«قام في اليوم الثالث حسب الكتب» (1كو 4:15)
7- نبوة اليوم الثالث أو الثلاثة الأيام والثلاث الليالي(12)
الثلاثة الأيام والثلاث ليالي واختبارات يونان النبي
(يون 17:1؛ مت 4:12، 21:16)
مجمل سفر يونان هو هذا: [ يونان يُدعَى لتأدية الشهادة أمام نينوى العظيمة، فيفشل في مهمته ويحاول الهروب من أمام الرب. وفي طريق هروبه ينزل إلى سفينة. وإذ يُلقى في البحر يكون سبباً في خلاص النوتية من النوء العظيم. بينما يغوص هو في أعماق البحر مُجتازاً في ضيقة، يقذفه بعدها الحوت، وإذا هو على البر مرة أخرى كالمُقام من الأموات في اليوم الثالث (يون 17:1)، وعندئذ يصير له قول الرب مرة ثانية قم واذهب إلى نينوى المدينة العظيمة فيذهب وينادي لها فتتوب نينوى وتخلص بأهلها وبهائمها].
وفي هذه القصة البسيطة نرى صورة كاملة لمشورات الله ومقاصده من نحو سكان الأرض والسماء. وفي ذلك يقول خادم الرب الفاضل الأخ/ تشارلس ماكينتوش: "لقد أشار الرب في إنجيل متى إلى يونان إشارتين مختلفتين تدل الأولى (مت 40:12) على أنه كان رمزاً لموت ربنا يسوع المسيح ودفنه وقيامته من الأموات في اليوم الثالث، وتدل الثانية (مت 4:16) على أنه كان رمزاً لأمة إسرائيل الفاشلة في خدمتها. هاتان الإشارتان هما بمثابة مفتاحين لقسمي هذا السفر العجيب، فإذا جملناهما في بالنا استطعنا أن نطلع على ما فيه من أسرار وكنوز".
لقد دعا الرب يونان لكي يؤدي الشهادة أمام نينوى المدينة العظيمة وهنا نرى دعوة أمة إسرائيل لكي تكون شاهدة لله ولحقّه في وسط هذا العالم الشرير (رو 17:2-20؛ رو 1:3-3؛ إش 10:43). ولكن يونان فشل وأراد أن يهرب من وجه الرب، وهكذا أيضاً فشلت أمة إسرائيل في المهمة التي اختارها الله لأجلها (رو 21:2-24؛ يون 3:1). وهنا يحدث تغيير كبير نراه في الخطوة الثانية التي خطاها يونان والتي أدت إلى إلقائه في البحر وغيابه كلية عن المشهد (بحسب الظاهر) وحلول النوتية محله في معرفة الله ومخافته لأن الله لا يترك نفسه بلا شاهد.
دخل يونان السفينة وإذا بنوء عظيم يهب عليه وعلى النوتية. صحيح أنه كان هو المقصود بالذات لأنه رجل الله لكنه في حالة العصيان، والله له معاملة خاصة مع عبيده المرتبطين به، ولكن هل أتى النوء العظيم ظلماً وعدواناً على النوتية؟ ألم يكونوا هم أيضاً «أبناء المعصية» مرتدين عن الله وعبدة أوثان؟ (يون 4:1،5). وهنا نرى الإنسان بصفة عامة سواء أكان يهودياً أم أممياً، كلاهما يستحقان النوء العظيم. وفي ذلك يتم قول الرسول في رومية 18:1: «لأن غضب الله معلن من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم (الأمم)، الذين يحجزون الحق بالإثم (اليهود)».
ولكن الله يتنازل بالنعمة فيخلص الاثنين بالإيمان «لأن الله أغلق على الجميع معاً (أمم ويهود) في العصيان، لكي يرحم الجميع» (رو 32:11).
حاول النوتية أن يخلِّصوا أنفسهم بمجهوداتهم ولكنهم أيقنوا أخيراً أنه ليس من وسيلة للنجاة والخلاص من هلاك محقق سوى إلقاء يونان في البحر، فألقوه، وإذا بالبحر يهدأ من هيجانه. وهنا نرى صورة الوقت الحاضر أو بالحري رفض إسرائيل وقبول الأمم. وهذا الموضوع الخطير هو الذي يعالجه الرسول في رسالة رومية أصحاحات 9-11 وخاصة في الأصحاح الحادي عشر. فإن كنا نرى في نينوى المدينة العظيمة صورة العالم في مجموعه، ففي النوتية الذين يمثلون شعوب وقبائل مختلفة، بدليل أن كل واحد منهم كان يصرخ إلى إلهه، نرى صورة مؤمني العهد الجديد الذين يدعوهم الرب «من كل قبيلة ولسان وشعب وأمة» (رؤ 9:5؛ رو 11:11؛ أع 25:28-28).
