عدد رقم 6 لسنة 2003
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
يعقوب عند بئر حاران   من سلسلة: مؤمنون في أماكن خاطئه

انطلق في رحلته الطويلة، ولم يكن يعقوب قد عبر هذا الطريق من قبل.  وكان للحلم الذي رآه في ليلته الأولى، والمواعيد التي سمعها من الرب، أثرٌ كبيرٌ على نفسه.  لقد رفع الرب قلبه وشجّع نفسه الخائرة وأزال مخاوفه.  الثقل الذي كان يشعر به نفسياً عندما ترك البيت هارباً، قد تلاشى الآن، بعد أن تأكد من معية الرب وحفظه له وأنه يتكلم بالخير من جهته.  وهذا أعطاه طاقة جديدة وعزماً جديداً في الارتحال عبر القفار، فرفع رجليه وانطلق (ع 1).

ونحن لنا ذات الوعد الذي قاله الرب لتلاميذه بعد القيامة: «دُفِعَ إليَّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض .. وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر» (مت 18:28،20).  وبذلك نستطيع أن نواصل المسير والارتحال خلال هذا العالم المعاكس والبرية الصعبة. إنه الرفيق العظيم الذي يؤنس الرحلة ويضمن سلامة الوصول.  وإذا فقدنا الشعور بمعيته فإننا سنشعر بالوحدة وبثقل الرحلة ويعترينا الكلل والخوار.

وصل يعقوب بسلام إلى المحطة الأخيرة التي كان يقصدها، وحطّ رحاله عند بئر حاران.  سأل عن خاله لابان وعلم أن له سلامة، وفي ذات التوقيت جاءت راحيل ومعها غنم أبيها عند ذات البئر.  وهناك تقابل معها لأول مرة وكان اللقاء حاراً.  ويا لأعمال العناية المترفقة التي حملت الدليل على صدق المواعيد والرفقة الإلهية.

ليس بمحض الصدفة جاء يعقوب إلى هذه البئر ولا بمحض الصدفة جاءت راحيل في ذات اللحظة.  ولا توجد صُدف تحدث في عالم تحت السيطرة الإلهية.  بالمثل لم يكن بمحض الصدفة أن تعبر قافلة الإسماعيليين بالمكان الذي كان فيه إخوة يوسف وهم يفكرون في التخلص منه.  ولا كان بمحض الصدفة أن ينزلوا به إلى مصر (تك 25:37-28).

ولم يكن بمحض الصدفة أن ابنة فرعون تنزل إلى النهر لتستحم في ذات المكان وفي ذات اللحظة التي كان فيها السفط الذي يحوي موسى يعبر في النهر بين الحلفاء.  وعندما فتحت السفط ورأت الصبي العبراني يبكي، رقت له (خر 5:2،6).

ولم يكن بمحض الصدفة أن يذهب جدعون إلى طرف محلة المديانيين ويسمع واحداً يقص حلمه على صاحبه ويسمع تفسير صاحبه لهذا الحلم أن الرب قد دفع المديانيين ليده (قض 13:7،14).

ولم يكن بمحض الصدفة أن تصرخ الشونمية إلى الملك لأجل بيتها وحقلها في ذات اللحظة التي كان جيحزي يقص فيها على الملك جميع العظائم التي فعلها أليشع ومنها إقامة ابنها من الموت (2مل 3:8-5).

ولم يكن بمحض الصدفة أن طار نوم الملك أحشويرش في تلك الليلة التي أعد فيها هامان خشبة ليصلب عليها مردخاي، ويطلب سفر أخبار الأيام ويقرأ حادثة مردخاي الذي أنقذ حياته من مؤامرة اغتيال.  وهذا أدَّى إلى إنقاذ حياة مردخاي وتكريمه (إس 1:6-3).  إنه في كل التاريخ لا أحداث بالصدفة، ولا مقابلات بالصدفة، ولا تأخير بالصدفة، ولا فرص تأتي أو تضيع بالصدفة.  بل الله من وراء الستار «يعمل كل شيء حسب رأي مشيئته».

وبينما نلاحظ أمانة الله وعنايته وهو يقود يعقوب حتى وصل إلى هذه البئر حيث تقابل مع راحيل، فإننا لا نتجاهل فشل يعقوب المُحزن وتصرفاته الجسدية هناك. 

