عدد رقم 1 لسنة 2002
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
إبراهيم في جرار  

«وانتقل إبراهيم من هناك إلى أرض الجنوب، وسكن بين
قادش وشور، وتغرّب في جرار.  وقال إبراهيم عن سارة
امرأته: هي أختي.  فأرسل أبيمالك ملك جرار وأخذ سارة»
(تك 1:20،2)


رأينا إبراهيم في تكوين 18 في حبرون رجل الشركة، يستضيف الرب ويستقبل مواعيده وأفكاره ومقاصد.  ثم رأيناه متشفعاً لأجل سدوم.  لقد كان هناك في القمة روحياً.

ولكن هنا في أصحاح 20 نرى تغييراً مفاجئاً ومحزناً.  نراه ينتقل من حبرون ويرتحل من مكان الشركة ويكرر خطأً قديماً يوم ارتحل عن بيت إيل ونزل إلى مصر (تك 12)، وقال عن سارة هي أختي، إذ كان خائفاً أن يموت بسببها لأنها كانت حسنة المنظر.

إن وجود الجسد فينا، الذي يظهر في بعض الأوقات ويقود إلى الانحراف عن طريق البر وفعل ما يهين الرب، يجعلنا نفهم بخجل وحزن ما عمله إبراهيم.  وإذا لم يكن القارئ قد اختبر شيئاً من هذا الانحدار فلا مجال للافتخار سوى بالنعمة القادرة أن تحفظنا غير عاثرين.

ولم يكن السقوط هذه المرة سقوط شخص صغير أو مبتدئ في طريق الإيمان، لكنه انحدار شخص سار طويلاً مع الله، ولكنه الآن على استعداد أن يضحي بشرف امرأته التي منها سيأتي الابن الوارث، بل منها سيأتي المسيح مستودع البركة لجميع قبائل الأرض.  لقد بدأ العد التنازلي لتحقيق الوعد بالنسل يوم زاره الرب وقال له: «إني أرجع إليك نحو زمان الحياة ويكون لسارة امرأتك ابن» (تك 10:18).

حاول العدو أن يهاجم الميراث يوم أغرى أبرام بالنزول إلى مصر.  وهنا كان العدو يهاجم الوارث نفسه بأن تذهب سارة إلى أبيمالك.

كانت قد مضت 20-25 سنة منذ ذلك الحين الذي فيه نزل أبرام إلى مصر وخرج منها مطروداً ومُوبَّخَاً.  وبعد أن رُدَّت نفسه بنى مذبحاً للرب، ودعا باسم الرب واستعاد شركته وشهادته.  ثم نراه شخصاً سماوياً يضحي بحقوقه حفاظاً على الشهادة.  ثم نراه ينقل خيامه إلى حبرون وهناك يبني مذبحاً للرب (تك 13).  ومن هناك يخرج لمحاربة كدر لعومر ورفقائه وينتصر عليهم ويُرجِع المسبيين، ويرفض بإباء عطايا ملك سدوم (تك 14).  ثم يستقبل إعلاناً عجيباً عن النسل وعن ضمان الميراث (تك 15).  ورغم ما حدث من فشل في زواجه من هاجر (تك 16)، فقد استعاد اتزانه وارتقى إلى القمة في تكوين 18.  فكيف بعد كل هذا ينحدر مرة أخرى ويُؤخَذ بشرك الخوف من الإنسان ويلجأ إلى أكثر وسائل الخداع خزياً فيكذب ويُعرِّض زوجته للمهانة.

إن إبراهيم خلال كل هذه السنين لم يكن في ظروف تُظهِر الشر الذي بداخله، وتكشف هذه النقطة الضعيفة التي عنده.  ولكن عندما تعرّض لموقف يلمس هذه النقطة انكشفت على الفور.  ونحن لا نعرف ما في قلوبنا حتى تأتي ظروف تجعله يطفو على السطح.

  وبطرس لم يخطر بباله أنه يمكن أن ينكر الرب.  وكان صادقاً يوم قال له: «لو اضطررت أن أموت معك لا أنكرك!».  لكنه عندما دخل في ظروف تجمعت على هذه النقطة الضعيفة ظهر في الحال فشله.  وكم نحتاج أن نصلي قائلين: «لا تدخلنا في تجربة».

كان مطلوباً أربعين سنة، طالت بها رحلة البرية فوق الطبيعي، لتعليم بني إسرائيل ما كان في قلوبهم (تث 2:8)، ولكي يدركوا فساد طبيعتهم.  وهو درس هام لكل تلميذ في مدرسة الله.  وهذا يجعله يخاف من نفسه ولا يأتمن الجسد مهما طال الاختبار.  إن الذي يحفظ المؤمن ليس طول الاختبار، بل الوجود اليومي في الشركة مع الله.

