عدد رقم 6 لسنة 2004
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
يعقوب والهروب من أرام   من سلسلة: مؤمنون في أماكن خاطئه

بعد أن قضى في أرام أربع عشرة سنة، مكث يعقوب ست سنوات أُخر عند لابان يخدمه ويرعى غنمه، وخلالها تعرّض للذل والغدر من لابان الذي غيَّر أجرته عشرت مرات.  وكان ذلك جزءاً من الزرع والحصاد والمعاملات الإلهية التأديبية،  لكي يكون إنسان الله كاملاً.

كان يعقوب يستخدم حكمته البشرية وذكاءه الطبيعي والأساليب الجسدية للحصول على مزيد من الثروة.  فكان يضع القضبان المخططة في مساقي المياه حيث كانت الغنم القوية تجيء لتشرب وتتوحم.  فتلد الغنم مخططات ورُقطاً وبلقاً حيث كانت هذه أجرته بحسب الاتفاق مع لابان.  فاتسع الرجل كثيراً جداً.

ومع هذا النجاح لم يفكر في الرجوع إلى بيت إيل، وتعايش مع الذل طالما أن ثروته تزداد.  وهذا بالأسف حال الكثيرين في هذه الأيام.  لكن فكر الله من جهته كان مختلفاً.  ولم يكن قصده أن يظل طوال حياته في أرام.  لذلك فقد سمح له بالمنغصات لكي يُحرِّك عشه.  «فسمع كلام بني لابان قائلين: أخذ يعقوب كل ما كان لأبينا، ومما لأبينا صنع كل هذا المجد.  ونظر يعقوب وجه لابان وإذا هو ليس معه كأمس وأول من أمس.  وقال الرب ليعقوب: ارجع إلى أرض آبائك وإلى عشيرتك، فأكون معك» (تك 1:31-3).  لقد تغيَّر وجه لابان، والذي استقبله بالأحضان ما عاد مرحباً به.  إنه يمثل الإنسان الذي يتغيَّر ويغدر، ليبقى الرب وحده لا يتغيَّر.  وحكومة الله البارة لا يمكن أن تترك لابان يظلم يعقوب ويذله.  «لأن السيد  لا يرفض إلى الأبد.  فإنه ولو أحزن يرحم حسب كثرة مراحمه» (مرا 31:3).  رأى الرب كل ما يصنع لابان بيعقوب فوقف في صف يعقوب وباركه، وسلب غنم لابان وأعطاها ليعقوب الذي خدم بكل أمانة.  وفي يوم لاحق نقرأ عن ذل المصريين لشعب الله في أرض مصر.  لكن الرب هو «مُجرِي العدل والقضاء لجميع المظلومين» (مز 6:103).  فعند خروجهم من أرض مصر سمح لهم أن يسلبوا المصريين كأجرة لأتعابهم طول السنين.

ظهر الله ليعقوب وتكلم معه بعد صمت لمدة عشرين سنة.  ولماذا لم يتكلم معه مبكراً ويقول له ارجع إلى أرض آبائك؟ لا شك أن الله يعرف قلب يعقوب وأنه ما كان سيسمع قبل ذلك.  وكلنا نحتاج إلى ضغط الظروف لكي نطيع صوت الرب.  وعندما يرانا مُهيأين للطاعة سيتكلم إلينا.

قال له الرب: «ارجع .. فأكون معك».  وليس لكي يستريح من ذل لابان.  والسؤال: هل لم يكن الرب معه طوال هذه السنين؟ كلا.  لقد قال له من البداية: «وها أنا معك، وأحفظك حيثما تذهب» (تك 15:28).  لكن هناك فارق بين رفقة الرب للحفظ والعناية، وهذه لا يُحرم منها أي مؤمن بغض النظر عن حالته الروحية، وبين رفقته للتمتع بالشركة وإظهار ذاته له.  وهذا بالطبع يحتاج إلى حالة روحية صحيحة وأن يكون المؤمن في المكان الصحيح.  لهذا ذكَّره أنه «إله بيت إيل» حيث النعمة والقداسة، وحيث ظهر له هناك وأعطاه المواعيد.

