عدد رقم 4 لسنة 2004
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
يعقوب وزوجاته - 2   من سلسلة: مؤمنون في أماكن خاطئه

طالت مدة إقامة يعقوب في حاران دون أن يتوقع ذلك.  وكان الله يتعامل معه معاملات خاصة، ويُعلِّمه دروساً خاصة لم يتعلمها في بيت أبيه. وتوالت الصدمات والخبطات المحسوبة التي من خلالها كان الله يُعيد تشكيله، ويضبط تفكيره، ويزرع فيه أن الجسد لا يُفيد شيئاً.  وأن النظرة الطبيعية والفهم الطبيعي للأمور لا يُحقِّق الهدف الذي يرجوه، ولا يضمن السعادة المنشودة.

راحيل التي أحبها وتعلَّق بها وخَدَم لأجلها كل هذه السنين، كانت عاقراً (تك 31:29).  ولما رأت أنها لم تلد ليعقوب، «غَارَتْ من أختها وقالت ليعقوب: هَبْ لي بنين، وإلا فأنا أموت!» (تك 1:30).

لقد كانت راحيل تملك وجهاً جميلاً يأسر كل مَنْ يراه.  لكن مأساة راحيل أنها رغم نضارتها الطبيعية لم تكن تملك الروح الناضرة على الإطلاق.  كان لها الجمال الظاهري والسطحي الذي يذبل كالزهر، ولكن لم يكن لها الجمال الأدبي الداخلي الذي يظل مزدهراً رغم السنين حتى عندما يزول جمال الوجه.

لقد حرص الروح القدس أن يخبرنا عن حب يعقوب لراحيل، لكنه، كما أشار الأخ الفاضل/ يوسف رياض، لم يُشِرْ إطلاقاً إلى حب راحيل ليعقوب.  لقد خدم يعقوب خدمة شاقة لمدة أربع عشرة سنة، فماذا قدَّمت هي له في المقابل؟ أ كانت هي بحق المرأة الفاضلة التي ثمنها يفوق اللآلئ؟ المرأة التي بها يثق قلب زوجها فلا يحتاج إلى غنيمة؟ هل صنعت له خيراً لا شراً كل أيام حياتها؟ أ كانت قانعة وراضية وشاكرة؟ كلا البتة.  لقد تميَّزت بالغيرة المُرَّة، وكانت تريد أن تمتلك كل شيء.  ولم تحتمل أن أختها تتميَّز عنها في أي شيء.  وكانت على استعداد أن تُحوِّل البيت إلى جحيم.  ولم تقنع بمحبة زوجها الشديدة لها التي ظلَّت بنضارتها مدى حياتها، ولم تجد فيها تعويضاً عن حرمانها من الأولاد.  ورغم كل الامتيازات لم تكن زوجة سعيدة ولم تعرف الاكتفاء بل عاشت تنهشها الغيرة، وماتت في قمة الإحباط.

وفي كلمتها ليعقوب: «هَبْ لي بنين، وإلا فأنا أموت!»، دَلَّت على أن يعقوب لم يكن يُمثِّل شيئاً كثيراً في حياتها.  وماذا كان تأثير كل ذلك على يعقوب؟ لا شك أنه كان يشعر بالمَرَار، وأنه ربما قد أخطأ الاختيار، وكان الأجدر أنه يُسلِّم للرب هذا القرار.  فهو العارف القلوب والعارف المستقبل.  لقد تعلَّم أنه «ليس كما ينظر الإنسان» (1صم 7:16).  ومع ذلك فقد ظلَّ وفياً في محبته لها للنهاية.

