عدد رقم 3 لسنة 2002
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
أسلوب التفكير السليم  

«يا بني أنت معي في كل حين وكل ما  لي فهو  لك»
  (لو 31:15)

إن مَثَل الابن الضال هو بحق لؤلؤة الأمثال، ففيه نرى معاملات النعمة الغنية وقلب الأب وحنانه، كما نرى فيه فساد الإنسان.  فالابن الأصغر صورة للإنسان بفساده الظاهر والمُعلَن، والابن الأكبر صورة أخرى للفساد وهو يلبس رداءً من البر الذاتي، له صورة من التقوى وهو في الواقع ينكر قوتها، له مظهر دون جوهر، من الخارج كل ما يرغبه الأب في الابن، ولكن من الداخل كان ممتلئاً  بالبغض والحقد والحسد، فهو يُظهِر غير ما يُبطِن، ففي الظاهر يعتني بأعمال أبيه، وطرقه تبدو مستقيمة، ولم يتجاوز قط الوصايا ولكن في الباطن نفس ممتلئة بالسخط والمَرار.

وما أريد التركيز عليه هو زاوية تطبيقية عملية من الزوايا العديدة التي نراها في هذا المثل؛  وهي مرارة القلب التي ظهرت على السطح في الابن الأكبر، وأسلوب الأب الحكيم في علاجها.  فمن جهة مرارة النفس فقد كان لها أسبابها وحيثياتها التي تبدو صحيحة.  فهذا الأخ العاق الذي في نظره لا يستحق شيئاً، بل في الواقع لا يستحق حتى أن يعيش، بينما هو يستحق كل شيء، ماذا عمل له الأب حين عودته؟ ذبح له العجل المسمن، وألبسه الحلة الأولى، ووضع خاتماً في يده، وحذاءً في رجليه، والأدهى من ذلك أنه صنع له وليمة عظيمة، وكأنه هو مجال الفخر، مع أنه هو الذي جلب العار على اسم العائلة.  أليس هذا قلباً للموازين، أليس هذا غبناً وظُلماً وقع عليه، كيف يُذبح له هو العجل المسمن، ويُعطَى كل شيء ويُحرَم هو حتى من جدي يفرح به مع أصدقائه.  ماذا حدث في الدنيا؟ أيأخذ الشقي نصيب التقي؟ أيأخذ الطالح نصيب الصالح؟ يا لمرارة النفس!

وأعتقد أن مرارة النفس هذه التي شعر بها، وظهرت على السطح في صورة تَذمُّر وسخط، كثيراً ما يعاني منها المؤمنون كما تحدث للأشرار.  فمرارة النفس هي قاسم أعظم للبشرية بجملتها.  فحينما نتعرض لمواقف نشعر فيها أن الله لم يعطنا ما نستحقه، بينما مِن حولنا مَنْ هم بحق لا يستحقون ولكن أمورهم تبدو على ما يرام ، وكما قال أيوب عنهم «ثورهم يلقح ولا يخطئ.  بقرتهم تنتج ولا تسقط» (أي 10:21) فإننا نشعر بهذه المشاعر السلبية.  وأعتقد أننا كثيرا ما نقيّم أنفسنا أكثر من القيمة الحقيقية لها، ونبخس الآخرين قيمتهم.  وبالتالي فنحن نستحق وهم لا يستحقون، نحن يجب أن نُعطَى وهم لا يأخذون، نحن يجب أن نملك وهم يستعبدون.  وحتى لو كان تقديرنا للأمور تقديراً صحيحاً، فنحن نتجاهل معاملات الآب الذي: «يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين» (مت 45:5).

ولكن دعنا الآن ننظر كيف عالج الأب مرارة النفس التي عانى منها الابن الأكبر.  دعنا نُركِّز على قول الأب له: «يا بنيَّ أنت معي في كل حين، وكل ما لي فهو لك» (لو 31:15).  ماذا أراد الأب أن يعلِّمه للابن؟ أعتقد أنه أراد أن يعلِّمه أسلوب التفكير الصحيح.  فهو أراد أن يُلفت نظره أن ما له أكثر بكثير مما ليس له، وأنه ينظر إلى الأمر نظرة مقلوبة، فهو يركز على السلبيات ويغض النظر عن الإيجابيات.  ألا تكفيك المعيّة الأبوية، والصُحبة والشركة التي لنا، هل نسيت أنك: «أنت معي»؟ هل تنظر إلي العطايا وتغض الطرف عن المعطي؟  انظر إلى الموقف بطريقة صحيحة وسترى أن ما لك أعظم مما تفكّر فيه، ألا يكفيك أن كل ما لي فهو لك؟ ألا ترى أن كل هذا الميراث هو من نصيبك، ويمكنك أن تتمتع به معي وليس بالانفصال عني؟  إنك في حاجة أن تتعلم كيف تحكم على المواقف بأسلوب آخر.  إنه بعبارة أخرى أراده أن يفكِّر في المواقف بطريقه إيجابية وليس بطريقة سلبية. 

