عدد رقم 1 لسنة 2004
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
18 - يعقوب وبداية الحصاد   من سلسلة: مؤمنون في أماكن خاطئه

رأينا في المرة السابقة كيف وصل يعقوب سالماً إلى حاران.  وعند البئر تقابل مع راحيل لأول مرة.  وكان اللقاء حاراً.  ثم خرج لابان لاستقباله ورحب به في بيته ضيفاً عزيزاً مكرماً.  فأقام عنده شهراً من الزمان.

 «ثم قال لابان ليعقوب: ألأنك أخي تخدمني مجاناً؟ أخبرني ما أجرتك» (ع 15). 

إن أعمال العناية المترفقة لا تلغي حكومة الله البارة.  وعلينا أن نعرف أن إله المجازاة حي، والقانون الإلهي أن الذي يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضاً (غل 7:6) هو حقيقة مؤكدة، وإن كان القضاء على العمل الرديء لا يُجرى سريعاً (جا 11:8)، لكن الحصاد لا بد أن يأتي ولو بعد حين.

فهل يمكن أن الله يتغاضى نهائياً عما فعله يعقوب؟ وهل خداعه لأبيه والأسلوب الجسدي الذي انتهجه سيمر كأن الله لا يلاحظ أو لا يبالي بالخطأ؟ كلا البتة.  كان يعقوب واحداً من أولاد الله، وأي ابن لا يؤدبه أبوه؟ إن التأديب هو عملية تربية وتعليم وتهذيب وتقويم وتوبيخ وعقاب.  والله بمعاملاته التأديبية مع المؤمنين، يزرع فيهم مبادءه، ويعلمهم طريق البر، ويجعلهم في توافق مع صفاته وطبيعته، ويظهر أمام العالم أنهم أولاد الله في أخلاقهم وكلامهم وتصرفاتهم ومظهرهم.  إنه يؤدبنا للمنفعة «لكي نشترك في قداسته.  ولكن كل تأديب في الحاضر لا يُرى أنه للفرح بل للحزن.  وأما أخيراً فيعطي الذين يتدربون به ثمر بر للسلام» (عب 10:12،11).  وكان هذا هو الطابع المميز لحياة يعقوب «التأديب الذي في البر، لكي يكون إنسان الله كاملاً، متأهباً لكل عمل صالح» (2تي 16:3،17).

ودائماً هذه المعاملات التأديبية ليست دون سبب في الإنسان، وليست دون محبة في الله.  وهذا السبب قد يكون أخطاء ارتكبناها في السر أو العلن، أو أشياء فينا تحتاج إلى تصحيح وتقويم.

إن الله البار يشرف على الأحداث ولا يدع شيئاً يمر دون حساب ولو بعد سنوات طويلة.  تأمل ما فعله المصريون بالعبرانيين الضعفاء من قسوة وعنف.  لقد صرخوا من الذل والعبودية والظلم.  ولسنوات كان يبدو أن السماء صمتت والله لم يتحرك.  لكن التبعات أثبتت أن الله كان يرى ويسمع ويشعر بهم، وفي الوقت المعين تدخل وأدان الشر.  وهذا ما أعلنه قبل مئات السنين لأبرام عندما قال له: «والأمة التي يُستعبدون لها أنا أدينها» (تك 14:15).

إن مبدأ الزرع والحصاد هو مبدأ إلهي صحيح ذكره الرب بعد الطوفان مباشرة.  «مدة كل أيام الأرض زرع وحصاد» (تك 22:8).  وحول هذا الموضوع الهام نلاحظ ما يلي:

  1. الزرع ليس هو أن تسقط بذرة عفواً عن غير قصد.  وليس هو مجرد زلة أو عثرة، بل الزرع هو عملية تخطيط وتنفيذ وقرارات ومتابعة وإصرار واستمرارية.  إنه طريق سار فيه الشخص بإرادته وهو توجه فكري في أعماقه قاده أن يفعل ما فعل.  وأوضح مثال على ذلك ما فعله يعقوب بالاتفاق مع رفقة لخداع إسحاق (تك 27).  وما فعله داود مع بثشبع وأوريا (2صم 11). 
  2. الزرع والحصاد ليس فقط في الشر وإنما أيضاً في عمل الخير.  ويقول الرسول: «فلا نفشل في عمل الخير لأننا سنحصد في وقته إن كنا لا نكل» (غل 9:6).
  3. الحصاد لا يعقب الزرع مباشرة بل يحتاج إلى وقت وربما سنوات طويلة.
  4. الزرع هو عادة في الخفاء(مثلما فعل داود)، ولكن الحصاد علانية (مثلما فعل أبشالوم) (2صم 11:12). 
  5. الزرع هو عادة لبذرة صغيرة ولكن الحصاد أوفر.  والنعمة التي تغفر لا تلغي مبدأ الحصاد.
  6. الحصاد هو من نفس نوع الزرع.  فمن يزرع للجسد من الجسد يحصد فساداً ومن يزرع للروح فمن الروح يحصد حياة أبدية (غل 8:6).  «ومَنْ يزرع بالشح فبالشح أيضاً يحصد، ومَنْ يزرع بالبركات فبالبركات أيضاً يحصد» (2كو 6:9).
  7.  الزرع والحصاد ليس هو المبدأ الوحيد في معاملات الله مع البشر.  فالله صاحب السلطان المطلق، وهو قد يفعل أشياء تخالف توقعاتنا مستخدماً سلطانه في النعمة.  إنه يرحم مَنْ يرحم ويتراءف على مَنْ يتراءف (رو 15:9).  وقد نتوقع أشياء ويحدث العكس.  فمن عرف فكر الرب أو مَنْ صار له مشيراً؟  يقول النبي في المزمور: «في البحر طريقك، وسبلك في المياه الكثيرة، وآثارك لم تُعْرَف» (مز 19:77).

