عدد رقم 6 لسنة 2003
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
الغراب   من سلسلة: من طيور الكتاب المقدس
ثانياً: موقف الإنسان من الغراب
1- بطلان الاتكال على الأشرار
نتساءل في حيرة .. ما الذي دفع نوح بأن يُرسل الغراب بعد انتهاء الطوفان؟ هل كان ينتظر أن يستكشف حالة الأرض من الغراب؟ أكان يتوقع أن يحصل على معلومات عن طريق الغراب؟!
إن واقع الحال يؤكد عكس ذلك تماماً، فنوح لم يستفد أي شيء من إرساله للغراب، فهو لم يحصل منه على أي خبر جديد.  لأن الغراب لم يعد إليه مرة أخرى، وعدم عودة الغراب لم تُضف إليه أية معلومة جديدة، إذ أن الغراب قد وجد مستقراً لرجله على الجيف المنتشرة بكثرة فوق المياه، والتي هي موجودة أساساً من بداية حدوث الطوفان، الأمر الذي جعله يضطر أن يُرسل طائراً آخر، وبالطبع لم يُرسل غراباً، بل أرسل حمامة. والذي استطاع فعلاً أن يحصل منها على معلومات مؤكدة عن حالة الأرض.  ففي المرة الأولى عندما عادت إليه مباشرة، إذ لم تجد مقراً لرجلها – إذ أن الحمامة تختلف تماماً عن الغراب، فهي كطائر طاهر لا يمكن أن تلمس قدماها جيفاً-  أكدت لنوح أن المياه ما زالت تغطي كل الأرض.  وفي المرة الثانية عادت إليه في المساء وفي فمها ورقة زيتون.  وكونها ظلَّت طوال اليوم بعيدة عن الفلك هذا أكد لنوح أن المياه قد تناقصت، حتى أن الحمامة استطاعت أن تجد مكاناً لقدميها. كما أن رجوعها ومعها ورقة زيتون، أظهر لنوح أن الأشجار قد أثمرت مرة أخرى، وعادت إلى الحياة بعد أن كانت مغمورة تماماً تحت المياه.
وفي الحقيقة كان هذا درساً نافعاً لنوح.  إذ كان يجب أن يُدرك جيداً أنه لا نفع يمكن أن يُرجى من وراء اتكاله على الغراب؟! ذلك الطائر النجس.  وفي الواقع أن هذا الدرس لا يحتاجه نوح فقط، بل نحتاج إليه نحن جميعاً.  وهو أن لا نضع ثقتنا على أي شيء منظور أياً كان، بل تتعلق قلوبنا وعيوننا على الله وحده.
ولقد كان الكتاب واضحاً في ذلك، وحذَّرنا من الاتكال عن الإنسان بصفة عامة .. فيذكر لنا إرميا تحذير الرب الصارم: «هكذا قال الرب: ملعون الرجل الذي يتكل على الإنسان، ويجعل البشر ذراعه، وعن الرب يحيد قلبه» (إر17 : 5).  فكم تكون الحالة عندما نتكل على الأشرار؟! يقول الحكيم في هذا الصدد: «سِنٌّ مهتومة، ورجلٌ مُخلَّعة. الثقة بالخائن في يوم الضيق» (أم25 : 19).
فإن كان داود قد جانبه الصواب عندما أراد أن يتخذ حميه يثرون عيوناً له في البرية، وأن يكون مرشداً للشعب أثناء ارتحاله.  وإن كان يثرون آنذاك قد اعترف بإله إسرائيل وذبح له (خر18: 11، 12)، إلا أنه رفض طلب موسى وأخزاه، وفضَّل أن يذهب إلى أرضه وعشيرته على أن يُرافق شعب الرب (عد10: 29-32).
أما آحاز الملك الذي أكثر من الشرور أمام الرب، فإنه في حيرته لم يلجأ حتى إلى من لهم علاقة بالرب -كما فعل موسى- بل لجأ بكل أسف إلى ملوك أشور الأشرار لكي يُساعدوه، عندما أرسل الرب عليه جيش أدوم.  وماذا كانت النتيجة؟ "فجاء عليه تلغث فلناسر ملك أشور وضايقه ولم يُشدده"؟! رغم أن آحاز أخذ قسماً من بيت الرب ومن بيت الملك ومن الرؤساء وأعطاه لملك أشور، ولكنه لم يساعده! (1أخ28: 16-21).
