عدد رقم 4 لسنة 2003
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
راحاب الفتاة التي رفعها الله من المزبلة   من سلسلة: شابات الكتاب المقدس

تحدثنا في عدد سابق عن واحدة من شابات الكتاب المقدس ظهرت في التاريخ على عهد يشوع بن نون، القائد العظيم الذي أتى خلفًا لموسى رجل الله، وذلك عندما حان وقت دخول الشعب إلى  أرض الموعد بقيادة يشوع.  وهذه الشابة مع أن ماضيها كان ملطخًا بسواد الخطية، لكنها آمنت بالرب، فتغير مسارها، وتبدل مصيرها.

لقد ظهر إيمان راحاب من قولها للجاسوسين: «علمت أن الرب قد أعطاكم الأرض، وأن رعبكم قد وقع علينا، وأن جميع سكان الأرض ذابوا من أجلكم، لأننا سمعنا كيف يبَّس الرب مياه بحر سوف قدامكم عند خروجكم من مصر، وما عملتموه بملكي الأموريين اللذين في عبر الأردن: سيحون وعوج، اللذين حرَّمتموهما.  سمعنا فذابت قلوبنا ولم تبق بعد روح في إنسان بسببكم» (يش2: 9-11).

وهذه العبارات التي فاهت بها راحاب إنما تدل على أن الإيمان ليس وهمًا أو خيالاً، بل هو مبني على حقائق تاريخية ثابتة «علمت .. لأننا سمعنا.. سمعنا فذابت قلوبنا».  لكنه ليس مجرد معرفة حقائق تاريخية، فهذه المعرفة وحدها لن تجعلنا بحال أفضل من رجال أريحا، وهو ما لم تكنه راحاب كما سنرى الآن.

تأملات في إيمان راحاب

لقد كان إيمان راحاب حيًا وعمليًا، مما دفع الرسول بولس لأن يذكرها في سحابة الشهود جنبًا إلى جنب مع أبطال الإيمان.  وإننا نجد العديد من المشابهات بين راحاب وإبراهيم، فكلاهما كانا وثنيًا في البداية، وكلاهما وصلته دعوة من الله، وكلاهما أظهر إيمانًا قلبيًا عظيمًا إذ تجاوب مع هذه الدعوة، وأظهر طاعة لها، كما أن كليهما أظهر قدرًا من التضحية.

ونلاحظ أن الإيمان دائمًا يرتبط بتضحية ما.  فإيمان إبراهيم جعله يخرج تاركًا الأرض والعشيرة والأهل.  وبعده أتى موسى، وإيمانه جعله يرفض أعظم مركز في أعظم دولة في زمانه، ويرفض الغنى العظيم، ومتع الخطية.  وكذلك هنا أيضًا، فإن إيمان راحاب أنهى كل علاقاتها القديمة، بل وعرضها للمخاطر الجمة.

من القصة التي وردت في يشوع 2 نتعلم أن راحاب عملت عكس تعليمات ملك البلاد، مع ما في ذلك من ضغوط نفسية، وإمكانية تعرضها للموت لو عُرف الأمر.  وهي إن كانت تصرفت هكذا فذلك لأنه كان لديها تعليمات من سلطة أعلى.  لقد كان هناك تعارض بين ولائها للملك ولوطنها، وولائها لله ولرسله.  وهو نادرًا ما يحدث في الظروف العادية، ولكنه إن حدث، فعلى الواجب الأقل أن يفسح المجال للواجب الأعظم.  وهو ما فعلته راحاب هنا، إذ كان شعارها ما عبر عنه الرسول بطرس بعد ذلك، عندما قال لرؤساء أمة اليهود: «ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس» (أع 5: 29).

لكن الإيمان، وإن كان يضحي، فإنه يربح أضعاف ما يخسر. هذا ما حدث مع إبراهيم في يومه، وما حدث مع موسى من بعده، وهو عين ما حدث مع هذه المرأة، التي لم يكن لها أية قيمة فيما قبل، لكن الإيمان رفعها وأعطاها وضعًا خاصًا وعظيمًا، إذ أدخلها في علاقة جديدة مع الله ومع شعبه، كما سنرى.

وما أجمل لغة اليقين في كلام راحاب مع الجاسوسين، فهي لم تقل لهما: "ربما تكون لكم الأرض"، أو "لعل الله يحسن إليكم، ويعطيكم إياها"، بل قالت: «علمت أن الرب قد أعطاكم الأرض».  هذه هي لغة الإيمان، وهي تشبه كلمة «نعلم» التي كثيرًا ما ترد في العهد الجديد.  إن اليقين هو لغة الإيمان دائمًا.

