عدد رقم 5 لسنة 2002
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
إسحاق وقد كلّت عيناه وذهبت نضارته  

بينما نرى إبراهيم مثمراً في شيبته، والروح القدس يصف لنا ختام حياته بشهادة رائعة، فإننا نرى إسحاق وقد فقد النضارة والتمييز والبصر والبصيرة قبل الأوان بوقت طويل.  كان إبراهيم لآخر حياته يتصرف بحسب فكر الله.  وفي شيخوخته كان له السلطان الأبوي في بيته.  والله قال عنه لإسحاق بعد موته: «من أجل أن إبراهيم سمع لقولي وحفظ ما يحفظ لي: أوامري وفرائضي وشرائعي» (تك 5:26).  إن التقوى والطاعة والفضيلة التي ميزت إبراهيم كانت سبب بركة لإسحاق طوال حياته، كما كانت سبب نجاة للوط في يوم سابق (تك 29:19). 

مات إبراهيم بشيبة صالحة.  مات شيخاً وشبعان أيام، بل وشبعان من رحمة الله ورضاه، وهذه هي الحياة في ملء بركتها وسعادتها.  ولم تكن أيام شيخوخته أيام شر واضمحلال (جا 12)، بل انطبقت عليه كلمات المزمور «الصديق كالنخلة يزهو .. يثمرون في الشيبة.  يكونون دساماً وخضراً، ليخبروا بأن الرب مستقيم» (مز 14:92، 15). 

أما إسحاق فبعد أن رأيناه يصعد إلى القمة روحياً عندما وصل إلى بئر سبع وبنى هناك مذبحاً ودعا باسم الرب (تك 26)، نراه يتحول عن القمة ويختل اتزانه ويسير وفقاً لرغباته الطبيعية الجسدية، فيسعى أن يبارك عيسو بدلاً من يعقوب، مخالفاً قصد الله المعلن قبل سنوات طويلة.

وفي تاريخ إسحاق نرى بيتاً دبَّ فيه الانقسام بشكل محزن.  فالأب وجَّه كل محبته بشكل متميز لواحد من ابنيه دون الآخر.  وكان هذا الحب بسبب الصيد الذي يحضره له.  بالرغم من أن عيسو هذا كان زانياً ومستبيحاً وشرس الطباع.

أما الأم فأعطت كل الحب للابن الآخر الذي كان في طباعه وشخصيته متفقاً مع ميولها.  والعجيب أننا نرى الأخوين التوأمين مختلفين تماماً في الشكل والطباع والميول والتقدير للأمور الإلهية.  ونرى هذه الاختلافات على النحو التالي:

  1.  «كان عيسو إنساناً يعرف الصيد» (تك 27:25).  وكلمة صياد أو يصطاد ارتبطت دائماً بالشر في الكتاب.  إنه يتبع نمرود الصياد الأول الذي قيل عنه: «جبار صيد أمام (ضد) الرب» (تك 9:10).  وهكذا كان عيسو إنساناً شرساً بلا قلب.
  2. «إنسان البرية (الحقل)» (تك 27:25).  والحقل في الكتاب صورة للعالم.  وهكذا كان عيسو إنساناً عالمياً.  بالمقابلة مع يعقوب الذي كان «إنساناً كاملاً يسكن الخيام».  والكلمة تعني أنه هادئ الطبع أو مستأنس، وتعني أيضاً مستقيم ويحب البيت.
  3. «أتى عيسو من الحقل وهو قد أعيا» (تك 29:25).  إن العالم لا يقدم ما يشبع احتياجات الروح.  وإن قدم ما يشبع الجسد لكن سيظل الفراغ عميقاً.  كما قال الرب يسوع للسامرية: «كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضاً».  واختبار عيسو هو اختبار سليمان «الكل باطل وقبض الريح ولا منفعة تحت الشمس».
  4. قال عيسو ليعقوب«أطعمني من هذا الأحمر لأني قد أعييت» (تك 30:25).  إنه لم يعرف اسم الطعام الذي طبخه يعقوب (طعام البيت)، مع أنه يعرف بالتفصيل طعام البرية وكل ما يتعلق بالصيد.  وهذا هو الشخص العالمي الذي يعرف بالتفصيل المواد العالمية التي تغذي الجسد لكنه يجهل ما يشبع الروح.
  5. «فقال يعقوب: بعني اليوم بكوريتك.  فقال عيسو: ها أنا ماضٍ إلى الموت، فلماذا لي بكورية؟».  «فاحتقر عيسو البكورية» (تك 31:25- 34).  لقد عرض يعقوب أن يشتري من عيسو ما كان من حقه كهبة من الله.  وكان امتياز البكر أن يمنح نصيب اثنين.  وكانت البكورية بركة روحية وزمنية في طبيعتها.  وتصرف عيسو أظهر تقديره الهابط لبركات الله حيث نظر إلى البكورية باحتقار وازدراء؛ «الذي لأجل أكلة واحدة باع بكوريته» (عب 16:12).  وكأنه يقول: أنا لا أستطيع أن أحيا بالمواعيد، أعطني شيئاً الآن لكي آكل وأشرب وغداً أموت.  وهذا هو أسلوب الشخص الجسدي الذي لا يعرف سوى إشباع رغبات الجسد.
  6. المرة التالية التي نقرأ فيها عن عيسو هي في ختام أصحاح 26 حيث نقرأ «ولما كان عيسو ابن أربعين سنة اتخذ زوجة: يهوديت ابنة بيري الحثي، وبسمة ابنة أيلون الحثي.  فكانتا مرارة نفسٍ لإسحاق ورفقة» (تك 34:26، 35).  وهذه هي النتيجة الطبيعية لشخص مستبيح.  لقد رفض ترتيب الله ولم يتبع مثال أبيه إسحاق.  فلم يكتف بزوجة واحدة.  وهذا هو الإنسان الجسدي الذي يسير وراء شهوات قلبه.  ولم يحترم فكر الله المعلن الذي ذكره إبراهيم لعبده وهو يكلفه بمهمة إحضار زوجة لابنه إسحاق حيث استحلفه أن لا يأخذ زوجة لابنه من بنات الكنعانيين. 

كان هذا هو عيسو الذي أحبه إسحاق وميّزه لا لشيء إلا لأنه يحضر له صيداً. 

هل رأى إسحاق في عيسو أية ميول روحية تتفق معه؟ وهل كان في شركة سعيدة معه في أمور الله وفي الاختبارات الروحية؟ كلا إطلاقاً.  لكنه أحبه بسبب شهوة الجسد التي سيطرت عليه وتمثلت في الأكل.  وكانت هذه نقطة ضعيفة عند إسحاق، وقد استغلها عيسو أسوأ استغلال.  إنه شيء معيب أن يكون عند الأب نقطة ضعيفة واضحة ومكشوفة أمام أهل بيته.

وقد تختلف هذه النقطة الضعيفة من واحد لآخر.  لكنها في كل الأحوال ستضعف البصيرة وتجمد الشريعة فتصبح بلا فاعلية وبالتالي سيخرج الحكم معوجاً (حب 4:1).  ورغم السنين، ورغم الشيخوخة وضعف الجسد، وضعف الحواس الطبيعية؛ لكن تبقى الغرائز والرغبات الجسدية عنيفة، وإسحاق كان مغلوباً من هذا الأمر.  ويا له من تحذير خطير للجميع.

أراد إسحاق أن يحقق رغبات الجسد بأسلوب روحي وهو البركة.  وكم من أشخاص يتخذون من الأمور الروحية مجالاً لإشباع الذات.

كان إسحاق يحب عيسو، أما رفقة فكانت تحب يعقوب.  وهذا ولّد صراعاً في البيت وأحدث فجوة بين الأخوين.  إن التفرقة في المحبة والمعاملة بين الأولاد أيا كانت الأسباب لا تتفق مع مبدأ البر والعدل الذي يوصي به الرب في بيوتنا.  فدعونا نتعلم كآباء من الآب السماوي الذي يحكم بغير محاباة (1بط 17:1). 

إسحاق كان يتجنب أن يواجه عيسو لأنه كان عنيفاً وشرساً، وإسحاق كان إنساناً مسالماً وموادعاً.  بالإضافة إلى محبته له لأنه كان يحضر له الصيد ويشبع رغباته الجسدية.  لهذا كان يتعامل معه باللطف الزائد ولو كان على حساب البر. 