وإن كنا نرى في النوتية أيضاً صورة لاتجاه نعمة الله إلى الأمم كأفراد في الوقت الحاضر، فإننا نرى في يونان صورة أمة إسرائيل الغائصة في بحر العالم (مت 21:21؛ رؤ 15:17؛ لا 33:26؛ مز 11:44).
وكما نرى في إلقاء يونان إلى البحر رفض إسرائيل وطرحهم جانباً وقتياً، نرى فيه أيضاً موت وقيامة ربنا يسوع المسيح. وما أعجب أن تقترن الصورتان في رمز واحد؛ إذ في الواقع يمكن اعتبارهما صورة واحدة. فموت سيدنا له المجد كان معناه رفض أمة إسرائيل، إذ بصلبه أكملت مكيال شرها. وهذا ما نراه في إشارتي الرب المختلفتين إلى يونان: «جيل شرير وفاسق يطلب آيةً، ولا تُعطى له آية إلا آية يونان النبي. لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيامٍ وثلاث ليالٍ، هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال» (مت 39:12،40) هذا هو الصليب وموت المسيح. والإشارة الأخرى «جيل شرير فاسق يلتمس آية، ولا تعطي له آية إلا آية يونان النبي. ثم تركهم ومضى» (مت 4:16) وهذا هو رفض إسرائيل .. تركهم ومضى .. «هوذا بيتكم يُترك لكم خراباً» (مت 38:23).
على أن الرسول لا يريدنا نحن الأمم أن نجهل هذا السر «لئلا تكونوا عند أنفسكم حكماء: أن القساوة قد حصلت جزئياً لإسرائيل إلى أن يدخل ملء الأمم، وهكذا سيخلص جميع إسرائيل» (رو 25:11،26). فيونان الذي يرمز لموت الرب يسوع المسيح ودفنه وقيامته من الأموات في اليوم الثالث، يرمز أيضاً إلى البقية التقية من الشعب القديم، مطروحة في البحر (بحر الأمم)، ولكنها ستعود من شتاتها راجعة إلى البر - في اليوم الثالث - لتكون سبب خلاص للأمم الذين سيدخلون معهم إلى الملك الألفي السعيد .. وهكذا نصل إلى القول: «وأمر الرب الحوت فقذف يونان إلى البر» (يون 10:2).
وهنا يبدأ القسم الثاني من السفر إذ نقرأ «ثم صار قول الرب إلى يونان ثانية قائلاً: قم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة، وناد لها المناداة التي أنا مُكلمك بها» (يون 1:3،2). وهذه الكلمة «ثانية» لها معناها العظيم في هذا المكان. فعندما تفشل المسيحية المعترفة في واجبها كشاهدة لله في هذا العالم تُقطع إلى الأبد بعد أن تكون الكنيسة الحقيقية قد اختُطفت إلى السماء. أما في حالة البقية الإسرائيلية فالقساوة الحاضرة جزئية وسيعود تاريخها يتصل من جديد ويصير لهم قول الرب ثانية لكي يقوموا ويذهبوا للمناداة للعالم مرة أخرى بعد أن يكونوا قد اجتازوا في الضيقة العظيمة التي تجعلهم يصرخون للرب ويكون لسان حالهم فيها كلسان حال يونان في جوف الحوت. ومَنْ يقارن بين لغة صلاة يونان من جوف الحوت ولغة مزامير البقية في الأيام الأخيرة يستطيع أن يميز أن الروح واحد في الاثنين. فالضيق الذي اجتازه يونان في الأصحاح الثاني هو صورة للضيقة العظيمة التي ستجتاز فيها البقية التقية، وفي اليوم الثالث يظهر يونان مرة أخرى ويُستخدم كأداة للبركة لأهل نينوى. وهذه هي صورة مسبقة لرجوع إسرائيل إلى الرب عندما يُحضرون إلى مكان البركة في العصر الألفي السعيد ويستخدمهم الله بركة لكل العالم (رو 11:11،12،15؛ إش 1:60-5، 1:62-3).