يا ليتنا نختبر ما اختبره ناحوم النبي الذي قال: «صالح هو الرب.  حصن في يوم الضيق، وهو يعرف المتوكلين عليه» (نا1 : 7).  حينئذ نختبر الحفظ الإلهي، والفرح الحقيقي، فينطبق علينا ما قاله داود: «ويفرح جميع المتكلين عليك.  إلى الأبد يهتفون، وتظللهم.  ويبتهج بك محبو اسمك» (مزمور  5 : 11).
لقد طوَّب الكتاب أناساً كثيرين، ومن ضمن من طوَّبهم، المتكلين على الرب، وهذا ما يذكره بنو قورح «يا رب الجنود، طوبى للإنسان المتكل عليك» (مز84 : 12).
عزيزي القارئ .. تُرى على من تتكل، وعلى من تضع ثقتك؟ واعلم جيداً أنك لن تحصد إلا ما زرعته، فإن كنت تتوقع خيراً ممن هم حولك، فاعلم أنه: «تكثر أوجاعهم الذين أسرعوا وراء آخر» (مز16 : 4).  ولكن إن كنت تضع ثقتك وكل اتكالك على الرب، فاعلم أيضاً أن كل من نظروا إليه استناروا ووجوههم لم تخجل (مز34 : 5)، بل يتم فيهم كلمات الرب بروح النبوة: "لا يخز بي منتظروك يا سيد رب الجنود.  لا يخجل بي ملتمسوك يا إله إسرائيل» (مز69 : 6).   
2- التباهي والتفاخر بالشر والفساد
قد نتعجب كثيراً أن نرى إنساناً يدعى اسمه «غراب»! فعادة تُطلق الأسماء بمعاني توحي بالعظمة والسلطان، أو توحي بصفات نبيلة راقية، أو توحي بمغزى روحي، كاستجابة صلاة، أو ما إلى ذلك.  فأن يدعو آدم امرأته «حواء»، فهذا كي ما يُظهر قصد الله من إحضارها له، إنها أم كل حي.  وأن يدعو أول ابن له «قايين»، فهذا يوحي باعتزازه به، إذ معنى كلمة قايين: اقتنيت رجلاً، وهكذا نرى في كل الكتاب أسماءً عديدة تحمل معانٍ رائعة.  ولكن أن يُسمي أحدٌ ابنه "غراب"، فهذا يدعو للدهشة والتعجب! فما الذي أعجبه في الغراب حتى أنه يُسمي ابنه به؟ إننا لم نسمع أن أحداً دُعيَ اسمه "حمامة"، أو"يمامة". غير أننا نقرأ أن أحد أميري مديان كان اسمه «غراب»؟! (قض7: 25)
وهذا يُرينا ميل الإنسان الرديء بحسب الطبيعة، إنه يفتخر بما هو نجس ورديء.  بل ويتباهى به .. «لأن الشرير يفتخر بشهوات نفسه» (مز10: 3).  ألا نجد من أول تاريخ الإنسان الافتخار بالشر.  وأن أول شعر نسمعه كان في تمجيد القسوة والشراسة.  ماذا يقول لامك- والذي كان أيضاً أول من أدخل مبدأ تعدد الزوجات- لامرأتيه عادة وصلَّة: «اسمعا قولي يا امرأتي لامك، وأصغيا لكلامي.  فإني قتلت رجلاً لجُرحي وفتى لشدخي.  إنه يُنتقم لقايين سبعة أضعاف، وأما للامك فسبعة وسبعين» (تك4: 23، 24).
ولا يعلم الإنسان في غبائه أن هذا الافتخار الدنس يؤدي به إلى الهلاك .. «الذين نهايتهم الهلاك الذين .. مجدهم في خزيهم الذين يفتكرون في الأرضيات» (في3 : 19).
فإن كان الأشرار يفتخرون بالنجاسة والشراسة، غير أننا لنا افتخاراً أسمى وأرقى بما لا يقاس، وهذا ما يدعونا إليه المرنم: «افتخروا باسمه القدوس» (مز105 : 3).  ويؤكده الرسول بولس في رسالتي كورنثوس: «من افتخر فليفتخر بالرب» (1كو1: 31؛ 2كو10: 17).