«حَمِيَ غضب يعقوب على راحيل وقال: ألعلّي مكان الله الذي منع عنك ثمرة البطن؟» (تك 2:30).  ربما كانت هذه هي المناسبة الوحيدة في كل حياة يعقوب التي فيها حمي غضبه على راحيل.  لكنه لم يكتف بالغضب بل وجَّهها إلى الجهة التي تُقدِّم إليها الالتماس، إلى الله الذي يُغلق ويفتح، يمنع ويمنح.  وقد تعلَّم يعقوب ذلك في مدرسة الله.
كان الأجدر براحيل أن تصلّي وتنتظر الرب، لكنها لم تفعل ذلك.  وما أبعد الفرق بينها وبين حَنَّة أم صموئيل في يوم لاحق.  إننا لم نقرأ قط عن حَنَّة أنها غَارَت من ضَرَّتها فَنِنَّة، ولا أنها حوَّلتْ البيت إلى جحيم، ولا أنها ذهبت بشكواها إلى ألقانة رجلها، ولا فكَّرتْ في الانتحار.  كلا البتة.  لكنها انسحبت بكل هدوء، وانحنتْ أمام الرب، وسكبت شكواها قدامه.  وقالت: «يا رب الجنود، إن نظرت نظراً إلى مذلة أمَتِك، وذكرتني ولم تنسَ أمَتَك بل أعطيت أمَتَك زرع بشرٍ، فإني أُعطيه للرب كل أيام حياته ..» (1صم 11:1).  وهذا هو التصرف الصحيح لشخص يثق في الله ويتكل عليه.

أما راحيل فكانت محكومة بمبادئ آرام المستقلة عن الله، وكان الأسهل عندها أن تتصرف بدلاً من أن تصلّي.  لذلك قالت ليعقوب: «هوذا جاريتي بلهة، ادخل عليها فتلد على ركبتي، وأُرْزَق أنا أيضاً منها بنين» (تك 3:30). 
إن هذا الاقتراح سبق أن جُرِّب في عائلة إبراهيم وثبت فشله الذريع، ولم ينتج عنه سوى النكد والمَرَار.  عندما أعطتْ سارة هاجر جاريتها لإبراهيم وولدت له إسماعيل (تك 16).

ومن عبارة راحيل «أُرْزَق أنا أيضاً منها بنين» نرى كيف كانت الغيرة المُرَّة تنهشها من أختها.  إن تصرف لابان الأحمق جعل يعقوب يرتبط بامرأتين.  وتصرف راحيل بنت لابان جعله يرتبط بزوجة ثالثة، وبعد قليل صار زوجاً لأربع نساء، خارجاً عن ترتيب الله، جالباً على نفسه وعلى بيته المتاعب والصراعات.

إن بيتاً يحوي زوجتين لا يمكن أن ينعم بالسلام.  ولم يكن هذا بحسب فكر الله من البدء.  فالله الذي وضع أساس الزواج، «ذكراً وأنثى خلقهم».  والكتاب يقول: «يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته، ويكون الاثنان جسداً واحداً» (أف 31:5).  ولعلنا نتذكَّر أن أول شخص أدخل مبدأ تعدد الزوجات كان هو لامَك حفيد قايين (تك 4).  وفيه نرى الشهوة والطمع والتمرُّد على ترتيب الله.

إن تعدُّد الزوجات حتماً سيخلق جواً من الصراعات والغيرة والكراهية، خاصة إذا كانت إحداهن مثل راحيل.  وستزداد المسألة تعقيداً إذا كانت الزوجتان أختين.  أما راحيل فأضافت من عندها إلى المشكلة أن أدخلت الجاريتين في ميدان الصراع.  وكما قال الحكيم إن: «السكنى في زاوية على السطح، خيرٌ من امرأة مخاصمةٍ في بيت مُشتَركٍ».  ومن خلال الواقع الأليم الذي نراه حولنا نتعلَّم الحكمة في قول الكتاب: «ليكن لكل واحد امرأته، وليكن لكل واحدة رجلها» (1كو 2:7).  فإن أُحادية الزواج، وهذا هو فكر الله المُعْلَن من البدء، سيضمن بيتاً سعيداً ينعم بالسلام.
كان الفراغ عميقاً في قلب راحيل.  فمع أنها تمتعت بأكبر قدر من الحب الذي تتمناه أية امرأة، لكنها لم تُظهر هذا الحب لأحد قط.  لا لرجلها ولا لأختها.  وهذا يرينا الأنانية القاتلة التي كانت تُميِّزها.