تكلم الله مع يعقوب قائلاً: «الآن قم اخرج من هذه الأرض وارجع إلى أرض ميلادك» (ع 13).  هذه الرسالة أنهضت ضمير يعقوب وحركته للرجوع.  وقبل ذلك، بعد ولادة يوسف، تحرك وشعر بالحنين للرجوع، لكنه انخدع بكلام لابان ووعوده والإغراء المادي.  فلنحذر من هذا الشرك الذي يجعلنا تحت نير مع غير المؤمنين، ونخسر خسارة روحية كبيرة.

استدعى يعقوب زوجاته وتكلم معهن، وكان يرى يد الله القدير في كل الأمور.  فيقول: «إله أبي كان معي .. أبوكما غدر بي .. لكن الله لم يسمح له أن يصنع بي شراً .. فقد سلب الله مواشي أبيكما وأعطاني .. قال لي ملاك الله في الحلم..» (أعداد 5-11).  لقد رأى يد الرب المنعمة والتي تسيطر على الأمور وتحول الشر إلى خير.  فاعتبر أن خروجه سالماً من هذا المكان وعودته إلى بيت إيل هو أعظم خير.  ورغم أن كل ما عمله لابان، بحسب النظرة الطبيعية، كان شراً، لكنه أخذ الأمور من يد الرب الذي يجعل كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبونه.

وأنت أيها القارئ العزيز هل ترى الخير في الصحة والثروة والنجاح أم في رضى الرب على حياتك وبيتك ومشروعاتك، وأن يحقق مشيئته في حياتك، وأن تتمتع بالشركة معه وتكون شهادة ناجحة له؟

لم يكن يعقوب طوال إقامته في حاران في شركة صحيحة مع الرب.  لذلك نلاحظ أنه كان يتكلم عنه باعتباره «الله»، كالخالق وليس باعتباره «الرب يهوه» في العلاقة الخاصة مع المؤمنين (أعداد 5-11).

قالت راحيل وليئة ليعقوب: «كل ما قال لك الله افعل» (ع 16).  لقد أطاعت الزوجتان عندما أطاع يعقوب الرب.

«فقام يعقوب وحمل أولاده ونساءه على الجمال، وساق كل مواشيه وجميع مقتناه .. ليجيء إلى إسحاق أبيه إلى أرض كنعان.  وأما لابان فكان قد مضى ليجز غنمه، فسرقت راحيل أصنام أبيها.  وخدع يعقوب قلب لابان الأراميِّ إذ لم يُخبره بأنه هارب.  فهرب هو وكل ما كان له، وقام وعبر النهر وجعل وجهه نحو جبل جلعاد» (أعداد 17-21).

لقد هرب وهو ذاهب إلى فدان أرام من وجه عيسو.  وها هو الآن هارب من وجه لابان بعد 20 سنة.  ويا له من مسكين يحصد نتائج الإرادة الذاتية.

