عدد رقم 1 لسنة 2004
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
راحاب الزانية  

تحدثنا فيما سبق عن واحدة من شابات الكتاب المقدس هي «راحاب الزانية»، تلك الشابة التي ظهرت في التاريخ وقت دخول الشعب إلى  أرض الموعد بقيادة يشوع بن نون.  وهذه الشابة مع أن ماضيها كان ملطخًا بسواد الخطية، لكنها بفضل إيمانها بالرب، قبلت الرسولين، وخبأتهما، فأعطياها الحبل من خيوط القرمز كعلامة للأمان، دلته من الكوة، فنجت من مصير أهل أريحا المرعب، وصارت بعد ذلك من ضمن شعب الله. 

باب بيت راحاب وكوتها

يشير الرسول بولس إلى إيمان راحاب، فيقول: «بالإيمان راحاب الزانية لم تهلك مع العصاة، إذ قبلت الجاسوسين بسلام» (عب11: 31).  بينما يشير يعقوب إلى أعمال راحاب فيقول: «كذلك راحاب الزانية أيضًا أمَا تبررت بالأعمال إذ قبلت الرسل وأخرجتهم في طريق آخر؟» (يع2: 25).  فلقد كان لراحاب إيمان وأعمال، أو بالحري ظهر فيها إيمان عامل، وأظهرت أعمالاً هي ثمرة الإيمان.  ولا قيمة للإيمان إن لم يكن مقترنًا به عمل الإيمان.  فراحاب بالإيمان قبلت الجاسوسين، وبالأعمال صرفتهما من طريق آخر.  إيمانها ارتبط بقبولها للجاسوسين، وأعمالها ارتبطت بصرفها لهما بسلام.  فلقد كان لبيت راحاب باب وكوة.  من الباب أدخلت الجاسوسين إلى بيتها بالإيمان، لكنها صرفتهما من الكوة، وهذا ما بررها بالأعمال.

الإيمان إذًا مقترن بالباب.  وكم هو مهم جدًا أن يكون هناك فاصل بين عائلة الإيمان وأريحا.  ونلاحظ أن باب بيت راحاب - روحيًا - هو مدخل من اتجاه واحد. فلقد دخله الجاسوسان، ولم يخرجا منه، بل من الكوة. وفيما بعد أدخلت راحاب إلى بيتها كل من يريد النجاة، مع التحذير المشدد أن من يخرج من الباب فدمه على رأسه (يش2: 19).  فلقد كان كل من له علاقة مع راحاب مدعو للدخول، ولكن الويل لمن يخرج من هذا الباب.  وهكذا معنا نحن الآن، فقد صار لنا الدخول بالإيمان إلى هذه النعمة التي نحن فيها مقيمون (رو5: 2)، وما أشر عقاب المرتد عن الإيمان!

لكن كما ارتبط إيمان راحاب بالباب الذي منه قبلت الجاسوسين، فقد ارتبط رجاؤها بالكوة التي منها خرج الرسولان، والتي من خلالها كان نظرها دائمًا موجهًا، منتظرة عودة يشوع ومعه كل الشعب المفدي.

لم تكن كوة بيت راحاب تنظر إلى مدينة الهلاك، بل إلى خارجها، حيث نزل الجاسوسان وصرفتهما بسلام، وحيث كان شعب الله مزمعًا أن يأتي، بل وحيث تابوت الرب يتقدمهم.  وما أجمل أن يكون هكذا معنا، أي أن تكون نظرتنا وتطلعاتنا وأمانينا لا إلى داخل العالم المقضي عليه، بل كما يقول الرسول: «لأن.. حياتكم مستترة مع المسيح في الله.  متى أظهر المسيح حياتنا، فحينئذ تظهرون أنتم أيضًا معه في المجد» (كو3:3و4).

والكوة التي ارتبطت مع تبرير راحاب بالأعمال، تعبِّر أدبيًا عن نظرتنا للأمور.  ونحن إذا كانت لنا النظرة الصحيحة، سينتج عن هذا أعمالاً صحيحة.  ترى هل نظرتنا وانتظارنا يؤثران حقًا على عملنا؟ يقول الرسول بطرس: «فبما أن هذه كلها تنحل، أي أناس يجب أن تكونوا أنتم، في سيرة مقدسة وتقوى» (2بط3: 11). 

