عدد رقم 3 لسنة 2002
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
إسحاق في جرار   من سلسلة: مؤمنون في أماكن خاطئه

أول ما نقرأ عن إسحاق بعد أن قام من على المذبح في سفر التكوين 22، نراه عند «بئر لحي رؤي» (تك 62:24)، عندما خرج لاستقبال رفقة.  ثم نقرأ أيضاً القول «وكان بعد موت إبراهيم أن الله بارك إسحاق ابنه.  وسكن إسحاق عند بئر لحي رؤي» (تك 11:25).  والبئر ترمز إلى الروح القدس.  وهذا امتياز ونصيب الشخص السماوي.  وكلمة «لحي رؤي» تعني: "الحي الذي يَرى".  وكأن إسحاق يقول: «حي هو الرب الذي أنا واقف أمامه».  وتعني أيضاً: "الحي الذي يُرى ويُظهر ذاته"، وهذه هي الشركة.  إننا نرى مجد الله في وجه يسوع المسيح.

وما أجمل إسحاق وهو ساكن عند بئر لحي رؤي.  وما أروع حياة يختبر فيها المؤمن فيضان الروح القدس الذي يروي وينعش.  وما أقسى حياة تخلو من فاعلية وقوة الروح القدس.  وبعيداً عن بئر الماء الحي نشعر بالجفاف والجدوبة وانعدام الثمر.

ولكن هل ظل إسحاق عند بئر لحي رؤي؟  كلا بالأسف.  وماذا عنك أنت أيها القارئ؟ إننا نقرأ بعد ذلك القول «وكان في الأرض جوع غير الجوع الأول الذي كان في أيام إبراهيم، فذهب إسحاق إلى أبيمالك ملك الفلسطينيين، إلى جرار» (تك 1:26).  إن ارتحال إسحاق عن بئر لحي رؤي يمثل فشلاً للمؤمن في الاحتفاظ بالبركة ووجوده في حضرة الله وتمتعه بالشركة مع الله واختبار قوة الروح القدس.  إن الوصول إلى القمة شيء والاحتفاظ بها شيء آخر.  ودائمـاً السير بالإيمان وعدم الاعتماد على المنظور صعب على الجسد.  وكان الجوع امتحاناً للإيمان.  وكما حدث مع إبراهيم، إذ فشل في هذا الامتحان وانحدر إلى مصر، كذلك هنا. كان إسحاق مزمعاً أن ينزل إلى مصر لولا أن الله تدخل وظهر له وقال له «لا تنزل إلى مصر.  اسكن في الأرض التي أقول لك» (ع 2).  إن مصر صورة للعالم بموارده المستقلة عن الله وبإغراءاته وجاذبياته التي تخدع المؤمنين.

لقد تدخل الله ومنع إسحاق من النزول إلى مصر.  بينما لا نقرأ أنه تدخل ليمنع إبراهيم في ظروف مشابهة.  كان إسحاق رمزاً للمسيح السماوي الذي قال عن نفسه «ابن الإنسان الذي هو في السماء» (يو 13:3). وكذلك هو رمز للكنيسة أو المؤمنين السماويين.  لهذا قال له الرب «أكثّر نسلك كنجوم السماء» (ع 4) والشخص السماوي ليس من العالم كما أن المسيح ليس من العالم.  ومن هنا نرى كيف أن الله حريص على الرموز في المكتوب.  لهذا منعه من النزول إلى مصر.  وإسحاق هو الوحيد بين الآباء الأربعة الذي لم يترك أرض كنعان طوال حياته.

وقال الرب لإسحاق «تغرّب في هذه الأرض (في جرار) فأكون معك وأباركك، لأني لك ولنسلك أعطي جميع هذه البلاد، وأفي بالقسم الذي أقسمت لإبراهيم أبيك ... وتتبارك في نسلك جميع أمم الأرض» (ع 3، 4).  إنه يبدو ظاهرياً أن هذه الخطوة كانت بتوجيه من الرب وأنها متطابقة مع مشيئته وخطته، فهو الذي قال له: «تغرّب في هذه الأرض فأكون معك وأباركك».  لكننا بنظرة أعمق سنرى أن الله وجد في إسحاق الرغبة في البقاء في جرار أو النزول إلى مصر.  ومثلما حدث في أمر الجواسيس الذين أرسلهم موسى إلى كنعان ليتجسسوا الأرض.  نقرأ القول «وكلم الرب موسى قائلاً: أرسل رجالاً ليتجسسوا أرض كنعان التي أنا معطيها لبني إسرائيل» (عد 1:13، 2).  بينما تتضح الحقيقة في قول موسى بعد ذلك «فتقدمتم إلىَّ جميعكم وقلتم: دعنا نرسل رجالاً قدامنا ليتجسسوا لنا الأرض، ويردوا إلينا خبراً» (تث 22:1).  ولم يكن ذلك بحسب فكر الله إطلاقاً.  لكن الله سمح به نتيجة إصرار الشعب على ذلك.  وذات الشيء نراه عند اختيار شاول ملكاً على إسرائيل.  كذلك هنا بسبب ضعف إيمان إسحاق قال له الرب «تغرّب في هذه الأرض».  إن استمرار الطاعة والسير بالإيمان يتطلب شجاعة أدبية في مواجهة الصعاب.  وعند هذه النقطة يفشل الكثيرون.