وعلى الرغم من أن الهروب كان على عجل وفي ظروف كربة، لكن راحيل حرصت على أن تسرق أصنام أبيها.  فما الذي دعاها إلى ذلك؟ وكيف بعد العشرة الطويلة بيعقوب لمدة عشرين سنة لم تتعلم بطلان هذه الأوثان؟ ومما يذكر أن يعقوب رغم ضعفه وأخطائه الكثيرة لكنه لم يتورط قط في عبادة الأوثان أو يلتفت إليها.  لكن راحيل، هذه الزوجة المدللة، قد نشأت في بيت مملوء بالأصنام وتعلقت بهذه الأصنام.  والسنين لم تغيِّر شيئاً.  لقد عاشت مع يعقوب الذي أحبها، لكنها لم ترتبط بإله يعقوب، ولم تتفق معه في عبادة الله الحي.  ويا له من تحذير لكل المقبلين على الزواج.  فالزواج هو في المقام الأول ارتباط روحي ثم نفسي وجسدي.  ولن تتحقق السعادة الزوجية إذا فُقد العنصر الروحي والتوافق الروحي بين الزوجين.  ومع السنين سيظل هذا الاختلاف قائماً ويمثل شرخاً في العلاقة الزوجية، ويهددها بالانهيار.  لقد خدعت راحيل أباها وخدعت زوجها إذ لم تخبره بذلك.  ويعتقد البعض أنها سرقت هذه الآلهة بهدف أن لا يستخدمها لابان في إلحاق الأذى بهم، أو في معرفة طريقهم ليسعى وراءهم.  ولكن مهما كانت المبررات فلا يوجد شيء يبرر أو يشفع لراحيل فيما فعلته أو يخفف من كونه خطية عظيمة، كان عليها أن تدفع ثمنها في يوم لاحق. 

«فأخبر لابان في اليوم الثالث بأن يعقوب قد هرب.  فأخذ إخوته معه وسعى وراءه مسيرة سبعة أيام، فأدركه في جبل جلعاد.  وأتى الله إلى لابان الأرامي في حلم الليل وقال له: احترز من أن تكلم يعقوب بخير أو شر.  فلحق لابان يعقوب .. وقال لابان ليعقوب: ماذا فعلت، وقد خدعت قلبي، وسُقت بناتي كسبايا السيف؟ لماذا هربت خفية وخدعتني .. بغباوة فعلت! في قدرة يدي أن أصنع بكم شراً، ولكن إله أبيكم كلّمني البارحة قائلاً: احترز من أن تكلم يعقوب بخير أو شر.  والآن .. لماذا سرقت آلهتي؟ فأجاب يعقوب وقال: .. الذي تجد آلهتك معه لا يعيش» (أعداد 22-32).

عندما أدرك لابان أن يعقوب قد هرب وأفلت من يده حمي غضبه، وسعى وراءه.  ورغم أن عمره في ذلك الوقت كان حوالي 150 سنة لكنه كان يمتلك الحماس والنوايا العدوانية والقدرة على صنع الشر.  إن هذا يشبه ما حدث في تاريخ إسرائيل عند خروجهم من أرض مصر حيث سعى فرعون وراءهم وأدركهم عند فم الحيروث.  وفي الحالتين تدخل الله لصالح عبيده ومنع الأذى عنهم.

إن الله الذي عمل العالمين بكلمة ويحملها بكلمة قد أتى بنفسه إلى لابان الأرامي في اللحظة الحاسمة وحذره من أن يكلم يعقوب بخير أو بشر.  ويا لسلطان الله الذي يتحكم في قلب الإنسان مهما كان شره وشراسته.  ظن لابان أن يعقوب شاة بلا راعي.  لكنه اكتشف أن الله نفسه هو الراعي العظيم المسئول عنه، فارتعب وشعر أنه صعب عليه أن يرفس مناخس.  ويا لأمانة إله كل نعمة الذي يحامي عن عبده ويعمل لخيره وسلامته حتى دون أن يعلم ودون أن يطلب.  لقد انطبقت عليه الكلمات «أصغيت إلى الذين لم يسألوا.  وُجدت من الذين لم يطلبوني» (إش 1:65).  ولولا أن لابان أقر واعترف ما كان يعقوب سيعرف ما فعل الله في الخفاء.  وكم من مراحم لا نشعر بها إن نحصها فهي أكثر من الرمل.  ويا له من تشجيع لكل مؤمن حتى وهو عاثر وخائر.  إنه يخبئه في مظلته في يوم الشر.  ونحن نتذكر ما قاله الرب لأبرام في يوم سابق: «لا تخف يا أبرام.  أنا ترسٌ لك» (تك 1:15).  كان لابان ينوي أن يصنع الشر حتى ببناته وأحفاده وليس فقط بيعقوب.  لكن الله لم يدعه يمسه بسوء.  كان التحذير من خير لابان قبل شره.  فالخير يتضمن أسلوب الخداع والمكر والتملق، وهذا أخطر من الشر الواضح والصريح.