أخي العزيز .. إننا من نظرتنا إلى الجانب الآخر من مدينة الهلاك يمكننا أن نقول جازمين: «إن خلاصنا الآن أقرب مما كان حين آمنا» (رو11: 13)، وفي الوقت ذاته فإن دينونة هذا العالم تقترب مع كل دقيقة تمر.  الله وحده يعلم متى ستُقال آخر كلمة مصالحة للعالم الرافض.  وعندما يقوم رب البيت ويغلق الباب، سيكون عبثًا قرعاتك وصرخاتك، مع كل المؤجلين وغير المبالين.  فهلا تسرع إلى المخلص الوحيد قبل أن يكون ذلك متأخراً؟  هل تأتي إلى ذاك الذي ليس بأحد غيره الخلاص؟

وعلى العكس من ذلك فكم سيسعد كل المؤمنين الحقيقيين عندما يبوق الملاك السابع، ويسمع الصوت: «صارت ممالك العالم لربنا ومسيحه» (رؤ11: 15).  فنحن ساعتها لن نكون كراحاب مغلق علينا في بيت، داخل أسوار المدينة المقضي عليها بالهلاك، بل سنكون كالرسولين ضمن الجيش المنتصر، ويتم القول: «ويأتي الرب إلهي، وجميع القديسين معك» (زك14: 5). 

الكل قد صار جديدًا.

لقد تغيرت راحاب بعد إيمانها بالرب، وصارت خليقة جديدة.  والشيء الرائع الذي يعلنه الإنجيل، والذي يجهله أو ينكره كل الذين يحوِّلون نعمة إلهنا إلى الدعارة، أن الإيمان ليس فقط يخلص من المستقبل المظلم بل يغيِّر أيضًا الواقع الأليم.  مجدًا لله الذي نعمته تغفر وتغيِّر (إش1: 18)، وإيماننا الصحيح يبدل الحال والمآل، والله يعطي من يطلب منه طبيعة جديدة الآن، وأبدية سعيدة عن قريب.

فهل تظن أيها القارئ العزيز أن راحاب صرفت الجاسوسين من الشباك، ثم عادت لتواصل نوع حياتها القديمة بعد؟ أو هل تظن أن المرأة الخاطئة التي سمعت من المسيح «مغفورة لك خطاياك .. إيمانك قد خلصك، اذهبي بسلام» (لو7: 48و50)، خرجت من محضر الرب لتستمر في الخطية كما كانت؟  أو هل اللص التائب لو كان قد أنقذ من الصليب كان سيعود لسابق حياته من قتل وترويع للآمنين؟  كلا. يقول الكتاب المقدس: «إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة.  الأشياء العتيقة قد مضت، هوذا الكل قد صار جديدًا» (2كو5: 17). 

لقد تغير ولاء راحاب من ملك أريحا وشعبه إلى شعب الرب ويشوع، بل قل إنها انتقلت من سيادة الشيطان إلى الرب.  كما أنها هي نفسها تغيرت من امرأة فاسدة إلى امرأة فاضلة.  فهل حدث ما يشبه هذا معك أيها القارئ العزيز؟

بل إننا نستطيع أن نقول إن عمل النعمة كان ظاهرًا في راحاب حتى قبل وصول الجاسوسين، وما عملته معهما – كما ذكرنا - كان عمل إيمان، ذلك الإيمان الذي سبق وأحياها.  لقد أرسل الرب هذين الرسولين لينقذاها من مصير أريحا، لأنها كانت قد آمنت. وكلماتها للجاسوسين دلت على هذا الإيمان، فليس أنهما أخبراها، بل إنها هي التي أخبرتهما!

والإشارة العابرة إلى عيدان الكتان التي وردت في قصتها يرى فيها البعض إنها إشارة محملة بالمعاني.  فمن سفر الأمثال 31 نتعلم أن الذي يشتغل في الكتان الأبيض هو المرأة الفاضلة (أم31: 10-13).  مما يعني أنها كانت قد هجرت مهنة الدعارة.  ثم من باقي قصتها في الوحي نتعلم أنها ليس فقط آمنت بإله إسرائيل، بل أتْحدت نفسها أيضًا بإسرائيل الله.  لقد ربطت نفسها بالله وشعبه، وكأنها تقول مع راعوث كنتها:«شعبك شعبي وإلهك إلهي» (را 1: 16).  وهكذا معنا اليوم، فنحن ما زلنا في العالم (أريحا)، لكننا روحيًا وأدبيًا منفصلون عنه من الآن وإلى الأبد، والمسيح أسلم نفسه لينقذنا من العالم الحاضر الشرير حسب إرادة الله وأبينا (غل1: 4)، وإلهنا نحن ليس هو «إله هذا الدهر». 

كثيرون أيضًا مثل راحاب كان ماضيهم مشينًا لكن نعمة الرب غيرت حياتهم إلى حياة الفضيلة والتقوى. وأي إنسان مهما كان شره كبيرًا، يمكنه أن يخلص إن هو تاب عن الخطية، قبل أن يكون ذلك متأخراً.

