عدد رقم 4 لسنة 2003
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
الغراب   من سلسلة: من طيور الكتاب المقدس

هل تعلم:

أن الغراب يبلغ طوله في المتوسط حوالي 60سم.  وهو يتغذى على الثمار والحبوب والحشرات والديدان والقواقع والطيور وصغار الثدييات، وعلى الجيف، ولذلك اُعتبر الغراب على أجناسه من الطيور النجسة (لا11: 15 وتث14:14)،  ويُضرب به المثل في لونه الأسود الحالك(نش 5: 11)، ويوجد في كل مناطق العالم باستثناء جنوبي المحيط الهادي. كما يوجد بكثرة في فلسطين ووادي الأردن وهو يعيش في الخرائب (إش 34: 11).

أولاً :صفاته

1-ميله إلى الجيف:

إن الغراب لا يعرف أن يهاجم فريسة ويأكلها، كما يفعل النسر مثلاً، إنما يمكنه التغذي على أي كائن ميت. وهو بذلك يختلف كثيراً عن الطيور والحيوانات الكاسرة، والتي لا يمكن أن تقترب من الجيف على الإطلاق، بل تقتنص بنفسها فريستها الحية، ومن ثم تأكلها!

ويا لها من صفة غريبة .. إن الجيف النتنة ذات الرائحة الكريهة العفنة، يجد الغراب فيها طعاماً مقبولاً، بل وشهياً له؟!

إن ما نتعجب منه هنا في عالم الطيور، نجده يحدث في عالم الإنسان الفاسد البعيد عن الله، وليس في أننا نجده يميل إلى الجيف الحرفية، بل إلى ما تُشير إليه الجيف، بل هي أكثر رداءة وفساد منها، إنها تلك الممارسات الرديئة التي يصفها الرسول بولس بأنها «أعمال الظلمة»، والتي استصعب أن يستفيض في شرحها إذ أن «ذكرها أيضاً قبيح» (أف 5: 12).

هل نندهش ونستنكر ذلك؟! استمع معي إلى ما يقوله الرسول بولس وهو يصف حالة الناس البعيدين عن الله: «مملوئين من كل إثم، وزنا وشر وطمعٍ وخبث، مشحونين حسداً وقتلاً وخصاماً ومكراً وسوءاً، نمامين مفترين، مبغضين لله، ثالبين متعظمين مدعين، مبتدعين شروراً، غير طائعين للوالدين، بلا فهم ولا عهدٍ ولا حنو ولا رضى ولا رحمة. الذين إذ عرفوا حكم الله أن الذين يعملون مثل هذه يستوجبون الموت، لا يفعلونها فقط، بل أيضاً يُسرُّون بالذين يعملون» (رو1 : 29-32).

وكم نشكر الرب جداً، فلقد كان فينا صفات قبل الإيمان نقشعر الآن حينما نتذكرها، لكننا تمتعنا بغُسل الميلاد الثاني، وانطبق علينا كلمات الرسول بولس: «إن كان أحدٌ في المسيح فهو خليقة جديدة: الأشياء العتيقة قد مضت، هوذا الكل قد صار جديداً» (2كو5 : 17).

 وهذا ما يؤكده أيضاً الرسول في قوله: «أم لستم تعلمون أن الظالمين لا يرثون ملكوت الله؟ لا تضلوا: لا زناة ولا عبدة أوثان ولا فاسقون ولا مأبونون ولا مضاجعو ذكور، ولا سارقون ولا طماعون ولا سكيرون ولا شتامون ولا خاطفون يرثون ملكوت الله.  وهكذا كان أناسٌ منكم.  لكن اغتسلتم، بل تقدستم، بل تبررتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا» (1كو6 :9-11).

2- الشراهة والنهم:

كما نجد أن الغراب يجد لذة عارمة وهو يأكل الجيف! فهو ينهش فيها بكل شغف ومتعة، وهذا ما يُشير إليه الحكيم وهو يتكلم عن العين المُستهزئة بأبيها: «العين المستهزئة بأبيها، والمحتقرة إطاعة أمها، تقوِّرها  غربان الوادي، وتأكلها فراخ النسر » (أم30 : 17).  فهو لا يأكل فحسب، كما ذُكر عن النسر هنا، بل يأكل بنهم وشراهة، إنه «يقوِّر» ..  أي ينهش لحم الفريسة؟!

وإن كنا نتعجب مما يفعله الغراب مع الفريسة، إلا أن تعجبنا يزداد ونحن نرى ما يفعله الإنسان البعيد عن الله، والذي لا يجد أي حرج في فعل الرذيلة، بل يمارس الشر بكل بساطة وسهولة كأنه أمر معتاد، والذي يصفه أليفاز التيماني بالقول: «مكروه وفاسد الإنسان الشارب الإثم كالماء!» (أي 15 : 16)، وليس ذلك فقط، بل إنه: «يُسَّر بالإثم» (2تس2: 12).

   بحسب الترجمة اليسوعية:  تفقأها، وبحسب الترجمة التفسيرية:  تقتلعها.
   وإن كنا نرى في ذلك قضاء الله الصارم لمن يَخِلُّ بترتيبه، وما أعلنه عن لزوم احترام وإكرام الوالدين. فهو من ناحية أعطى وعداً لمن يُكرم الوالدين (خر20: 12)، ومن ناحية أخرى أعلن عقابه لمن يهين ويحتقر الوالدين.  ولعل شريعة الابن المارد خير دليل على ذلك (تث21: 18-21).

