عدد رقم 5 لسنة 2003
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
الغراب   من سلسلة: من طيور الكتاب المقدس

نستكمل حديثنا عن صفات وطباع الغراب:

4- بلا ولاء أو وفاء:

لقد أرسل نوحٌ مرةً الغراب، ومرةً أخرى الحمامة.  وما أبعد الفارق من تصرف الاثنين.  لقد خرج الغراب ولم يعد مرة أخرى إلى الفلك، في حين أن الحمامة - في المرَّتين التي أرسلها فيها نوح - رجعت إليه.  إن الغراب لا يعرف الانتماء، لا صديق له، فرغم أنه مكث في الفلك مدة كبيرة، ما يقرب من ستة أشهر، ولا شك أنه تمتع بعناية نوح له، فهو الذي كان يُطعمه طوال هذه المدة، إلا أنه عندما خرج من الفلك، ووجد أمامه هذا الكم الهائل من الجيف، لم يُفكِّر أن يرجع إلى الفلك.  فهو من ناحية يُفضِّل هذه الجيف عن الطعام الذي كان يُقدمه له نوح، ومن ناحية أخرى لا يشعر بأي انتماء لولي نعمته الذي اهتم واعتنى به!!

ألا يُذكرنا هذا بكلمات الرب الأسيفة عن شعبه: «الثور يعرف قانيه والحمار معلف صاحبه، أما إسرائيل فلا يعرف. شعبي لا يفهم» (إش 3:1).  ما أردأ أن تتحجر العواطف مُتجاهلة يد النعمة الغنية الممدودة بكل ترحاب، لتُقدِّم ما نحتاج إليه؟!  يُشير الرب عن ذلك بالقول: «لأن شعبي عمل شرَّين: تركوني أنا ينبوع المياه الحية، لينقروا لأنفسهم آباراً، آباراً مشققة لا تضبط ماء» (إر 13:2).

 أيمكن أن يصل جحود الإنسان إلى هذه الدرجة؟ أيمكن أن تنطق الشفاه بمثل هذه الكلمات: «ابعد عنا، وبمعرفة طرقك لا نُسر.  من هو القدير حتى نعبده؟ وماذا ننتفع إن التمسناه؟» (أي 14:21،15).  هذا بكل أسف ما حدث، ليس فقط من الناس الأردياء، بل حتى من شعبه الذي تمتع بعنايته ورعايته.  الذي اختبر يد الله المنعمة الصالحة، والذي يوبخهم موسى قائلاً: «وأفسد له الذين ليسوا أولاده عيبهم، جيل أعوج ملتوٍ. ألرب تكافئون بهذا يا شعباً غبياً غير حكيم؟ أليس هو أباك ومقتنيك، هو عملك وأنشأك؟» (تث 5:32،6).  ويستكمل موسى حديثه قائلاً: «فسمن يشورون ورفس.  سمنت وغلظت واكتسيت شحماً! فرفض الإله الذي عمله، وغبي عن صخرة خلاصه» (تث 15:32).

ليتنا نأخذ لأنفسنا من ذلك دروساً نافعة، ويكون لسان حالنا ما قاله بطرس للرب، وكان محقاً في قوله: «يا رب، إلى من نذهب؟ كلام الحياة الأبدية عندك» (يو 68:6). وبذلك ينطبق علينا كلمات الرب: «يدعو خرافه الخاصة بأسماء ويخرجها.  ومتى أخرج خرافه الخاصة يذهب أمامها، والخراف تتبعه، لأنها تعرف صوته» (يو 3:10،4)، وأيضاً: «خرافي تسمع صوتي، وأنا أعرفها فتتبعني» (يو 27:10).

5-الجفاء وتبلد المشاعر:

يتكلم الرب لأيوب متسائلاً عن مَنْ الذي يعتني بفراخ الغربان، وهي ما زالت صغيرة في عشها - إذ أن من طبائع الغراب أن لا يعتني أو يُطعم صغاره - قائلاً: «من يهيئ للغراب صيده، إذ تنعب فراخه إلى الله، وتتردد لعدم القوت؟» (أي 43:38).