كنا نتوقع أنه بعد هذه الرحلة الطويلة وقد وصل بسلام إلى مقصده ووجد لابان سالماً وبيته سالماً وكل ما له سالماً، ورأى راحيل وانتعشت نفسه بمقابلتها.  كنا نتوقع أن يسجد للرب شكراً وحمداً.  لكن هذا لم يحدث.  وكما رأيناه في بداية الرحلة لم يركع ويصلي ويطلب وجه الرب في الرحلة الطويلة المليئة بالمخاطر، ها هو هنا لم يشكر من أجل سلامة الوصول وأعمال العناية المترفقة.  وبينما كان يفكر في الزواج ويقدم على هذا المشروع الخطير، لا نراه يصلي ويسلم نفسه بين يدي الرب القدير، ويطلب منه القيادة والإرشاد والنور الواضح والحفظ من الاستحسان الجسدي.  لقد كان مستقلاً عن الله ولم يتعلم حياة الاتكال والاعتمادية والشعور بالضعف والاحتياج إلى الرب.  بل كان شعاره بالأسف «على فهمك تعتمد».  ويا للخطورة! وما أبعد الفرق بينه وبين عبد إبراهيم الذي قبل سنوات طويلة جاء إلى ذات المكان، في مناسبة مشابهة، ليخطب زوجة لإسحاق.  وعند البئر أناخ الجمال وركع مصلياً وقائلاً: «أيها الرب إله سيدي إبراهيم، يسّر لي اليوم» (تك 12:24).  وهذا ما يليق بكل شخص مؤمن مقبل على الزواج. 

سلك يعقوب بالعيان وليس بالإيمان.  «ونظر وإذا في الحقل بئر وهناك ثلاثة قطعان غنم رابضة عندها لأنهم من تلك البئر كانوا يسقون القطعان» (ع2).

وهنا نقرأ لثالث مرة في الكتاب عن البئر.  المرة الأولى نجدها في سفر التكوين 7:16 بالارتباط مع هاجر عندما هربت من ساراي «فوجدها ملاك الرب على عين الماء في البرية .. لذلك دعيت البئر بئر لحي رؤي» (تك 7:16-14).  والبئر رمز للمسيح.  ونلاحظ هنا ثلاثة أشياء بارتباط بالبئر: أولاً، أنها في البرية.  فليس وسط المسرات العالمية نجد المسيح، بل في البرية بعيداً عن جاذبيات الأرض والتمتع الوقتي بالخطية.  في أرض ناشفة ويابسة بلا ماء.  ثانياً، أنها على عين الماء.  وهي صورة لكلمة الله، حيث نجد المسيح معلناً هناك.  ثالثاً، هناك أعلن الله ذاته، وهي دعت الرب الذي تكلم معها «أنت إيل رُئي».  إنه يظهر ذاته ويعلن ذاته للإنسان، وقد أعلن الله ذاته بأسمى إعلان في المسيح.

المرة الثانية: التي نقرأ فيها عن البئر نجدها في سفر التكوين 19:21 بارتباط أيضاً مع هاجر، حيث «فتح الله عينيها فأبصرت بئر ماء، فذهبت وملأت القربة ماء وسقت الغلام»؛ ولقد قال الرب يسوع «لا يقدر أحدٌ أن يُقبل إليَّ إن لم يجتذبه الآب الذي أرسلني» (يو 44:6).  ولا يقدر أحد أن يرى المسيح في حقيقته كابن الله الوحيد إلا عندما يفتح الله عينيه ليبصر.  كما فتح الله عيني هاجر فأبصرت البئر.  كذلك قال الرب يسوع لبطرس: «إن لحماً ودماً لم يعلن لك. لكن أبي الذي في السماوات هو أعلن لك (أن يسوع هو المسيح ابن الله الحي)» (مت 17:16).  إن الله هو الذي يفتح العين والقلب كما فتح قلب ليديا لتصغي إلى ما كان يقوله بولس (أع 14:16).  وبدون ذلك فإن الشيطان قد أعمى أذهان غير المؤمنين. 

والمرة الثالثة التي نقرأ فيها عن البئر هنا في سفر التكوين 2:29.  والبئر هنا هي المصدر الذي ترتوي منه القطعان وتجد الانتعاش.  فالله لا يعطي الحياة فقط بواسطة المسيح لكنه يعطي ما ينعش هذه الحياة أيضاً بواسطة المسيح يوماً فيوماً.

عند البئر كان هناك ثلاثة قطعان غنم رابضة.  ويمكن أن نرى في هذه القطعان الثلاثة التي تشرب من ذات البئر الذي يرمز للمسيح صورة لعائلة الله المكونة من ثلاث فئات: الآباء والأحداث والأولاد.  فالكل لا يجدون ارتواء إلا في المسيح.

وبدلاً من أن نجد يعقوب يسأل الرب من أجل الخطوة التالية نراه يسأل الرعاة عن لابان.  وجاءت الإجابة مشجعة أنهم يعرفوه وأن له سلامة وأن راحيل ابنته آتية مع الغنم.  فقال لهم: «هوذا النهار بعد طويل .. اسقوا الغنم واذهبوا ارعوا» (ع 7). 

