر عندما دخل على إسحاق أبيه مُنتحلاً شخصية عيسو، وعمل كل الاحتياطات اللازمة لكي لا يكتشف أبوه حقيقته، فيكون في عينيه كمتهاون (تك 27).  والآن كيف لهذا الإنسان الذكي جداً أن ينخدع بهذه الصورة الغريبة في امرأته.  وطوال الليل لم يكتشف أنها ليئة إلا في الصباح؟  الأرجح أن لابان عمل الوليمة ليس ابتهاجاً بزفاف ابنته، وإنما لكي يُسْكِر يعقوب فلا يعلم بالأمر أو يتنبّه له.  والكتاب لم يذكر أنه عمل وليمة عظيمة، مع أنه كان غنياً.  وهذا أيضاً يدل على أنه تاجر.  وكان لابان يخطط بدهاء شديد، ودون أي تلميح بذلك، ليصنع أكبر وأغرب خدعة في التاريخ.  ويعقوب لم يخطر بباله قط أنه يمكن أن يحدث هذا.

كانت هذه هي الصدمة الثانية ليعقوب عند لابان.  فبعد خدمة شاقة لمدة سبع سنوات، وصبر وانتظار طويل وهو يحب راحيل، في الصباح إذا هي ليئة.  ولا شك أن هذه الصدمات كانت خبطات محسوبة من يد الرب المُؤدبة للتهذيب والتقويم والتعليم.  فكان الرب يريد أن يعلمه أن الاتكال على الجسد والذكاء الطبيعي والحكمة البشرية لا يفيد شيئاً.  وأن عليه أن يُسلِّم للرب طريقه ويتكل عليه وهو يُجري.

اغتاظ يعقوب جداً.  «فقال للابان ما هذا الذي صنعت بي؟ أليس براحيل خدمت عندك؟ فلماذا خدعتني؟ فقال لابان: لا يُفعَل هكذا في مكاننا أن تُعطَى الصغيرة قبل البكر.  أكمل أسبوع هذه، فنعطيك تلك أيضاً، بالخدمة التي تخدمني أيضاً سبع سنين أُخَر.  ففعل يعقوب هكذا .. فأعطاه راحيل ابنته زوجة له .. وأحب أيضاً راحيل أكثر من ليئة.  وعاد فخدم عنده سبع سنين أُخَر» (ع 25-30).

فالزواج ليس صفقة تجارية.  وهذا مبدأ أدبي هام لكل مُقبل على الزواج.

لقد تعلم يعقوب عند لابان ما لم يتعلمه عند أبيه في بئر سبع.  تعلم أن يحترم حقوق البكر وليس كما فعل مع عيسو.  وتعلم أن الذي يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضاً.  ففي يوم سابق كان يعقوب قد خدع أباه قائلاً: أنا بكرك عيسو.  وأخذ منه البركة.  لقد استغل ظلمة العمى التي لأبيه وكذب عليه.  والآن لابان استغل ظلمة الليل وبالمكر والدهاء خدع يعقوب وأعطاه ليئة بدل راحيل.  كان يعقوب يشعر بالظلم والألم والخداع.  فقد خدعه في مَنْ أحبها، وخدعه في أحلى يوم في حياته.  وبدلاً من أن يهنأ ويفرح بامرأته تكدّر.  لكن الروح القدس ذكَّره أنه فعل نفس الشيء إذ خدع أباه في مَنْ كان يحبه، وفي يوم خاص ومناسبة خاصة في حياته.  وهذه هي مدرسة الله التي نتعلم فيها تحت ضغط الظروف.

شعر يعقوب بالذل، ولم يكن أمامه سوى أن يقبل عرض لابان، ويوقّع صاغراً ومضطراً على العقد الجديد الذي استهلك من حياته سبع سنين أخر دون مبرر.

لقد أخذ ليئة وبعد سبعة أيام أخذ راحيل، ثم عاد فخدم بها سبع سنين مؤخراً.  ولا يذكر الكتاب أنها كانت في عينيه كأيام قليلة.         

 (يتبع)

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com