عدد رقم 5 لسنة 2003
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
من شخصيات الكتاب المقدس  

أُنيسيفُورُس

هناك نخبة من الكواكب اللامعة التي سطعت في أحلك الأوقات ظلمة حيث تلألآت بجمال بديع آخّاذ؛ ولذلك لم يجد الروح القدس بداً من تسجيل أسمائهم وأعمالهم ولو بصورة محدودة.  فقد أفسح الروح القدس للبعض منهم مساحة صغيرة ربما في كلمات أو سطور، وذلك بالقياس للكثيرين الذين امتلأت بهم صفحات الوحي مدونة سيرتهم وأعمالهم.

أما هنا فنحن بصدد إحدى الكواكب التي كان لها بريقها الخاص خاصة في عيني الرسول بولس.  فها هو يجتر على بعض الذكريات العطرة المنعشة للنفس وهو في سجنه الأخير في روما.  فبينما هو في زنزانته الرطبة المعتمة إذ بهذا الكوكب يبزغ فجأة، لا مبدداً ظلمة الزنزانة كما فعل الملاك مع الرسول بطرس (أع 7:12)، بل بمحيا أشرق على نفس الرسول الوحيدة آنذاك فأنعشها حيث كان قد ارتد عنه جميع مسيحي آسيا؛ أولئك الذين كان لهم نصيباً وافراً من تعليم الرسول كماً ونصيباً في أفراح الشركة معه، ها هم الآن بعد إلقاء القبض عليه يتنكرون له وقد أداروا ظهورهم له باستثناء أفراداً قلائل شاركوه يوماً الأفراح واليوم يقتسمون معه الأحزان الأمر الذي نقش في قلب الرسول العظيم ومن هذه النخبة التي سطر الرسول أسماؤهم في رسالته الأخيرة التي كتبها إلى تيموثاوس من إحدى سجون روما، يذكر الرسول في الأصحاح الأول من هذه الرسالة الأخيرة اسم أنيسيفورس ففي هذا المكان فقط (2تي 16:1-18) نقرأ للمرة الأولى والأخيرة عن هذا الكوكب الذي يلمع فجأة حينما نقرأ تلك الرسالة ثم يتوارى بنفس السرعة ليقضي مع الرسول أيامه وكلماته الأخيرة في رسالة تذخر بكل المشاعر والعواطف الإنسانية.

إن تقرير الرسول عن هذا الرجل يوقفنا أمامه قليلاً لنرى ما يحمله الرجل من صفات نادرة في يومه.  فقد ذكر بولس لتيموثاوس حقيقة كان يعلمها تيموثاوس جيداً «أنت تعلم هذا أن جميع الذين في أسيا ارتدوا عني» وبقلب يملؤه الأسى ذكر بولس لتيموثاوس ثلاث عينات من هؤلاء:  

العينة الأولى: «فيجلُّس وهرموجانس» اللذان يُعتبرا من طليعة المرتدين عن الرسول والأرجح أنهما حركا تيار الارتداد ضد بولس مما يرجح زعامتهما لهذا التيار (2تي 15:1).

العينة الثانية: «هيمينايس وفيليتس  .. اللذان زاغا عن الحق، قائلين: إن القيامة قد صارت فيقلبان إيمان قوم» (2تي 8:2).

أما العينة الثالثة: فتحمل اسمي «ينيس ويمبريس» اللذان قاوما موسى (2تي 8:3)، وهم عينة وصورة لمن كانوا يقاومون الحق الصحيح الذي كان يقدمه بولس، ففي جو التخلي الجماعي عن بولس يسطع نجم «أُنيسيفورس» في صورة رائعة جميلة وموقف كريم نبيل يعكسه ارتداد الجميع وقد أورد الرسول خدمة هذا الأخ في ثلاثة عبارات مقتضبة وإن كانت تحوي الكثير من التعليم والفائدة الروحية والأدبية لنفوسنا:

  1. العبارة الأولى: أنه مراراً كثيرة أراحني.
  2. العبارة الثانية: لم يخجل بسلسلتي.
  3. العبارة الثالثة: طلبني بأوفر اجتهاد.

    1- في العبارة الأولى، نلمس فيها أحشاء وعواطف أنيسيفورس من نحو بولس.  فحينما كان بولس يكرز بإنجيل المسيح ويعلِّم تعليم المسيح في أفسس لمدة ثلاث سنوات (أع 31:20) وجد بولس في جو وصفه لمؤمني كورنثوس قائلاً: «إن كنت كإنسان قد حاربت وحوشاً في أفسس» (1كو 32:15) فما أكثر المتاعب التي لاقاها بولس هناك إلا أنه وجد في أنيسيفورس مصدراً بشرياً للراحة والإنعاش لأنه بلا شك قد اهتم أنيسيفورس بكل أحوال الرسول صحياً ومعنوياً، بل مصدراً سخياً لمشاركة الرسول نفقات المعيشة مادياً.  إن مدلول كلمة الرسول «أراحني» ترينا العواطف الرقيقة والخدمة الحنونة واللمسة الحبية.