سمع يعقوب لراحيل وأخذ بلهة فحبلت وولدت ليعقوب ابناً «فقالت راحيل قد قضى لي الله وسمع أيضاً لصوتي وأعطاني ابناً.  لذلك دعتْ اسمه داناً» (تك 6:30).  «وحبلت أيضاً بلهة جارية راحيل وولدت ابناً ثانياً ليعقوب، فقالت راحيل: مُصارعات الله قد صارعتُ أختي وغَلَبتُ.  فَدَعَت اسمه نفتالي» (تك 7:30،8).

هذه الأسماء تُعبِّر عن حالة راحيل النفسية وموقفها من أختها ليئة، وما كان بداخلها من مشاعر بغيضة نحو أختها.  إن داناً ونفتالي لا يتحدثان عن نعمة الله، وهي لم تشعر بالامتنان للرب من أجل عطاياه.  وإنما أخذت الأمر على سبيل التحدِّي وكأنها قد حققتْ الانتصار في المعركة والنزاع والصراع ضد أختها.  على الرغم من أننا لا نقرأ عن إغاظة أو تعيير من جانب ليئة لراحيل.  لكن راحيل قط لم تتعاطف مع ليئة ولم تفرح لخيرها.

إن الكتاب يحذرنا من الغيرة باعتبارها من أعمال الجسد.  ولا تليق بقديسين هم أعضاء جسد المسيح الواحد.  والكتاب يقول: «إن كان لكم غيرة مُرَّة وتحزّب في قلوبكم، فلا تفتخروا وتكذبوا على الحق.  ليست هذه الحكمة نازلة من فوق، بل هي أرضية نفسانية شيطانية.  لأنه حيث الغيرة والتحزّب، هناك التشويش وكل أمر رديء» (يع 14:3-16).  هل تشعر بالغيرة من إخوتك إذا كانوا أفضل منك وأكثر نجاحاً؟ هل تشعر بمرارة إذا كان غيرك يملك ما لا تملكه؟ عليك أن تراجع نفسك وتدين هذه المشاعر الجسدية البغيضة، وتفرح لخير إخوتك وتشكر الله من أجلهم.

انزلقت ليئة إلى نفس الخطأ ووقعتْ في نفس الشَرَك الذي وقعتْ فيه راحيل.  فقدمت زلفة جاريتها ليعقوب لتحصل منها على بنين آخرين.  والأسماء التي أعطتها لأولاد زلفة، وإن كانت لا تكشف عن روح صراع ونزاع كما حدث مع راحيل، إلا أنها لم تصل إلى مستوى الإيمان الذي أظهرته في البداية عند تسمية أولادها الذين ولدتهم هي.  لقد كانت قبلاً مشغولة بالرب وذكرتْ اسمه ثلاث مرات مع رأوبين وشمعون ويهوذا.  أما الآن فقد تحوَّلتْ عينها عن الرب، ولم تذكر اسمه إطلاقاً، بل كانت الذات هي محور المشغولية.  فدعتْ الابن الأول «جاداً» أي سعيد أو بسعد.  والثاني «أشير» أي مغبوط.  وقالت «تغبطني بناتٌ» (تك 11:30-13).  لقد ربطت السعادة بجاد، والغبطة بالبنات وليس بالرب.  ويا له من تحوُّل عن الوضع الذي كانت فيه عندما ولدت «يهوذا» وقالت: «هذه المًرَّة أحمد الرب» (تك 35:29)، وكان الرب لها كل شيء.  وما أسهل الانزلاق والتحوّل عن الرب وكفايته الشخصية، إلى الأمور التي تُرى الجسدية والأرضية.


(يتبع)

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com