 يا لها من مشاعر باردة يُظهرها الغراب لفراخه! تماماً كما يفعل النعام (مرا 3:4).  وإن كنا نرى في عالم الطيور من يتصفون بالجفاء والقساوة، ألا نتعجب من أن نرى هذه الصفة في الإنسان الذي نفخ فيه الله من روحه، والذي من طبيعته تبارك اسمه المحبة، والرأفة والحنان؟! ألا نندهش عندما نقرأ كلمات إرميا عن حالة شعب الله وقد أظهروا الجفاء والقساوة، تماماً كما نراها في عالم الطيور قائلاً: «بنات آوَى أيضاً أخرجت أطباءها (حلمات ثديها)، أرضعت أجراءها (صغارها).  أما بنت شعبي فجافية كالنعام في البرية» (مرا 3:4)؟  وكم نتعجب أن نرى أُماً تذبح ابنها وتأكله؟! (2مل6).  الأمر الذي أشار إليه إرميا بأسف وحسرة، قائلاً: «أيادي النساء الحنائن طبخت أولادهنَّ.  صاروا طعاماً لهنَّ» (مرا 10:4).

    بحسب الترجمة اليسوعية: "لقد أفسد الذين ليسوا ببنيه لعيبهم"، وبحسب الترجمة التفسيرية: "لقد اقترفوا الفساد، ولم يعودوا له أبناء بل لطخة عار".

وإن كان الشيطان عن طريق الخطية أفسد طبيعة الإنسان، ونجح في أن يُشوِّه خليقة الله الصالحة، إلا أن الله لا يمكن أن تفشل مقاصده من نحو الإنسان الذي جبله، فإن كنا ورثنا الصفات الرديئة من الإنسان الأول، إلا أننا اكتسبنا كل الصفات الرائعة من الإنسان الثاني، وانطبق علينا القول: «كما هو السماوي هكذا السماويون أيضاً» (1كو 48:15؛ وأيضاً 2كو 17:5).

فبولس الذي كان يوماً مضطهداً ومفترياً .. ينفث تهدداً وقتلاً (1تي 13:1؛ أع 1:9)، صارت له بعد أن تقابل مع الرب ذات صفات وطباع المسيح.  إذ نسمعه يقول لمؤمني تسالونيكي: «كنا مترفقين في وسطكم كما تربي المرضعة أولادها، هكذا إذ  كنا حانين إليكم، كنا نرضى أن نعطيكم، لا إنجيل الله فقط بل أنفسنا أيضاً، لأنكم صرتم محبوبين إلينا» (1تس 7:2،8).  كما يقول لمؤمني فيلبي: «فإن الله شاهد لي كيف أشتاق إلى جميعكم في أحشاء يسوع المسيح» (في8:1).

ليتنا نجتهد أن تظهر فينا مثل هذه العواطف التي مصدرها الله، مستمعين إلى نصيحة الرسول بولس: «فالبسوا كمختاري الله القديسين المحبوبين أحشاء رأفات، ولطفاً، وتواضعاً، ووداعة، وطول أناة» (كو 12:3).

6- يسكن الخرائب:

نعرف من سفر إشعياء 11:34 أن من عادات الغراب أنه يسكن الخرائب والأماكن المُوحِشة.  فبعد أن تكلم إشعياء عن القضاء الذي سيوقعه الرب بأدوم، ومدى الخراب الذي سيحدث فيها .. «قتلاهم تُطرح، وجيفهم تصعد نتانتها، وتسيل الجبال بدمائهم ... لا يكون من يجتاز فيها » (إش 3:34،10). وبذلك يُصبح هذا المكان موضعاً مناسباً لسكنى أنواع شتى من الطيور، والذي من بينها :"الغراب"!

وليس هذا بالأمر الغريب على الغراب بعد أن تعرفنا عن بعض صفاته، إن الذي يهوى الجيف، لن يجد مكاناً يناسبه سوى الخرائب!

يا له من مكان كئيب هذا الذي يجد فيه الغراب مأوى يحلو أن يسكن فيه؟! أي جو نجس فاسد مثل هذا؟ أيمكن أن مكان يملأ الموت أرجائه يُصبح مسكناً مريحاً للغراب؟! هذا بالفعل هو واقع الغراب.