    ويبدو هذا الحب جميلاً عندما تحيط بالنفس سحابة من الكراهية والمقاومة، ونحن نتساءل اليوم: بأي روح نتعامل معاً؟ وبأي أسلوب نتكلم؟ وما هي الكيفية العملية التي نظهر بها مشاعر قلوبنا نحو القديسين.  ولنسأل أنفسنا صراحة: هل نحن مصدراً لإنعاش وإراحة القديسين؟ أيهرعون للاستدفاء بجلساتنا أن يهربون منها؟ أيجدون فينا لطفاً جاذباً أم صرامة منفرة؟ وهل أيدينا دافئة عند التحية أم باردة؟ أهي خشنة أم ناعمة؟

    2- والعبارة الثانية، نرى فيها إخلاصاً ووفاءً؛ فالقول «لم يخجل بسلسلتي» يؤكد ذلك.  لقد كان الإخلاص والوفاء لصديق مثل بولس قي ذلك الوقت مخاطرة كبيرة قد تجلب لصاحبها متاعب كثيرة، هذا من جانب، ومن الجانب الآخر نرى وفاء أنيسيفورس ممثلاً في كونه سبح ضد التيار المناهض لبولس ولم ينضم إلى الأغلبية التي تخلت عن الرسول.  وربما لو كان أنيسيفورس بيننا اليوم لأتهم بصنع شقاق في الجماعة لأنه لم يسبح مع التيار وكأن الموافقة الظاهرية دون الاقتناع العقلي والقلبي هي كل المطلوب في نظر البعض للمحافظة على الشكل العام الخارجي للجماعة، ورغم هذه الوحدة الظاهرية قد تكون هناك انشقاقات وتحزبات وخصومات الأمور التي جعلت الرسول بولس يقوم بتحريض مؤمني كورنثوس للاجتهاد لكي يكون الجسد صحيحاً من الناحية العملية، أي بلا تمزقات (1كو 10:1).

    إن مدلول كلمة الرسول «أراحني»
     ترينا العواطف الرقيقة والخدمة الحنونة واللمسة الحبية

    3- أما العبارة الثالثة، نرى فيها الشجاعة والإقدام في البحث عن صديق استنكف الكثيرون وقتئذ أن ينسب لهم علاقة به.  في هذه الأثناء كان أنيسيفورس قد عرف بسجن بولس، فذهب إلى روما في رحلة بحث مضنية عن سجين اسمه بولس في إحدى سجون روما الكثيرة متنقلاً من سجن إلى آخر بحثاً في سجلات المساجين عن بولس ولم يهدأ له بال ولم يسترح له بدن حتى وجد بولس «طلبني بأوفر اجتهاد فوجدني».  فكانت تلك الشجاعة المضحية التي لم تكن تعني بالخسائر سبباً لإنعاش الرسول. 

    لكن ماذا عن أولئك الذين تحولوا عنه؟ ها هم يمارسون عبادتهم من غير أن تتحرك شعرة من رؤوسهم إزاء الرسول في محنته.  أليس هذا هو حال الكثيرين بيننا اليوم؟ ليتنا جميعاً نجتهد في السعي باحثين عمن تعثروا في الطريق وأولئك الذين يجتازون ظروفاً ضيقة أو من انحنت نفوسهم تحت ثقل التجربة أو المرض.  إن بولس يقول عن أنيسيفورس إنه: «طلبني».  إن أنيسيفورس لم يرحِّب به في اجتماع روما مهنئاً إياه بالخروج من السجن، بل لقد سعى تاعباً طالباً إياه.

     فما أحوجنا إلى هذه الروح وهذا القلب الذي يرفع الثقل عن نفس انحنت تحت وطأة التجربة أو العثرة أو الاحتياج.  إننا أمام أنيسيفورس نطأطئ الرأس خجلاً.

    وأخيراً لقد كانت صلاة الرسول لأجل هذا الأخ أن يعطيه الرب«أن يجد رحمة من الرب في ذلك اليوم»، ففي يوم قادم سينال هذا الأخ مجازاة مستحقة أمام كرسي المسيح إذ كان من حين لآخر يضيف ثمراً متكاثراً لحسابه (في 17:4) إذ قد قُبلت خدمته كنسيم رائحة طيبة ذبيحة مقبولة مرضية عند الله (في 18:4).

    الذي له المجد والكرامة والسلطان.  

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com