قال لابان ليعقوب: «لماذا سرقت آلهتي؟».  وكيف تكون آلهة إذا كانت لا تستطيع أن تحمي نفسها من السرقة؟! لابان بحث عن آلهته، أما إسرائيل فقد نسوا الرب إلههم أياماً بلا عدد ولم يطلبوه، بل ذهبوا وراء آلهة غريبة.  ويا للعار!!

فتش لابان خباء يعقوب وليئة والجاريتين ولم يجد.  ودخل خباء راحيل وكانت قد أخذت الأصنام ووضعتها في حداجة الجمل وجلست عليها .. ففتش ولم يجد الأصنام.  لقد نجحت راحيل في إخفاء الأمر عن لابان، ولكن ماذا عن الله الذي يرى وكل شيء عريان ومكشوف أمامه.  وعلينا أن نتذكر أنه «ليس مكتوم لن يُستعلَن، ولا خفي لن يُعرَف».

قال يعقوب دون أن يدري: «الذي تجد آلهتك معه لا يعيش».  والسماء صادقت على ذلك.  وكان على راحيل أن تدفع ثمن هذا العمل.

«اغتاظ يعقوب وخاصم لابان .. وقال للابان: ما جرمي؟ وما خطيتي حتى حميت ورائي؟ .. الآن عشرين سنة أنا معك .. لولا أن إله أبي إله إبراهيم وهيبة إسحاق كان معي، لكنت الآن قد صرفتني فارغاً.  مشقتي وتعب يديَّ قد نظر الله، فوبخك البارحة» (أعداد 36-42).

خاف لابان وسعى لمعاهدة صلح أو عدم اعتداء مع يعقوب.  وقال لابان: «ليراقب الرب بيني وبينك حينما نتوارى بعضنا عن بعض .. ليس إنسان معنا .. الله شاهد بيني وبينك» (أعداد 49-50).  ويا لها من حقيقة تملأ القلب بالخوف المقدس.  حَلَفَ يعقوب بهيبة أبيه إسحاق (ع 53).   لقد عاش يعقوب مع إسحاق أبيه ورآه يخاف الرب عبر السنين والله بالنسبة له موضوع مهابة واحترام.  ورآه في آخر يوم يرتعد ارتعاداً عظيماً عندما شعر أنه كان سيخطئ ويخالف فكر الله (تك 27).  فهل أولادنا يعرفون أننا نخاف الله ونحترمه ونرتعد من كلامه ونحترص أن نكون مرضيين عنده وأن لا نخطئ إليه.  «قدسوا رب الجنود فهو خوفكم وهو رهبتكم» (إش 13:8).  ولكن لماذا قال يعقوب عن الله إنه «إله إبراهيم» ولم يقل هيبة إبراهيم، كما دعاه «هيبة إسحاق»؟

الجواب كما أشار أحد الأفاضل أن إبراهيم في ذلك الوقت كان قد مات، فلا مجال للمهابة.  أما إسحاق فكان لا يزال حياً ويهاب الله.  يقول الكتاب: «إن كنتم تدعون أباً الذي يحكم بغير محاباة حسب عمل كل واحد، فسيروا زمان غربتكم بخوف» (1بط 17:1).  فالخوف والمهابة هو طالما نحن في زمان الغربة هنا على الأرض. 

 (يتبع)

الشذرات

لنحذر من هذا الشرك الـــذي
 يجعلنا تحت نير مع غيرالمؤمنين،
 فنخسر خسارة روحية كبيرة.

الزواج هو في المقام
 الأول ارتباط روحي
 ثم نفسي وجسدي

كم من مراحم لا نشعر بها، إن نحصها فهي أكثر

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com