عدد رقم 6 لسنة 2004
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
الحمامة   من سلسلة: من طيور الكتاب المقدس

نستكمل حديثنا عما يُظهره لنا الحمام من صفات رائعة في علاقته مع نوح. ولقد سبق وأشرنا إلى ثلاث صفات هي:  أنه رسول أمين، وأيضًا ودود وحلو العشرة. وأنه طاهر لا يتلامس مع النجاسة.  والآن نستكمل هذه الصفات:

4-  يعرف مكانه ولا يُخطئه

هناك غريزة مميزة في الحمام، وهو أنه يألف بيته وعشه، ولا يرضى به بديلاً! فالمكان الذي نشأ فيه أصبح جزءاً من كيانه لا يمكنه الابتعاد عنه، حتى أن الإنسان فطن إلى ذلك، وأقاموا مسابقة للحمام، حيث يأخذونه بعيدًا عن مكانه مئات الكيلومترات، ويتركونه يطير، والحمامة التي تعود أولاً إلى مكانها وعُشها تُصبح هي الفائزة! إنها بحق غريزة عجيبة حباها الله الخالق المبدع، ولقد ألمح إشعياء إلى هذه الغريزة العجيبة «مَنْ هؤلاء الطائرون كسحابٍ وكالحمام إلى بيوته؟» (إش60: 8). 

 فكيف تستطيع الحمامة أن تستشعر موضعها وتحدِّد اتجاهها وهي في هذا البعد الكبير؟!

وهذا ما نراه هنا، فعندما أطلق نوح الحمامة من عنده نجدها بعد يوم كامل من الصباح إلى المساء تعود إليه ثانية، الأمر الذي لم يفعله الغراب، كما سبق وأشرنا في مقالات سابقة.

لكن ألا نجد فينا نحن المؤمنين ما يُشبه هذه الصفة أو الغريزة؟ فنحن لنا موضع محدَّد لا ينبغي أن نُخطئه، وهذا الموضع يتميز عن كل ما عداه، إذ فيه نستشعر حضور الرب ذاته حيث كل غناه وبركاته، وأيضًا رضاه، وهذا الموضع هو واحد، وإن اختلفت الأزمنة والأوقات، إنه بيت الله على الأرض!!

والأمر الجدير بالانتباه أنه على مر التدابير لم يكن لله على الأرض في زمن واحد أكثر من بيت واحد! فأول بيت لله كان على الأرض هو خيمة الاجتماع، ثم بعد ذلك بنى سليمان الهيكل، والذي تعرَّض للتخريب أكثر من مرة، إلا أنه لم يُستبدل بآخر، ولا أُقيم معه هيكلٌ ثانٍ، إنما استلزم الأمر أن يُجدد، وهذا حدث أكثر من مرَّة، غير أنه ظل على الدوام لله هيكلٌ واحدٌ على الأرض.  وبعد تكوين الكنيسة خُرِّب الهيكل تمامًا، وتمت فيه كلمات الرب يسوع «إنه لا يترك ههنا حجرٌ على حجرٍ لا ينقض!» (مت24 : 2).  مُفسحًا المجال لظهور بيتٍ جديد على الأرض، يختلف عن سابقيه بأنه ليس مكونًا من حجارة مقتطعة من الجبال، بل من حجارة حية؛ من جماعة المؤمنين، والذي بدأ تكوينه يوم الخمسين، حيث نزل الروح القدس وكوَّن الكنيسة، الأمر الذي أشار إليه الرسول بطرس «مبنيين -كحجارة حية- بيتًا روحيًا، كهنوتًا مقدسًا، لتقديم ذبائح روحية مقبولة عند الله بيسوع المسيح «(1بط2: 5) - (انظر أيضًا عب3: 6).

وأيضًا على مر العصور والأجيال لا يجد القديسون مقرًا يستريحون فيه ويجدون فرحهم وسرورهم إلا في هذا الموضع؛ ألا وهو بيت الله! حيث حضوره الإلهي، وقيادته وبركاته ومواعيده وهباته وعنايته، التي يجود بها على شعبه وأحبائه.

كان هناك موضعٌ ظهر فيه الرب ليعقوب، حيث دعَّمه بالمواعيد والبركات والرعاية والعناية، ولقد دَعَى يعقوب هذا الموضع «بيت إيل»، أي بيت الله، وأظهر آماله أنه حينما يعود سالمًا سيقيم في هذا الموضع، الذي فيه ظهر له الرب ، والذي دعاه بيت الله. إلا أنه بكل أسف عندما عاد محملاً ببركات كثيرة، ضلَّ مكانه، وفقد صفة الحمامة هنا، وبدلاً من أن يقصد بيت الله، نجده يذهب إلى شكيم، عاقدًا العزم أن يستقر فيها، حتى أنه ابتاع هناك قطعة حقلٍ، حيث نصب خيمته فيها (تك33: 18، 19)!!