والعجيب أيضاً أن هناك مكاناً أُطلق عليه«صخرة غراب» (قض7: 25)، نسبة لأمير مديان «غراب»! لقد امتد اسم أمير مديان ليُطلق على مكان، لكن لأي سبب دُعي اسم المكان «صخرة غراب»؟ لأنه على ذات هذه الصخرة قد قُتل! (قض7: 25)
لقد افتخر أمير مديان وتباهى بالغراب، وها هو يموت على صخرة دُعيَ اسمها «صخرة غراب».  وبذلك صار هذا المكان مجالاً لافتخار شعب الرب بالانتصار الذي حققه لهم على أمير مديان «غراب».  كما اتخذ الرب من هذا المكان تذكاراً لشعبه، ليؤكد لهم ضمان نصرتهم على الأعداء .. «ولكن هكذا يقول السيد رب الجنود: لا تخف من أشور يا شعبي الساكن في صهيون.  يضربك بالقضيب، ويرفع عصاه عليك على أسلوب مصر.  لأنه بعد قليل جداً يتم السخط وغضبي في إبادتهم.  ويقيم عليه رب الجنود سوطاً، كضربة مديان عند صخرة غراب، وعصاه على البحر، ويرفعها على أسلوب مصر» (إش10 : 24-26).
كم هو سعيد من يجد سروره ومجده في الرب، قائلاً مع داود: «أما أنت يا رب فترس لي.  مجدي ورافع رأسي» (مز3 : 3). إنه حقاً ينطبق عليه كلمات بنو قورح: «طوبى لأناس عزهم بك» (مز84 : 5).
3- مع الله لا مجال للتفاؤل أو التشاؤم
إن من الأمور الشائعة في كل العالم هو انتشار ظاهرة التفاؤل والتشاؤم.  تلك الظاهرة المرتبطة بالوثنية، والتي مصدرها الشيطان، والتي لا أساس لها على الإطلاق عند الله. ونحن لسنا في صدد سرد أنواع التشاؤم والتفاؤل، غير أنه من الأمور الجديرة بالملاحظة، أننا لا نستطيع أن نحصر الأشخاص أو المخلوقات التي يمكن للإنسان أن يتفاءل بها، غير أننا يمكننا أن نجزم أن الناس جميعاً يتشاءمون من مخلوقات معينة .. في عالم الحيوان: "القطة السوداء"، وفي عالم الطيور: "الغراب"!!
غير أن ما هو شائع عند الناس لم يكن كذلك عند إيليا! فلو أُتيح لنا أن نسأل إيليا: ما هو شعورك عندما ترى غراباً؟ .. هل ينتابك حالة من الحزن والانقباض؟ هل تشعر بالضيق والقلق؟ وأتخيل إيليا يسرع بالرد قائلاً: إنني على العكس من ذلك تماماً، عندما أرى الغراب تنفرج أساريري، ويمتلئ قلبي بالفرح والسرور، إذ أنني أدرك مدى عناية واهتمام الرب بي، إن الغراب لا يولِّد فيَّ شعوراً بالخوف والقلق، بل شعوراً بالرجاء والأمل.  إذ كلما أرى الغراب يزداد يقيني بمحبة الرب الثابتة لي، والذي يحرص على إعالتي رغم حالة الجوع المنتشرة في كل الأرض.
وهنا يمكننا أن نفهم أحد الأسباب التي جعلت الرب يستخدم الغراب لتوصيل الطعام لإيليا.  إنه يريد أن ينقض ما هو شائع خطأ عند الناس, فذات الطائر الذي يتشاءم منه الناس معتبرينه مانع للخير والبركة، هو بعينه الذي يأتي بالخير والبركة لإيليا؟!
وفي الواقع إن البركة والخير ليسا مرتبطين بالمخلوقات المنظورة، بل بالله الحي الذي هو مصدر لكل الهبات والنعم.  وما أعظم هذه الحقيقة، والتي يُحاول عدو الخير أن يشوشر عليها تماماً، ليظل الإنسان في حالة فزع ورعب دائم من المجهول، متوقعاً في كل لحظة أن تصيبه كارثة أو مصيبة.  لكن كم نشكر الرب جداً، لأننا في كل الأحوال وفي كل الظروف نستطيع أن نقول مع داود: «إنما خير ورحمة يتبعانني كل أيام حياتي» (مز23: 6). ونقول ما قاله الرسول بولس: «ونحن نعلم أن كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله» (رو 28:8).
(يتبع)

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com