إن هذه التجربة، بكل ما فيها من مرارة النفس، مرَّ بها آساف في مزمور 73  وهو يرى سلامة الأشرار والخير الذي لهم ويرى نفسه وهو مصاب بل ومؤدَّب كل صباح، فكادت تزل قدماه، وندم في قلبه، إنه زكّى قلبه باطلا وغسل بالنقاوة يديه.  فهو نظر إلى الأمور في ظواهرها، بنظرة سطحية كما يراها الناس، ولكن حينما دخل المقادس، حيث الشركة العميقة، ووضع الأمور في نصابها الصحيح، فقد رأى  نهاية الأشرار، كيف صاروا للخراب بغتة واضمحلوا وفنوا من الدواهي، فأدرك أن مرارة القلب التي شعر بها لم تكن في محلها الصحيح، بل إنه في المقادس أدرك أن الإيجابيات التي له ويتمتع بها هي أكثر بما لا يُقاس مما للأشرار فقال: «لأنه تمرمر قلبي، وانتُخست في كليتيَّ.  وأنا بليد ولا أعرف ... ولكني دائما معك.  أمسكت بيدي اليمنى»، لقد وصل إلى نفس الإعلان الذي أعلنه الأب إلى ابنه الأكبر: « يا بُنيَّ أنت معي في كل حين».  إن إدراكنا للمعية الإلهية التي في صفنا تُزِيل كل ما في القلب من مرارة وإحباط.  وهذا نفس ما أعلنه لنا بولس الرسول وهو يتكلم عن آلام الزمان الحاضر فقال: «إن كان الله معنا، فمن علينا؟» (رو 31:8).  إن الله من الأزل في صفنا، وقد أعطانا أفضل ما عنده، ابنه الوحيد، فكيف لا يهبنا معه كل شيء؟ كما يقول الكتاب: «أبولس، أم أبلوس، أم صفا، أم العالم، أم الحياة، أم الموت، أم الأشياء الحاضرة، أم المستقبلة.  كل شيء لكم» (1كو 22:3).

  الابن الأكبر يرمز مباشرة إلى الكتبة والفريسيين، وتدبيرياً يرمز إلى اليهود الذين يرفضون أن تصل النعمة للآخرين وأن تهطل بركات السماء على غيرهم خاصة الأمم.   لاحظ نغمة الاحتقار والازدراء  في تعبير: «ابنك هذا».  وردّ الأب يوضح لنا أن استقبال الأخ الأصغر لا يعني رفضهم؛ فإن النعمة مقدمة للبعيدين والقريبين وقلب الآب مفتوح للكل «أنت معي»، وما أغدقت به على أخيك الأصغر لا يعني إنكار حقك في الميراث إن كانت لك شركة معي في أفكاري وعواطفي.  فالابن التائب له نصيب وأنت أيضا لك نصيبك.  لكن المشكلة تكمن في كبريائك وشر قلبك وأنك لا تحب الخير لأخيك، ولا تُسر بالشركة معي، بل أن تفرح مع أصدقائك بالاستقلال عني.  فأنت لا تقدِّر بركة وامتياز أنك معي في كل حين.

يا ليتنا نتعلم هذا الأسلوب في التفكير في كل مواقف حياتنا.  فإذا أردنا أن نُحلل أي موقف أو حادث سنجد فيه سلبيات ولكن من المحتم أننا سنجد أيضا الكثير من الإيجابيات، وهذا بلا شك يعتمد على شخصية المؤمن ولكن أيضا هو أسلوب تدريب ومنهج تفكير للمؤمن، عليه أن يتعلمه.  دعنا دائما نُركِّز النظر على الجانب الإيجابي المنير ونحاول تجنب الجوانب السلبية المظلمة.  إن بولس في فيلبي 4 وهو يعالج مشكلة القلق كإحدى الأمور التي تسلب الفرح، نهج نفس الأسلوب؛ فقد حرّض المؤمنين أن يضعوا المشكلة بجملتها أمام الله بالصلاة والدعاء مع الشكر.  ثم بعد ذلك عليهم أن يفكروا بأسلوب إيجابي فحرضهم قائلا: «كل ما هو حق، كل ما هو جليل، كل ما هو عادل، كل ما هو طاهر، كل ما هو مُسِرّ ... ففي هذه افتكروا» (في 8:4).

ولنا أعظم مثال، وهو الرب يسوع المسيح، وفي أصعب وأحلك المواقف، وهو موقف الصليب، الذي من العسير أن نجد فيه أي إيجابيات، أتكلم إنسانيا، وهو يَعْلَم بكل ما يأتي عليه،  فقد ارتسم شبح الصليب في الأفق أمامه، وعرف أن ساعته قد أتت، ولكن دعنا نرى ما أعلنه لنا الكتاب عن أسلوب تفكيره وهو يرى هول الموقف: «من أجل السرور الموضوع أمامه، احتمل الصليب مستهينا بالخزي» (عب 2:12).   لقد حصر تفكيره في السرور الموضوع أمامه، في تلك النهاية السعيدة حيث سيمضي إلى الآب ويحظى بالأمجاد هناك.  كان يرى مقاصد الأب وهي تتحقق، والخطاة وهم يخلصون، ويرى عروسه كنيسته وهي تخرج من جنبه، ويرى أبناء الله المتفرقين وهم يُجمَعُون إلى واحد،  ويرى الأب وهو يتمجد، واسمه يُعلَن.

إن ما يُميِّز المؤمن عن الآخرين هو طريقة وأسلوب التفكير (الفهم الروحي)، والذي يترتب عليه التصرف الصحيح إزاء المواقف المختلفة (الحكمة).  وأسلوب التفكير السليم لا يأتي مصادفة أو بطريقة تلقائية، ولكنه منهج يحتاج إلى التعلم والتدريب في مدرسة الله،  ففي كل موقف من المواقف وفي كل منعطف من منعطفات الحياة، علينا أن نُدرِّب أنفسنا على أن نفكر بأسلوب إيجابي، ليتم المكتوب أن: «تمتلئوا من معرفة مشيئته، في كل حكمه وفهم روحي» (كو 9:1).  ولنا في الكتاب أعظم الدروس ولنا في المسيح أعظم مثال.

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com