وإن كانت هذه هي طبيعة الغراب .. النهش في الجيف ، كما أن طبيعة البعيد عن الله .. التلذذ بالإثم، إلا أن طبيعة المولود من الله غير ذلك تماماً.  إنه ليس فقط «لا يُسر بالإثم»، بل «يُبغض الإثم»، وأيضاً «يُحب البر»، وهو بذلك يتشبه بمن صار مرشداً ومثالاً لنا، والذي قيل له: «أحببت البر وأبغضت الإثم» (مز45: 7).

من أجل ذلك كم هو أمر محزن جداً أن نجد مؤمناً حقيقياً، وقد اختبر حياة القداسة والطهارة، وقد تغذى بالمسيح، الذي هو: «خبز الله .. النازل من السماء» (يو6: 33). وتلذذ بكلمة الله، التي هي: «أشهى من الذهب والإبريز الكثير، وأحلى من العسل وقطر الشهاد» (مز10:19).  يَحِنُّ مرة أخرى إلى الأمور القديمة، بما فيها من دنس وفساد!!

لقد تمتع الشعب قديماً بعد أن تحرر من نير فرعون، وهو منطلق إلى أرض ميراثه بأفخر طعام ألا وهو «المَن» .. الذي يصفه آساف بالقول: «بر السماء .. خبز الملائكة» (مز78: 24، 25)، إلا أننا نجدهم يحنُّون إلى طعامهم القديم، مُظهرين سأمهم من هذا الطعام الجديد، قائلين لموسى: «قد تذكرنا السمك الذي كنا نأكله في مصر مجاناً، والقثاء والبطيخ والكراث والبصل والثوم.  والآن قد يبست أنفسنا.  ليس شيء غير أن أعيننا إلى هذا المن!» (عد11: 5، 6). يا للحسرة عندما تعزف أنفسهم عن الطعام الأرقى قائلين عنه: «كرهت أنفسنا الطعام السخيف» (عد21: 5)، وتحِنُّ للدون!!

ليتنا ندرك جيداً أن لنا طعاماً يختلف تماماً عن طعام العالم .. فكأطفال حديثي الإيمان لنا «اللبن العقلي العديم الغش»، وهو نافع لنمونا (1بط2:2)، وكبالغين لنا «الطعام القوي»، وهو نافع لتمرين حواسنا على التمييز بين الخير والشر (عب5: 14).

 إن كانت طبيعة الغراب - غير الطاهر والنجس -  هو أن ينهش لحم الفريسة، لكن ألا نتعجب، بل ونرتعب أن يذكر الرسول بولس عن مؤمني غلاطية أنهم ينهشون بعضهم بعضاً!! إذ أننا نقرأ توبيخه لهم: «فإذا كنتم تنهشون وتأكلون بعضكم بعضاً، فانظروا لئلا تفنوا بعضكم بعضاً؟!» (غل5 : 15). فكم هو أمر مؤسف أن يصل حال المؤمنين الذين صاروا أطهاراً، والذين يجب أن يتصفوا بالوداعة والتواضع كسيدهم (مت11: 29)، أن تظهر فيهم هذه الصفة الرديئة، والتي هي من نتاج الطبيعة القديمة الفاسدة.

عندما أرسل نوح الغراب من الفلك بعد الطوفان، يذكر الكتاب أنه: «خرج متردداً» (تك8: 7). وهذه صفة أخرى للغراب، التردد .. إنه لا يستقر في مكان محدد، بل سريع التنقل من مكان إلى آخر. وكأنه لا يعرف ماذا يريد بالضبط. إن أمامه كم رهيب من «الجيف»، تلك التي يهواها ويجد سروره فيها، إلا أننا نجده ينتقل من واحدة إلى أخرى، رغم أنها لا تفترق كثيراً عن بعض؟!  

وهذا ما يتصف به أيضاً الإنسان البعيد عن الله:  «رجل ذو رأيين هو متقلقل في جميع طرقه » (يع1: 8).  مسكين الإنسان عندما ينحرف عن الله ويُحاول أن يجد استقراره بالانفصال عنه .. عبثاً يُحاول، وهيهات أن يحصل على راحة البال والاستقرار الذي يبتغيه .. إنه يسري عليه قضاء الرب الذي قاله لقايين: «تائهاً وهارباً تكون في الأرض» (تك 12:4). نعم، «تكثر أوجاعهم الذين أسرعوا وراء آخر» (مز4:16). وسيظل الإنسان هكذا إلى أن تُختم حياته في تيه وضلال أبدي، ويتم فيهم قول يهوذا: «أمواج بحر هائجة مزبدة بخزيهم.  نجوم تائهة محفوظ لها قتام الظلام إلى الأبد» (يه13).

ولكن كم نشكر الرب جداً، وقد هدى خطواتنا إلى طريق السلام، وعرفناه كالراعي الصالح، الذي يعرف أن يضمنا إليه، حيث يُربضنا .. ليس أمام جيف، بل في مراعٍ خضر ..  ويوردنا، ليس إلى مياه القضاء والدينونة، بل إلى مياه الراحة.  وبذلك لنا أن نردد مع داود: «بسلامة اضطجع بل أيضاً أنام، لأنك أنت يا رب منفردا في طمأنينة تُسَكِّنني» (مز8:4).

(يتبع)

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com