وما أكثر الخسائر التي لحقت به هناك، حتى ظهر الرب له منبهًا إياه أن يقوم ويصعد إلى بيت إيل ويُقيم هناك (تك35: 1). وكأن الرب تبارك اسمه يقول ليعقوب: لماذا ضللت مكانك؟ أنت لك مكان واحد ينبغي أن تُقيم فيه، ولا يصلح أن تستبدله بأي مكانٍ آخر.

لقد اضطر داود في يومه أن يبتعد عن بيت الله، والذي كان آنذاك خيمة الاجتماع، ويعيش في الكهوف والبراري، غير أنه كالحمامة المشتاقة إلى موضعها والتي لا تستريح إلا فيه، نسمعه يهدر بقلب مليء بالشوق والحنين منشدًا أنشودته «يا الله، إلهي أنت.  إليك أبكر.  عطشت إليك نفسي، يشتاق إليك جسدي، في أرض ناشفة ويابسة بلا ماء، لكي أُبصر قوَّتك ومجدك.  كما قد رأيتك في قدسك» (مز63 : 1، 2).  كما نسمعه يُنشد في مناسبة أخرى قائلاً: «واحدة سألت من الرب وإياها ألتمس: أن أسكن في بيت الرب كل أيام حياتي، لكي أنظر إلى جمال الرب، وأتفرّس في هيكله» (مز27 : 4).

وإن كان هذا اختبار داود الفردي، وكانت هذه هي أنشودته، فنحن نستمع في مزمور آخر أُنشودة سرب من الحمام، حُرم من بيت الله، وأُخذ في السبي بعيدًا عن مكانه، إذ نستمع إلى أنشودة بني قورح وهديرهم الشجي المليء بالألم والشوق «كما يشتاق الإيل إلى جداول المياه، هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله. عطشت نفسي إلى الله، إلى الإله الحي. متى أجيء وأتراءى قدام الله؟».  وعندما يتفكرون فيما كانوا عليه في الماضي وهم يصعدون معًا إلى بيت الله بفرح وترنم، كسرب طائرٍ نحو بيته فرحًا سعيدًا، نسمعهم يُنشدون قائلين: «لأني كنت أمر مع الجُمَّاع، أتدرج معهم إلى بيت الله بصوت ترنم وحمد، جمهور مُعيِّد «(مز42 : 1-4).

لقد كانوا بحق يُقدِّرون بيت الله، ويكنّون له كل محبة وإعزاز، ولا يجدون له نظيرًا أو بديلاً، إذ ينفرد وحده بما له من جمال وروعة، ولذلك لا عجب أن نستمع إليهم وهم يتغنون بهذا البيت قائلين: «ما أحلى مساكنك يا رب الجنود! تشتاق بل تتوق نفسي إلى ديار الرب.  قلبي و لحمي يهتفان بالإله الحي.  العصفور أيضًا وجد بيتًا، والسنونة عشًا لنفسها، حيث تضع أفراخها، مذابحك يا رب الجنود، ملكي وإلهي.  طوبى للساكنين في بيتك، أبدًا يسبحونك» (مز84 : 1-4).

وإن كان بنو قورح هنا يُقارنون بين غلاوة العش عند الطائر بصفة عامة، ومكانة بيت الله عند كل تقي. أقول أن الطائر لا يُخطئ في تحديد عشه، ولا يرضى به بديلاً، لكن هل هكذا نحن أيضًا إزاء بيت الله؟! إلى أي درجة نُقدِّر ونهتم ببيت الله؟ ما أروع ما قيل عن الكامل القدوس الفريد، وهو يخاطب أبيه متفكرًا بما يلحقه من ألم وضيق في سبيل فعل إرادة أبيه «لأني من أجلك احتملت العار.  غطَّى الخجل وجهي.  صرت أجنبيًا عند إخوتي، وغريبًا عند بني أمي.  لأن غيرة بيتك أكلتني، وتعييرات معيِّريك وقعت علي» (مز69 : 7-9).

إلى أي درجة نُظهر تعلقنا وشغفنا بهذا البيت؟ ما أكثر الإشارات التي فيها نجد سيدنا الكريم متواجدًا فيه، مظهرًا كل تقديره واهتمامه به.

وألا نغار -«حسنة هي الغيرة في الحسنى» (غل4: 18)– من بني قورح هنا وهم يرددون «لأن يومًا واحدًا في ديارك خير من ألف.  اخترت الوقوف على العتبة في بيت إلهي على السكن في خيام الأشرار« (مز84 : 10).
وإن كنا نرى في الاجتماعات إلى اسم الرب مظهرًا لبيت الله. إلى أي درجة نتمم وصية الرسول بولس «غير تاركين اجتماعنا كما لقوم عادة، بل واعظين بعضنا بعضًا، وبالأكثر على قدر ما ترون اليوم يقرب» (عب10 : 25).  ليت تقديرنا لله ولبيته يزداد، ونردد على الدوام مع داود: «فرحت بالقائلين لي: إلى بيت الرب نذهب» (مز122 : 1).

 (يتبع)  

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com