عمل الإيمان وتعب المحبة وصبر الرجاء

دعنا نتأمل في هذه المنظومة الثلاثية الرائعة كما ظهرت في راحاب: عمل الإيمان، وتعب المحبة، وصبر الرجاء.

  • عمل الإيمان:
    لقد تحدث الرسول يعقوب عن الإيمان وحده (يع2: 24)، أي الإيمان الذي لا يصاحبه عمل الإيمان، وقال عنه إنه ميت في ذاته (يع2: 17).  وعندما تحدث يعقوب عن الذين تبرروا بالأعمال، ذكر لنا مثالين هما إبراهيم وراحاب.  قال يعقوب إن راحاب تبررت بالأعمال إذ قبلت الرسل.  وقبلها قيل عن إبراهيم في عبرانيين 13 إنه أضاف ملائكة.  وكلمة «ملائكة» تعني بحسب اللغة العبرية: رسلاً.  مرة أخرى نحن نجد التشابه بين إبراهيم وراحاب.

    ومن اللافت أن العمل الذي ذكره الرسول لكل من إبراهيم وراحاب، لم يكن بحسب موازين البشر عملاً ممدوحًا، بل هو «عمل الإيمان»، وكان بما يتوافق مع إعلان الله الذي وصل إلى كل منهما.  أجل، فهل ما عمله إبراهيم عندما همَّ بذبح ابنه يعتبر في ذاته عملاً يمدحه الناس عليه؟  العكس هو الصحيح، فهو عمل يعاقب عليه القانون البشري عقوبة قاسية، باعتباره مرتكبه قاتلاً من أردأ أنواع القتلة، إذ شرع في قتل ابنه.  ومرة ثانية، هل ما عملته راحاب عندما خبأت الجاسوسين في بيتها، ولم تسلمهما لملك البلاد، يعتبر عملاً صالحًا بمفهوم البشر؟ العكس هو الصحيح، فإن ذلك جريمة يعاقب عليها القانون أيضًا بالإعدام، باعتبار مرتكبه خائنًا لوطنه في زمن الحرب مع العدو.  ولذلك فدعنا لا ننسى أن يعقوب لم يقل إن التبرير هو بالأعمال الخيرية جنبًا إلى جنب مع الإيمان، ولا هو بأعمال البر التي يقوم بها الإنسان، لكنه قال إنه بعمل الإيمان، أي بالإيمان الحقيقي الحي، الذي لا يتوقف عند حد العقيدة أو حد الكلام.

    ولذلك فإن راحاب لم تقل للجاسوسين: أنا أؤمن بأن الرب هو الله، وأنه أعطاكم الأرض، لكن لا تطلبوا مني شيئًا أكثر من ذلك، لأني في وضع لا يسمح لي بأن أعمل أي شيء. لقد سمعت راحاب أخبارًا عن الله وعن شعبه، وعن قصده من جهتهم، وهي لما سمعت تلك الأخبار صدقتها، من ثم فقد تجاوبت مع ما سمعت، واتخذت قرارًا وموقفًا. لقد قررت أن يكون الرب هو إلهها، وأن يكون شعبه هو شعبها.  وبذلك فقد كان إيمان راحاب إيمانًا قلبيًا، كما كان حقيقيًا. 

    ولذلك فكم توبخ راحاب جمهورًا لا يُحصى من مجرد المسيحيين المعترفين، ذوي الإدعاء  الفارغ.  فراحاب لم تكن من هذا النوع.  وكانت أعمالها برهانًا على حقيقة إيمانها وحيويته.  وفي قصة الابن الضال الواردة في لوقا 15 لم يكتفِ ذلك الابن، وهو في الكورة البعيدة، بأن قارن بين حاله وحال الأجرى في بيت أبيه، ولا اكتفى بالقول: «أقوم وأذهب إلى أبي»، بل نقرأ: «فقام وجاء إلى أبيه». هذا هو الإيمان الحي والإيمان الحقيقي.
  •  تعب المحبة:
    إن كانت راحاب قد أظهرت - كما نتعلم من قصتها الواردة في يشوع 2 - خوفًا تَقويًا تجاه الرب، وإيمانًا مطلقًا بكلمته، وشوقًا ورجاءً في رحمته. فإنها بالإضافة إلى ذلك أظهرت أيضًا قلبًا يعطف على شعبه، واستعدادًا للبذل وللتضحية بأية خسارة، ولو بالنفس.
    نعم لقد أظهرت راحاب لا عمل الإيمان فحسب، بل أيضًا تعب المحبة.  لقد آمنت بالله، لكنها أيضًا أحبت شعبه، وضحت بنفسها في سبيله.  لقد عرضت نفسها للخطر، وذلك لكي تنجي الجاسوسين!