لقد حضر يعقوب إلى هنا ليأخذ زوجة حسب نصيحة أمه.  ولكننا لا نتجاهل أنه جاء هارباً ومطروداً من البيت بسبب غضب عيسو.  لقد كانت هناك مشكلة حقيقية جعلته يترك البيت لينجي حياته.  ولم يكن السبب الرئيس هو الزواج، وربما كان هدفاً ثانوياً فرضته الظروف.  فلنحذر من أن نتخذ قراراً مصيرياً نتيجة ضغوط أو مشاكل عائلية أو نفسية، كرد فعل لهذه الضغوط.  إن الزواج هو فعل وليس رد فعل وينبغي أن يرتشد الشخص بفكر الله قبل أن يتخذ القرار. 

عندما رأى يعقوب راحيل أراد أن يصرف الرعاة بعيداً لكي يختلي بها.  وهو تصرف يناسب إنسان العالم وليس إنسان الله الذي يسلك في النور.  ويناسب شاباً صغيراً وليس شخصاً ناضجاً كان عمره حينئذ 77 سنة.

«وكان لما أبصر يعقوب راحيل بنت لابان خاله وغنم لابان خاله، أن يعقوب تقدم ودحرج الحجر عن فم البئر وسقى غنم لابان خاله» (ع 10).  هذا يلقي ضوءاً على خصائص يعقوب الطبيعية وما كان يتميز به من قوة جسدية وشهامة طبيعية.  إن كل الرعاة قالوا له لا نقدر أن نسقي الغنم حتى تجتمع جميع القطعان ويدحرجوا الحجر عن فم البئر (ع 8).  لكنه وقد رأى راحيل أراد أن يستعرض عضلاته وقوته أمامها فتقدم بمفرده ودحرج هذا الحجر الكبير وسقى غنم خاله.  وهذا أيضاً هو الجسد.

يشار إلى لابان «خاله» ثلاث مرات هنا.  وهذا يرينا تعلق يعقوب بأمه وشعوره بالانتماء الشديد لها، ممثلاً هنا في لابان أخيها، بعد أن حُرم من أمه ومن البيت.

«قبَّل يعقوب راحيل ورفع صوته وبكى.  وأخبر يعقوب راحيل أنه أخو أبيها وأنه ابن رفقة» (ع 11،12).  كانت راحيل تشبه رفقة أمه على الأرجح، وهو كان محروماً من أمه.  وبمجرد أن رآها تحركت عواطفه بشدة وأثارت في داخله حنيناً شديداً.  وكان شخصاً عاطفياً ويحب العلاقات الأسرية الدافئة.  القبلات والدموع تدل على أنه كان يتصرف بالعواطف وليس بالعقل الذي يميز الشخص الناضج.

كان يرسم في ذهنه صورة معينة وشكل معين لمن يرتبط بها بغض النظر عن مشيئة الله.  وعندما رأى هذا الشكل منطبقاً على راحيل تعلق بها وأحبها من أول نظرة.  لقد أحب راحيل لأنها كانت حسنة الصورة وحسنة المنظر.  وليس لأنها كانت تقية أو مطيعة أو وديعة ومتواضعة.  وكان عليه أن يتعلم مع الأيام أن «الحُسن غش والجمال باطل أما المرأة المتقية الرب فهي تُمدَح (أم 30:31).

كل هذا يرينا تصرفات الجسد المحزنة التي ميّزت يعقوب في البداية والتي احتاجت الكثير من المعاملات الإلهية للتقويم والتهذيب والتشكيل.
«فكان حين سمع لابان خبر يعقوب ابن أخته أنه ركض للقائه وعانقه وقبَّله وأتى به إلى بيته .. فقال له لابان إنما أنت عظمي ولحمي.  فأقامك عنده شهراً من الزمان» (ع 13،14).

خطة رفقة بدت أنها تحققت بشكل جيد.  يعقوب رحل بعيداً عن عيسو بمسافة كبيرة تحقق الأمان.  وصل بسلام دون خسائر أو أذى.  راحيل لم تُظهر استياءً من تصرفه وتعبيره عن مشاعره وعواطفه، وقبلت ذلك بسرور.  لابان نفسه أظهر كل الترحيب والاستقبال الحار له في بيته لمدة شهر من الزمان.

إن الرب الطيب لا يحرم المؤمن، حتى الذي تصرف بالجسد، من أعمال العناية المترفقة.  طالما هذه العناية لا تعطل التدريبات الإلهية له.  وهو يعرف متى يلامس بحنان ومتى يضغط بعمق وهو يشكل الإناء كما يحسن في عينه.

(يتبع) 

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com