عدد رقم 1 لسنة 2003
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
اعتذارات موسى  

مما سبق أصبح واضحاً لنا أن الرب أغلق على موسى كل سبل الهروب من هذه الدعوة وهذه الإرسالية العظمى فلم يعد الآن لموسى حُجة من جهة عدم الثقة في ذاته.  ففي القول «إني أكون معك» كل الكفاية، ولم يعد لديه حجة من جهة النقائص الطبيعية فعبارة «إني أكون مع فمك» أوصدت كل الأبواب للتراجع.

  وكنا نتوقع بعد كل هذه الإقناعات والمشجعات الإلهية أن يقول موسى للرب: "هأنذا ذاهب"، إلا أننا نفاجأ بقول موسى «استمع أيها السيد».  وإنني أستطيع أن أرى في نبرة صوت موسى الأولى «استمع أيها السيد» نبرة الأسى والحزن لما يعانيه من نقص طبيعي في طلاقة وفصاحة اللسان كحال الكثيرين الذين يحملون في جوانحهم ذلك الشعور لسبب تلك النقائص.  

أما في قوله ثانية: «استمع أيضاً أيها السيد» نرى فيها نبرة الصوت الحاسم الحازم في اتخاذ القرار النهائي بعدم الذهاب، وذلك القرار تم التعبير عنه بالقول: «أرسل بيد مَنْ تُرسل» أي بمعنى أرسل من تشاء غيري.  أي إن كنت أنت يا سيد تريد أن ترسل رجلاً لإخراج شعبك فأرسل من تشاء من البشر، على ألا يكون هذا الرجل هو موسى.  لكن لماذا أجاب موسى الرب هكذا؟  إننا نرى في هذا الاعتذار الثالث والأخير لموسى أحد الجوانب التي يتم إغفالها، وهي تتعلق بالناحية النفسية في شخصية الخادم خاصة، وفي المؤمنين عامة، مع أنه من الجوانب المؤثرة في حياتنا، فلا غرابة أن نرى أن الجانب النفسي هو من مكونات الكائن البشري عامة ويجب أن ندرك أنه لا ارتباط بين هذا الاعتذار الأخير لموسى وبين حالته الروحية، أو كم المشجعات الإلهية أو نتيجة التشكك في الإرشاد الإلهي.  كلا.  لكنه جانبٌ نفسيٌ بحت، مرجعه ثلاثة مواقف في حياة موسى كان لها هذا الصدى في نفسه:

أولاً:  إن موسى الذي أراد أن يخلص الشعب بنفسه وفي التوقيت الذي أراده فقد أصبح هذا القرار الماضي نقطة فشل أو قل قراراً فاشلاً اتخذه منذ زمن طويل ولكنه قرار لا زال يعيش معه حتى الآن.

ثانياً:  من أين يجد اليوم الشجاعة للوقوف أمام فرعون ذلك الرجل الذي لا زال يطلب دمه  فإن هذا الشعور لم يكن بالأمر الهيّن على النفسية الهشة للإنسان.

ثالثاً:  إن هذا الإحساس مرجعه عدم قبول الشعب له في المرة الأولى.  وهذا ما نفهمه من أعمال 35:7 فإنهم قد رفضوه فكيف يعاود الكره من جديد ويذهب لقيادة شعب سبق ورفضه.

فقول موسى: «أرسل بيد مَنْ ترسل» أ فما هو تعبير عما كان عليه موسى من الناحية النفسية؟

فمن هذا المنطلق علينا أن نقدِّر هذا الجانب النفسي في خدام الله، ذلك الجانب الذي يلعب دوراً حيوياً في الحياة والخدمة.  فقد لا يرغب أحدنا في الإقدام على الذهاب لمكان ما أو القيام بعمل ما، وذلك دون أي تداخل للحالة الروحية في هذا الموضوع، ودون تعارض مع مشيئة الله، فهذا خط آخر في حياة المؤمنين وخدام الله موازٍ تماماً لهذا الخط النفسي وغير متعارض معه.  فإن نظرة بعض القديسين لخدام الرب نظرة تستثني هذا الجانب النفسي فيهم وكأنهم من نوعية أخرى غير البشر، أو قل هم فوق مستوى الضعف الروحي أو البشري أو النفسي.  على أننا نرى بالبحث المتأني في كلمة الله أن هذا الجانب النفسي لم يغفله الكتاب في حياة الكثيرين من رجال الله وخدامه في كل عصر.