لكن ألم تكن هذه طبيعة حياتنا قبل الإيمان؟ فلم نكن نفرق كثيراً عن الذي كان مجنوناً يسكن القبور (مر5:5)، إلى أن سمعنا الصوت الذي بعث فينا الحياة والرجاء قائلاً: «استيقظ أيها النائم وقم من الأموات فيضيء لك المسيح» (أف 14:5).
 ما أروع عمل المسيح فينا، نحن الذين كنا أمواتاً بالذنوب والخطايا. نسكن في أرض قد ضُربت باللعنة، وصارت تنبت شوكاً وحسكاً (تك 18:3). تماماً كالأرض التي يصفها إشعياء، والتي هي مكان سكنى الغراب (إش 13:34).  غير أن الآب له كل المجد «أنقذنا من سلطان الظلمة، ونقلنا إلى ملكوت ابن محبته» (كو 13:1)، وبعد أن كنا نسكن في عالم الموت والإثم «أهَّلنا لشركة ميراث القديسين في النور» (كو 12:1).  فما أمجد وأروع سيدنا الكريم المبارك!

7- سواده الحالك:

لعل ما يُميز الغراب عن سائر الطيور لون ريشه الأسود الداكن، فلا يوجد اثنان يختلفان عن تحديد لون الغراب.  فمثلاً قد نختلف إذا أردنا أن نُحدد لون العصفور الشائع في بلادنا المصرية، هل هو يميل إلى البني، أم الرصاصي؟ أما الغراب فهو يشتهر بلونه الأسود الفاحم.  فلو وقف الغراب بين كثير من الطيور، يُمكننا بسهولة أن نميزه سريعاً دون أي تردد أو خطأ.

ولست أعلم هل أعتبر هذا ميزة، أم عيب؟! قد يكون ميزة لأنه يُعلن عن نفسه بسواده الشديد.  وقد يكون أيضاً عيب لأن اللون الأسود ليس من الألوان المبهجة عند غالبية الناس، إذ أنه يُثير فيهم كثير من الانقباض والتشاؤم.

وإن كان هذا هو حال الغراب، فما هو حالنا نحن؟ إذ علينا أن نكون واضحين وظاهرين، وهذا ينطبق ليس فقط على الأشرار، بل أيضاً على أولاد الله.  يقول الرسول يوحنا: «أولاد الله ظاهرون، وأولاد إبليس» (1يو10:3).

فإن كان الأشرار يُعلنون عن أنفسهم بحياتهم الآثمة والمستبيحة، فعلينا نحن أيضاً أن نظهر حياة المسيح فينا.  الأمر الذي يُؤكد عليه الرسول بولس بالقول: «لأننا رائحة المسيح الذكية لله، في الذين يخلصون وفي الذين يهلكون» (2كو 15:2).  وأيضاً: « أنتم رسالتنا .. معروفة ومقروءة من جميع الناس.  ظاهرين أنكم رسالة المسيح» (2كو 2:3،3).

غير أن ما يبُغضه الرب تماماً أولئك غير الواضحين، والذين لا يظهرون بشكل واضح، فعن هؤلاء يقول الرب: «أنا عارف أعمالك، أنك لست بارداً ولا حاراً.  ليتك كنت بارداً أو حاراً! هكذا لأنك فاتر، ولست بارداً ولا حاراً، أنا مزمع أن أتقيأك من فمي» (رؤ 15:3،16).  فهؤلاء عندما تراهم مع الأشرار تجدهم يسبقونهم في الشر والفساد، وعندما تراهم مع القديسين تجدهم أكثر حماساً وغيرة في الأمور الروحية. إنهم يتفوقون في أي وسط يوجدون فيه! وعن أولئك يُصرِّح الرب قائلاً: «لماذا لي كثرة ذبائحكم .. اتَّخمت من محرقات كباش وشحم مسمنات، وبدم عجول وخرفان وتيوس ما أُسرُّ .. لست أطيق الإثم والاعتكاف.  رؤوس شهوركم وأعيادكم بغضتها نفسي.  صارت عليَّ ثقلاً.  مللت حملها.  فحين تبسطون أيديكم أستر عيني عنكم، وإن كثَّرتم الصلاة لا أسمع.  أيديكم ملآنة دماً.  اغتسلوا.  تنقَّوا.  اعزلوا شر أفعالكم من أمام عينيَّ.  كفوا عن فعل الشر.  تعلَّموا فعل الخير.  اطلبوا الحق» (إش1: 11-17).   

ليتنا نُدرك ذلك يقيناً، ويتم فينا رغبة الرسول بولس المقدسة: «يُتصوَّر المسيح فيكم» (غل4: 19).

(يتبع)

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com