إن الشجاعة الأدبية تقتضي التوبيخ الأبوي الحازم في المواقف التي تحتاج إلى توبيخ.  وكم من آباء يتجنبون المواجهة مع أبنائهم ويضعفون أمامهم ويؤثرون المسالمة.  ومع الوقت تضيع هيبة الأب ومكانته في البيت.  وعلى الأبناء أن يفهموا أن الأب يمثل الله في البيت من حيث المحبة والقداسة والسلطان.  وهو مسئول عن إقرار وإرساء مبادئ الله في البيت وفي الدائرة التي يعيش فيها.  وصورة البيت ليست أمام الآخرين بل هي قبل كل شيء أمام الله الذي يرى كل شيء حينما نتوارى الواحد عن الآخر.

عاش إسحاق أطول حياة في الآباء الأربعة، وكان الطابع العام لحياته هو الهدوء والوداعة والسلام.  ولم يتعرض لتقلبات وتدريبات كثيرة، وهي التي تصقل الشخصية وتحقق النضوج الروحي والبصيرة والتمييز. وهذا ما نراه في يعقوب في ختام حياته.  أما إسحاق فلم يكن كذلك في شيخوخته.

كان إسحاق قد بلغ من العمر حوالي مائة وأربعين سنة.  وخاف أن يموت فجأة لهذا فضَّل أن يتمم واجبه الأبوي الأخير بأن يبارك أولاده.  وكان مع الشيخوخة قد فقد البصر ومع الشيخوخة الروحية قد فقد البصيرة والتمييز ونسي إعلان الله الواضح لرفقة أن الكبير يستعبد للصغير بما يعني قصده أن تكون البركة ليعقوب.

«وحدث لما شاخ إسحاق وكلّت عيناه عن النظر، أنه دعا عيسو ابنه الأكبر وقال له: يا ابني.  فقال له: هأنذا.  فقال: إنني قد شخت ولست أعرف يوم وفاتي.  فالآن خذ عدتك: جعبتك وقوسك، واخرج إلى البرية وتصيّد لي صيداً، واصنع لي أطعمة كما أحب، وأتني بها لآكل حتى تباركك نفسي قبل أن أموت» (تك 1:27 - 4).

وهنا نرى عظم خطأ إسحاق إذ أراد أن يبارك هذا الابن المتمرّد والشرير، الزاني والمستبيح، الذي لأجل أكلة واحدة باع بكوريته، مظهراً منتهى الاستهانة بأمور الله.  لقد تزوج باثنتين من بنات حث الشريرات ثم تزوج بثالثة هي ابنة إسماعيل.  وبهذا الزواج غير المقدس أظهر عدم الاكتراث بمبدأ الانفصال الذي ميّز هذه العائلة عن الشعوب الوثنية التي حولهم.

ونحن بكل أسف لا نقرأ كلمة توبيخ واحدة ولا حتى نصيحة أبوية قدمها إسحاق لعيسو، بل كان مسروراً به وبصيده، فخوراً بنجاحه الزمني ونشاطه.  ويا لانعدام التمييز! فليحذر كل أب من هذا المسلك المعيب بأن يكرم بنيه على حساب الرب.  إنه بدل أن يوبخه عامله بلطف شديد وكان ذلك على حساب مجد الرب.  وكم هو أمر مرعب أن نرى الجسد مع الأهواء والشهوات حتى في المؤمن.  بل إنه في المؤمن أردأ من غير المؤمن.  وهذا ما ظهر في إسحاق في شيخوخته.

لقد ظن عيسو أن ما ضاع بأكلة يمكن أن يُسترَد بأكلة.  ولكن مع الله القدوس لا يمكن أن هذا المبدأ يتحقق.  وعلى كل من يتهاون في أمور الله أن يعرف أن حكومة الله البارة لن تتهاون مع الشر.  وفي الوقت المعين لا بد أن الله يحضر كل عمل إلى الدينونة.

ولنسمع كلمات الله التحذيرية للشرير:

  «هذه صنعتَ وسكتُّّ.  ظننتَ أني مثلك.  أوبخك، وأصفُّ خطاياك
 أمام عينيك.  افهموا هذا يا أيها الناسون الله، لئلا أفترسكم ولا مُنقذ»
(مز 21:50، 22)

(يتبع)

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com