ولذلك نجد أن موسى عندما يُرسَل فعلاً من قبل الرب، وفي الوقت المناسب، لم يكن عنده الاستعداد النفسي للقيام بالمهمة لأن الشعور بالفشل، كما أسلفنا، كان لا زال متوطناً في قلبه وهي حقيقة ليست بعيدة عن واقعنا العملي.  فعندما يصدم الإنسان في شخص ما أو شيء ما أو في مكان ما أو عند الفشل في عمل ما فإن شيئاً من هذا يُكوِّن جداراً نفسياً سريعاً وقد ينمو ليصبح صرحاً كبيراً يحتاج إلى نعمة إلهية خاصة لإزالته.  فيا ليتنا نقدِّر هذه المشاعر النفسية في بعضنا البعض، لأنك أنت شخصياً قد يكون هذا الجانب النفسي هو إحدى معاناتك أو على الأقل قد اجتازت نفسك يوماً شيئاً من هذا القبيل.

على أنني أرى جانباً آخر أثار غضب الرب على موسى، ذلك لأن قارئ الأفكار علم ما يجول بخاطر عبده موسى.  لقد قرأ الرب أن موسى يريد رفيقاً له في مهمة الوقوف أمام فرعون ومتحدثاً لبقاً يتكلم لفرعون.  بل ولم يرد موسى رفيقاً فحسب، بل إنه يريد أخاه هارون.  فما أثار غضب الرب إذاً هو أن موسى لم يعتبر «أهية» كافياً له، كافياً ليكون معه، بل ومع فمه أيضاً.  وإن كان هذا كافياً للإيمان، إلا أن موسى هنا أراد رفيقاً للعيان، ولأن الرب عرف نوايا ورغبة قلب موسى قال له:  «أليس هارون اللاوي أخاك؟ أنا أعلم أنه هو يتكلم .. الخ» (خر 13:4-16).

عندما وجد موسى رفيقاً، بل الرفيق الذي أراده وافق على الفور أن يذهب كما أمره الرب.  وكما يبدو أن موسى ترك للرب تقرير أمر مَنْ يذهب معه.  كما نفعل نحن أحياناً.  إذ يبدو أننا في صلواتنا لا نقترح على الرب ما نراه سواء كانت رغبة، أو اقتراحاً في قلوبنا، وكأننا نترك له ظاهرياً تقرير الأمور تحت وطأة الشعور بالخجل من أن نكاشف الرب مما يجول في خواطر قلوبنا وعند البعض الآخر مبعثه الاعتقاد بالسمو الروحي.  إلا أن إلهنا المحب الصالح يعرف ماذا نريد أن تقترح قلوبنا وما هو مرغوبها الصحيح حتى لو أخفيناه تحت أي عباءة.  فلقد عرف الرب مرغوب قلب موسى.  إنه يريد هارون كما أنه يعرف مرغوب قلوبنا تماماً وفي نعمته يعطينا أحياناً مرغوب القلب وذلك حتى لو لم نفصح عنه بشفاهنا.

إلا أننا نجد في النهاية أن الرب قد أغلق على موسى حجته الأخيرة بأن أعطاه رفيقاً أراده، ألا وهو هارون.  وإن كنا يجب أن نكون حريصين أن يكون لكل منا إيمانه الشخصي بالرب من جهة كل أمور حياته كما ومن جهة خدمته وهذا التدريب الفردي للإيمان مطلوب وضروري في عمل الله على أن الله يقصد أحياناً أن يكون لنا شركاء خدمة في العمل الواحد وهكذا نجد الرب في نعمته وطول أناته مع عبده موسى يدحض جميع الحجج ويجاوب على كل الاستفسارات ويقدم كل التشجيعات وكأنني ألمس في هذا الحوار العجيب عند جبل الله حوريب وكأن أهيه الإله العظيم يطلب إلى موسى أن يذهب فيا له من إله عظيم فائق الجلال سامي الاتضاع.  لكن ما أعجب ما نراه أن ذلك الشخص الذي رأى نفسه فاشلاً يوماً هو ذلك الشخص بعينه الذي صنع الله منه أعظم رجاله على الإطلاق في كل العهد القديم.

فلإلهنا كل الإكرام والاحترام وكل المجد لأبد الدهور.

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com