ومع ذلك يظل الله أميناً لا يقدر أن ينكر نفسه.  لذلك قال له: «فأكون معك وأباركك».  إن المؤمن حتى في الأماكن الخاطئة لن يُحْرَم من أعمال العناية الحافظة والرفقة الإلهية.  لكنه سيُحْرَم من التمتع بالشركة والشهادة الناجحة للرب.  وجدير بالذكر أن هذه هي المرة الأولى في الكتاب التي نسمع فيها هذا الوعد «أكون معك»، ويا للنعمة، معه حتى في المكان الخطأ!

ونلاحظ أن ظهور الرب له في جرار كان للتحذير والنصح وليس للشركة.  ونلاحظ أيضاً أن الرب قال له: «تغرب في هذه الأرض» (ع 3).  أما هو «فأقام» أي استوطن فيها (ع 6).  وقد «طالت له الأيام هناك» (ع 8).  لقد رأى أن المكان حسن والأرض جيدة فقرر البقاء فيها، ونسي أن الله سمح له بالتغرّب فقط.  مثلما حدث مع الشونمية في يوم لاحق حيث تغربت في بلاد الفلسطينيين سبع سنين ثم عادت إلى أرضها (2مل 8).  ونحن لا نقرأ عن مذبح بناه إسحاق في جرار، ولا أنه نصب خيمته كغريب هناك، ولا أنه دعا باسم الرب أو كانت له شهادة هناك.  ولا شك أن المكان الرديء روحياً وأدبياً كان له تأثير رديء على إسحاق.  وبسبب وجوده في هذا المكان الخطأ تعرّض لتجربة الخوف من الناس واضطر أن يكذب لكي يحمي نفسه.  مثلما حدث مع أبرام في مصر وفي جرار، ومثلما حدث مع بطرس وهو جالس يصطلي وسط العبيد والجواري.  فعندما سأل إسحاق أهل المكان عن امرأته قال: «هي أختي.  لأنه خاف أن يقول امرأتي لعل أهل المكان يقتلونني من أجل رفقة لأنها كانت حسنة المنظر» (ع 7).  لقد كرر نفس الخطأ الذي وقع فيه إبراهيم قبل سنوات عديدة (تك 1:20، 2).  ومن ذلك نتعلم أن الأولاد من السهل جداً أن يقلدوا آباءهم في ضعفاتهم وسلبياتهم أكثر من النواحي الإيجابية والحسنة فيهم.

«وحدث إذ طالت له الأيام هناك أن أبيمالك ملك الفلسطينيين أشرف من الكوة ونظر، وإذا إسحاق يلاعب رفقة امرأته.  فدعا أبيمالك إسحاق وقال: إنما هي امرأتك! فكيف قلت: هي أختي؟ فقال إسحاق لأني قلت: لعلي أموت بسببها.  فقال أبيمالك: ما هذا الذي صنعت بنا؟ لولا قليل لاضطجع أحد الشعب مع امرأتك فجلبت علينا ذنباً» (ع 8 - 10).  ومن هذه الأعداد نتعلم أن:

  1.  الكذب لا بد أن ينكشف في يوم من الأيام حتى لو طالت المدة.  فليس خفي لا يُعرَف.
  2. علاقة إسحاق برفقة التي تميزت بالمحبة والإعزاز والملاطفة استمرت بنضارتها رغم السنين.  وهذا ما يُميّز الزواج الناجح الذي بحسب مشيئة الله.
  3. العلاقة الخاصة ينبغي أن تكون خاصة جداً وليست أمام الآخرين.  وعلى كل مؤمن أن يعرف ما يليق وما لا يليق بالقديسين بغض النظر عن العادات السائدة في المجتمع العالمي.
  4. أبيمالك وبّخ إسحاق على تصرفه المعيب (إنكاره لزوجته)، كما حدث قبل ذلك مع إبراهيم.  وكم هو أمر مخز أن إنسان الله يتوبخ من إنسان العالم.
  5. أبيمالك الذي عاصر إبراهيم استشعر أن الزنا خطية عظيمة (تك 9:20)، بينما تقدير أبيمالك هنا أقل، فيقول: «جلبت علينا ذنباً» فقط.  ومع تكرار الخطية يتبلّد الضمير ويصير الأمر سهلاً وزهيداً.
  6. الله لم يشهد عن إسحاق مثلما شهد عن إبراهيم أمام أبيمالك أنه نبي وشفيع.  ولا شك أن إبراهيم يختلف عن إسحاق في مستوى الإيمان والشركة مع الله.
  7. رغم ما حدث من إسحاق، فإن عدم أمانتنا لا يُبطل أمانته، لذلك نرى أن الله حريص على سلامة عبده وكل مَنْ له وما له.  كما هو مكتوب «لا تمسوا مسحائي، ولا تسيئوا إلى أنبيائي» (مز 15:105).  «فأوصى أبيمالك جميع الشعب قائلاً: الذي يمس هذا الرجل أو امرأته موتاً يموت» (ع 11).  ويجب أن نعرف أن الله لا يتغير ولكن التدبيرات تتغير وشكل المعاملات قد يتغير.  فقد سمح الرب في يوم لاحق أن هيرودس يقطع رأس يوحنا المعمدان بالسيف.  والشيء الثابت والأكيد أننا نحن مختارو الله القديسون المحبوبـون ولن يصل إلينا أي أذى من الإنسان أو من الشيطان إلا بسماح من الله المحب والحكيم الذي معه أمرنا ويعمل دوماً لخيرنا.

والآن مَنْ هم هؤلاء الفلسطينيون الذين ذهب إليهم إسحاق وأقام عندهم؟ ما الذي يميزهم؟ وإلى مَنْ يرمزون من حيث التطبيق الروحي؟ من تكوين 10 نعرف أنهم خرجوا من مصر، وذهبوا إلى كنعان وأقاموا هناك في الجزء الجنوبي، وادعوا أن الأرض ملكهم.  ولكن طريقهم من مصر إلى كنعان يختلف كثيراً عن طريق شعب الرب في يوم لاحق وهم صاعدون من مصر إلى كنعان بقيادة موسى.  فنحن لا نقرأ أنهم عملوا الفصح ولا عبروا البحر الأحمر ولا نهر الأردن.  وعلى ذلك فهم:

  • يمثلون رمزياً المسيحية الاسمية التقليدية، أولئك الذين يدّعون أنهم أساس المسيحية وهم لا يعرفون قيمة وكفاية دم المسيح كأساس الغفران (الفصح).  ولا يعرفون قيمة موته وصليبه كأساس للتحرير من العبودية (عبور البحر الأحمر).  ولا موتنا وقيامتنا مع المسيح روحياً لندخل إلى دائرة البركات الروحية في السماويات (عبور الأردن).
  • أبيمالك اسم عام لكل ملوك الفلسطينيين، مثل فرعون مصر.  ومعنى هذا الاسم: "أبي ملك".  أي ملك ابن ملك بالوراثة والخلافة.  وهذا مبدأ أساسي في المسيحية التقليدية.
  • الفلسطينيون أعداء الآبار.  لقد طموها وملأوها تراباً.  إنهم لا يعتمدون على قيادة وإرشاد الروح القدس ولكنهم يحبون التقليد والشكل الثابت للعبادة.
  • يحبون الخصام والنزاع.  فنقرأ القول «وحفر عبيد إسحاق بئراً فخاصموه» بينما ثمر البر يُزرع في السلام.  ودائماً الديانة الجسدية تتميز بالصراعات ومقاومة الحق. 
  • عدم الختان.  لقد وردت كلمة «أغلف» أو «غُلف» 9 مرات في الأسفار التاريخية، منهم 8 مرات عن الفلسطينيين.  وهذا يعني عدم الحكم على الجسد.  وهذا عكس ما ميَّز نسل إبراهيم (تك 17).  وفكر الله من جهة شعبه أن يسلكوا بالروح فلا يكملوا شهوة الجسد، وأن يعبدوا بروح الله ولا يتكلوا على الجسد.
  • هؤلاء الفلسطينيون استعبدوا شعب الرب في أيام القضاة 40 سنة.  إنهم يمثلون أولئك الذين يحبون السيادة والسلطة الدينية ويتراءسون على شعب الرب.  كما هو الحال في المسيحية الاسمية.
  • قالوا لدليلة، عن شمشون النذير، «تملقيه» (قض 16) وهذا هو أسلوب الجسد الغير محكوم عليه.  إنهم عكس الذين «قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات».    

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com