وهكذا يعود السفر من الأصحاح الثالث يكلمنا من جديد عن نينوى، ويعرض أمامنا صورة تختلف عن صورة الأصحاحين الأولين كل الاختلاف. فالصورة الثانية لا تمثل لنا أفراد الأمم كما رأيناهم في النوتية، بل تحدثنا عن العالم أجمع، بل عن الخليقة كلها - ليس الناس فقط - بل والبهائم أيضاً. وهذا ما نراه في نداء الملك وعظمائه «لا تذق الناس ولا البهائم ولا البقر ولا الغنم شيئاً. لا ترع ولا تشرب ماء. وليتغط بمسوح الناس والبهائم» (يون 7:3،8). وأيضاً في قول الله في ختام السفر «أفلا أشفق أنا على نينوى المدينة العظيمة التي يُوجد فيها أكثر من اثنتي عشرة ربوة من الناس .. وبهائم كثيرة؟» (يون 11:4).
إذاً فموضوع الصورة الثانية يختلف عن موضوع الصورة الأولى كل الاختلاف فيما يتعلق بناحية الأمم. ففي حالة النوتية لا نقرأ أنه كان معهم بهائم، بل بالحري إن كان هناك شيء ميزهم فهو إلقاؤهم الأمتعة في البحر لكي تخفف السفينة. وإن جاز لنا أن نستخلص لأنفسنا تعليماً روحياً من هذا فهو الذي قد نراه في قول الرسول «لنطرح كل ثقلٍ، والخطية المحيطة بنا بسهولة، ولنحاضر بالصبر في الجهاد الموضوع أمامنا»
على أن هذا ليس هو كل ما يميز تلك الصورة الثانية - صورة العالم بعد انتهاء دور الكنيسة ورجوع البقية اليهودية لتأدية شهادتها من جديد - بل هناك شيء آخر هام وهو أن الصورة الأولى تتميز باسم «الرب» بينما الصورة الثانية تتميز باسم «الله» وخاصة في الكلام عن نينوى (يون 5:3-10)، لا بل حتى في علاقته بيونان اليهودي نبدأ في عدد 6 من الأصحاح الرابع نقرأ «الرب الإله» وإذ نصل إلى عدد 9 نقرأ «فقال الله ليونان». وما أبعد الفرق بين هذا وبين «وصار قول الرب ليونان» وهي العبارة التي تتردد في الجزء الأول من الصورة.
هل يتصور أي مؤمن له دراية بكلمة الله أن هذا الاختلاف في الاسم جاء اعتباطاً؟ ليس هكذا يعلمنا الروح القدس الذي له مقصد في كل كلمة وفي كل لفظ. وكأن الله في ختام سفر يونان يعود بنا إلى اسمه الكريم في مستهل سفر التكوين - اسمه كالخالق الذي يحنو ويشفق على خليقته - الله (ألوهيم) الذي هو اسم الله في علاقته مع الخليقة التي صنعها وعملها ويحفظها. بينما الاسم «الرب» (يهوه) ففيه التعبير عن الله في صفاته الأدبية والروحية وكمن شاء أن يدخل في علاقة وشركة مع الإنسان.
وهذا يطابق تعليم الرسول في الأصحاح الثامن من رسالة رومية عندما يتكلم عن الخليقة الذُّلى (البهائم والبقر والغنم وما عداها) ونصيبها السعيد في مُلك المسيح الألفي إذ يقول: «أُخضعت الخليقة للبُطل - ليس طوعاً، بل من أجل الذي أخضعها - على الرجاء. لأن الخليقة نفسها أيضاً ستُعتق من عبودية الفساد إلى حرية مجد أولاد الله» (رو 20:8،21). هذه هي البركة التي سينالها العالم كنتيجة للإيمان بكرازة البقية اليهودية كما آمن أهل نينوى بمناداة يونان.
هذا هو ملخص الصورة النبوية التي يرسمها أمامنا هذا السفر العجيب والتي تتناول تاريخ الإنسان من أوله إلى آخره - الخليقة الساقطة المُعطاة مع ذلك حياة جديدة، رفض إسرائيل، اتجاه النعمة للأمم، البقية اليهودية المحفوظة وسط الضيقة العظيمة، الأمم أو العالم بصفة عامة قابلاً الكرازة بالملكوت، وفوق كل ذلك - التاج والأساس لكل هذه الحقائق - المسيح باذلاً نفسه ومُقاماً من الأموات، الله الخالق الذي عليه رجاء الأمم، الله المخلص المكتوب لنا عنه «قليلٌ أن تكون لي عبداً لإقامة أسباط يعقوب، ورد محفوظي إسرائيل. فقد جعلتك نوراً للأمم لتكون خلاصي إلى أقصى الأرض» (إش 6:49) .. حقاً إننا إزاء هذه الصورة لا يسعنا إلا أن نهتف مع الرسول قائلين: «يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه! ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء! .. لأن منه وبه وله كل الأشياء. له المجد إلى الأبد. آمين» (رو 33:11-36).
(يتبع)