راحاب كارزة

ونحن نعجب براحاب هذه أيضًا في دائرة أخرى، فلقد اهتمت بأهل بيتها، وسعت لخلاص نفوسهم.  اسمعها وهي تقول للجاسوسين: «تعملا أنتما مع بيت أبي معروفًا، وتستحييا أبي وأمي وإخوتي وأخواتي، وكل ما لهم، وتخلصا أنفسنا من الموت» (ع12و13).  وهي في هذا تقف في مباينة مع لوط البار، الذي نجا بالكاد من النار.  وبينما لم يقدر لوط أن يخلص أحدًا من أنسبائه في سدوم، فقد نجت راحاب من حريق أريحا، كما كانت أيضًا سبب بركة لعدد كبير من أهل بيتها.

لقد بحثت راحاب عن الهالكين أمثالها لتقدم لهم الخلاص بالنعمة الذي تمتعت هي به! فهذه هي الروح التي تميز المؤمنين الحقيقيين.  وفي ما بعد نجد هذه الروح الفاضلة تظهر في متى الرسول الذي كان قبلا عشارًا، وبعد تغيير حياته فقد عمل وليمة ودعا إليها جمعًا كثيرًا من عشارين وآخرين (لو5: 29)، وكأنه يريدهم أن يتعرفوا على المسيح مخلص الخطاة الذي خلصه هو، والذي يقدر أن يخلصهم أيضًا. هكذا هنا مع راحاب، فلقد أيقنت بفطنة الإيمان الذي كان لها، أن الحبل الذي من خيوط القرمز، يكفي لكل من يحتمي داخل البيت المدلى منه هذا الحبل، بغض النظر عن عددهم، أو حالتهم الأدبية والأخلاقية. 

قارئي العزيز ..  إن كان الحبل القرمزي المدلى من كوة بيت راحاب خلص كل من كانوا بداخل البيت، فماذا يقدر دم المسيح أن يفعل؟  إنه بكل يقين يقدر أن يخلص أتعس الخطاة.  فهل احتميت أنت في دم المسيح؟  وإن كان لا فلماذا لا تُظهر فطنة الإيمان عينها التي أظهرتها هذه الشابة، التي كانت قبلاً غارقة في أوحال الخطية، لكنها نجت من الحياة التعيسة ومن المستقبل المظلم بفضل إيمانها، وعلى حساب دم المسيح، الذي يطهِّر من كل خطية؟

بركات لا تخطر على بال

من كان يصدق أنه من شعوب كنعان الملعونين منذ القديم يأتي الله بامرأة تذكر في سحابة الشهود وسجل أبطال الإيمان؟  من كان يتخيل أنه بين خبايا حجارة أريحا الخشنة، رأى الله جوهرة ثمينة، وأنه من مدينة ملعونة سر الله بأن يهيئ آنية رحمة سبق الله فأعدها للمجد!

لكن كانت تنتظر راحاب أربع بركات تتصاعد وتعلو في القيمة:

  • البركة الأولى أنها لم تهلك مع العصاة. لقد كان أهل أريحا عصاة، ولذا هلكوا. لكن ديان كل الأرض حاشا له أن يهلك المطيع مع العاصي، فيكون البار كالأثيم.  ومع أن بيتها كان على السور، لم يكن مستحيلاً على ذلك الذي أسقط الأسوار بمعجزة أن يحفظ بيت راحاب من السقوط بمعجزة.  فيعلم الرب أن ينقذ الأتقياء.  وإن كان إيمان الشعب أسقط أسوار أريحا، فإن إيمان راحاب حفظ بيتها فلم يسقط!
  • البركة الثانية أنها «سكنت في وسط إسرائيل» (يش6: 25). فتلك التي سكنت سابقًا على سور أريحا، أي على هامش الحياة، ليس لها قيمة حقيقية، وقد عاشت في الشر والخطية، فإنها سكنت في وسط إسرائيل بعد أن تغيرت حياتها إلى حياة التقوى والفضيلة.
  • والبركة الثالثة أنها اقترنت بسلمون، أحد الرؤساء في سبط يهوذا، وصارت «أمًا في إسرائيل»، وذلك طبعًا بعد أن محت النعمة ماضيها السيئ وآثاره.  ونتيجة لهذا الزواج أنجبت بوعز جبار البأس في بيت لحم.  وإذا كانت عظمة الأم تقاس بحال أولادها، فيا لها من أم عظيمة، تلك التي صارت أمًا لذلك الرجل الفاضل النبيل: «بوعز».
  • وأما البركة الرابعة والأخيرة فهي أنها ظهرت في سلسلة النســب الملكية في متى 1.  عجبًا وكل العجب أن راحاب البغية، صارت هدفًا لنعمة الله الغنية.  وتلك المرأة الساقطة البائسة، أصبحت رأس النبع لنهر الحياة الذي أتانا في ملء الزمان مولودًا من امرأة، واسمها يلمع في سلسلة نسب المسيح!

يا له من إله عظيم، «قادر أن يفعل فوق كل شيء أكثر جدًا مما نطلب أو نفتكر»!

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com