    ويقول الرسول بولس للعبرانيين «إن الله ليس بظالم حتى ينسى عملكم، وتعب المحبة» (عب6: 10).  ونحن إن كنا رأينا الآن كيف ضحى إبراهيم بالولد، وكيف ضحت راحاب بالوطن، وخاطرت بنفسها، لكن دعنا لا ننسى أنه عندما ضحى إبراهيم بالولد، فقد حصل عليه ثانية بالقيامة، وسمع القول من فم الرب: «يتبارك في نسلك جميع أمم الأرض» (تك22: 18).  وعندما ضحت راحاب بالوطن، وخاطرت بالنفس، فقد صار لها نصيب في وطن أفضل، كما أنها ربحت حياة شريفة نظيفة بين شعب الله، وصارت جدة لذلك النسل الذي فيه تتبارك جميع أمم الأرض.
  • صبر الرجاء:
    بالإضافة إلى عمل الإيمان الذي ميز بداية سيرة راحاب في الوحي، وتعب المحبة الذي ظهر تاليًا لعمل الإيمان، فإننا أيضًا نلمح في تاريخها صورة مضيئة لصبر الرجاء. فلقد أنزلت راحاب الجاسوسين بحبل القرمز، وفي الحال ربطت هذا الحبل في الكوة التي أنزلت الجاسوسين منها.  إن راحاب لم تنتظر حتى يصل الجاسوسين إلى الأرض، بل بمجرد أن ذهبا ربطت حبل القرمز من الكوة، في انتظار صبور لتحقيق الرجاء بالخلاص النهائي. 

    وهي تذكرنا بإيمان المسيحيين الأوائل، الذين رجعوا إلى الله من الأوثان ليعبدوا الله الحي الحقيقي، وينتظروا ابنه من السماء.  هؤلاء المؤمنون لم يضعوا عامل الزمن في الاعتبار.  وكما اعتبر هؤلاء أن المسيح قد يعود في أية لحظة، وأن عليهم أن يكونوا له بانتظار، الليل والنهار، هكذا فعلت راحاب هنا عندما علقت الحبل فور رجوع الجاسوسين إلى يشوع، منتظرة اللحظة المرتقبة لسقوط أسوار أريحا، لتسعد مع شعب الله في أرض عمانوئيل.

    عزيزي القارئ: جميل أن تدخل إلى باب بيت راحاب، بيت الإيمان، ذاك البيت الذي يميزه الحبل القرمزي، وأن تنهي علاقتك وإلى الأبد مع أريحا (التي تشير إلى هذا العالم المقضي عليه)، ولا يصبح لك أية أماني أو تطلعات إلى مدينة الهلاك هذه، وألا تتطلع وأنت في بيت الإيمان، إلا من كوة الرجاء.

    لقد كان بيت راحاب على السور.  ومن كوة بيتها كانت ترى الشعب وهو يدور دائرة المدينة. وكأنها كانت تردد مع كل دورة: «إن خلاصنا الآن أقرب مما كان حين آمنا» (رو13: 11). نعم لقد كانت تعلم أن وقت الخلاص قريب، ففي سقوط أسوار أريحا، الخلاص الكامل والنهائي لها.  وماذا نرى نحن الآن إذ نتطلع من كوة الرجاء؟ ألا نرى أن كل ما حولنا يصيح بأعلى صوته أن الرب: «قريب، على الأبواب»؟! 

    أخي العزيز، أختي الفاضلة: لا يكفي أن نكون في البيت، داخل الباب، في أمان.  فماذا عن الكوة؟  في رومية 5: 1و2 بعد أن تحدث الرسول عن الدخول بالإيمان (الباب)، وعن الإقامة في النعمة (البيت)، فإنه تحدث عن (الكوة) فقال: «ونفتخر على رجاء مجد الله».  لذا دعني أسألك: هل أنت متيقن أنك في دائرة الأمان، محمي في دم المسيح؟  إن الأمر جد خطير ولا يحتمل التأجيل أو الترجيح. فهل أنت متيقن أنك في الأمان؟ وإن كانت الإجابة نعم، فدعني أسألك أيضًا: هل كواك مفتوحة لترى ما يحدث من حولنا بذهن مستنير، وآذان مترقبة لسماع صوت رئيس الملائكة وبوق الله، هذا الصوت الذي يقينًا سنسمعه عن قريب جدًا؟ 

  (يتبع) 


© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com