وهناك أمثلة كتابية كثيرة على الزرع والحصاد نذكر منها على سبيل المثال:

  1. عندما انحدر أبرام إلى مصر.  لم يكن ذلك مجرد زلة عابرة، وإنما كان طريقاً سار فيه وقراراً اتخذه، وقبل ذلك كان قد ارتحل ارتحالاً متوالياً نحو الجنوب متباعداً عن بيت إيل.  لهذا كان لا بد أن يحصد متاعب وخسائر هناك (تك 12).
  2. لوط اختار لنفسه سدوم، وأصر على أن يعود إليها ثانية بعد أن رجع من السبي.  وكان الحصاد مريراً هناك (تك 13،14،19).
  3. يعقوب موضوع تأملاتنا إذ خدع أباه، فخدعه خاله لابان.  وبعد سنوات خدعه أولاده بالقميص الملون المغموس بالدم (تك 29،37).
  4. إخوة يوسف أذلوه وباعوه عبداً إلى مصر، فتعرضوا للذل والعبودية في مصر.
  5. يوسف زرع تقوى وأمانة للرب، فحصد إكراماً إلهياً إذ ركعت له كل أرض مصر.
  6. فرعون أغرق أولاد العبرانيين، فمات غرقاً في البحر الأحمر (خر 1،14).
  7. أدوني بازق، أمسكوه وقطعوا أباهم يديه ورجليه.  فقال كما فعلت هكذا جازاني الله (قض 7:1).
  8. شمشون زرع للجسد (قض 14،16)، فحصد مَرَاراً.  لقد قلعوا عينيه وقيدوه بسلاسل نحاس وكان يطحن في بيت السجن.
  9. أليمالك رجل نعمي الذي ذهب إلى موآب، فمات هو وابناه هناك (را 1).
  10. عالي الكاهن أهمل في تربية أولاده وكان يكرمهم على حساب الرب.  فانكسرت رقبته ومات (1صم 4).
  11. داود أخذ بثشبع وقتل أوريا الحثي.  فمات له أربعة أولاد.
  12. آخاب قتل نابوت اليزرعيلي ولحست الكلاب دمه، فمات ولحست الكلاب دمه حسب قول الرب بفم إيليا (1مل 21،22).
  13. جيحزي جرى وراء نعمان السرياني وأخذ منه فضة وثياب، فلصق به وبنسله برص نعمان (2مل 5).
  14. هامان عمل خشبة لمردخاي فمات مصلوباً عليها (أس 5،7).  ومردخاي عمل خيراً للملك فأكرمه (أس 6).

«قال لابان ليعقوب ألأنك أخي تخدمني مجاناً؟  أخبرني ما أجرتك» (ع 15).  كانت هذه أول سحابة في أفق حياة يعقوب، وأول ظهور لعصا الله المؤدبة، وأول صدمة له عند لابان.  لقد ظن أنه سيعيش ضيفاً معززاً مكرماً، سيداً لإخوته ومخدوماً من الكل كما قال له أبوه وهو يباركه.  لكنه فوجئ بكلام لابان الذي جرح كبرياءه وأشعره أنه مجرد خادم بالأجر في هذا المكان.  لقد أراد لابان أن يستغل يعقوب ويستفيد من وجوده.  وفهم يعقوب أنه يتعامل مع شخص لا يعرف العطاء وإنما يبيع كل شيء.  وهذه هي مبادئ العالم الممثل في آرام.  وكان على يعقوب أن يتعلم أن طريق العصيان والالتواء مُكَلِّف، وأن الحصاد قد بدأ.

كان الدرس الأول الذي تعلمه يعقوب هو الاتضاع المذل والخضوع.  وإن كان قد رفض الخضوع لله، فإن عليه أن يخضع مُجْبَرَاً للابان ويخدم سيداً من أردأ النوعيات.

 (يتبع) 

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com