وكم هو جميل ومؤثر أن نعقد مفارقة بين العبيد والسيد.  إن ضغط الظروف قد كشف الضعف والفشل في كل البشر.  لكنه قد أظهر كل الكمال في ذلك الإنسان الفريد شخص ربنا يسوع المسيح عندما كان بالجسد على الأرض.  فعندما كان جائعاً في البرية لمدة أربعين يوماً، وطلب منه المجرِّب أن يُصيِّر الحجارة خبزاً لأجل تسديد أعوازه الشخصية، بكل ثبات رفض هذا الطلب وعاش بكل كلمة تخرج من فم الله.  وعندما جلس متعباً على البئر محتاجاً إلى قليل ماء ليشرب، تكلم مع السامرية عن عطية الله وعن الماء الحي.  وعندما رُفِضت خدمته من مدن بأسرها، خضع بكل وداعة وتواضع وقال: «أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض .. نعم أيها الآب، لأنْ هكذا صارت المسرة أمامك».  وعندما شُتم لم يكن يشتم عوضاً، وإذ تألم لم يكن يهدد بل كان يُسلّم لمن يقضي بعدل.  وعند الصليب كان صافحاً عن صالبيه بصلاة ودعاء.

نعود إلى إبراهيم وتصرفه.  لماذا ترك حبرون وانتقل إلى جرار؟ في المرة الأولى عندما ترك بيت إيل وانحدر إلى مصر كان ذلك بسبب الجوع.  أما هنا فلا يوجـد ما يبرر نزوله وتغربه في جرار.  وربما - كما أشار أحد الأفاضل - أن ذلك حدث بعد احتراق سدوم.  ونحن نعلم أن إبراهيم كان مرتبطاً عاطفياً بلوط حيث لم يكن لإبراهيم ابن طوال هذه السنين.  وعاطفة الأبوة هذه ظهرت إذ أخذه معه في رحلته من أور الكلدانيين إلى كنعان.  ثم يوم سمع أن لوطاً قد سُبيَ لم يحتمل الانتظار إلى الصباح وأخذ جميع ولدان بيته وخاطر بنفسه، وحارب وأرجع المسبيين.  وأخيراً ظهرت هذه العاطفة وهو يتشفع لأجل لوط البار لكي لا يهلك بإثم سدوم.  وحصل إبراهيم على وعد من الرب أنه سيصفح عن المدينة إذا وجد فيها عشرة أبرار.  بكّر إبراهيم في الصباح وتطلع نحو سدوم وإذا دخان الأرض يصعد كدخان الأتون.  ظن أن لوطاً قد مات واحترق.  فحزن واكتئب.  ولم يعلم أن الرب أنقذ لوطاً من وسط الانقلاب.  وتحت شعور بالحزن رحل إبراهيم عن هذا المكان لكي لا يرى هذا المشهد باستمرار، وانتقل إلى أرض الجنوب.

ونلاحظ أنه لم يذهب إلى هناك ليزاحم أو يطمع في أي شيء.  ولا ذهب مُنجذباً بإغراءات العالم. بل ليتغرب في جرار.  وكلمة «جرار» تعني "إقامة مؤقتة".

وأرض الجنوب هي صحراء النقب.  وهي «بين قادش وشور» و «قادش» معناها "مقدس" و «شور» معناها "سور".  ونحن نقرأ عن «برية شور» في سفر الخروج 15 بعد عبور الشعب البحر الأحمر في بداية رحلة البرية.  كما نقرأ عن «قادش» في سفر العدد 20 في نهاية رحلة البرية.  في الأولى نقرأ التعبير «ولم يجدوا ماء» (خر 22:15)، وفي الثانية نقرأ «ولم يكن ماء للجماعة» (عد 2:20).  فالذي ميّز أرض الجنوب هو قلة المياه أو انعدامها.  والماء مطلب أساسي في الحياة يكلمنا عن احتياجات طبيعية وأساسية في حياتنا.  والحرمان من الماء يعني الحرمان من أشياء محببة وهي مشروعة وليست خطية، بل هي ضرورية لنا.  هذا ما نتعلمه من أرض الجنوب.  إن الحرمان هو أعظم مدرسة يدرب فيها الله شعبه.  وماذا علينا أن نفعل ونحن في أرض الجنوب؟ الجواب نراه في عكسة بنت كالب. لقد قالت لأبيها: «أعطني بركة.  لأنك أعطيتني أرض الجنوب فأعطني ينابيع ماء.  فأعطاها الينابيع العليا والينابيع السفلى» (يش 19:15).  والينابيع العليا تكلمنا عن البركات الروحية السماوية، والينابيع السفلى تكلمنا عن البركات الزمنية التعويضية.

إن الحرمان هو فرصة لاختبار بركة من الرب.  لكنه أيضاً امتحان قد يفشل فيه المؤمن.  وهذا ما يحدث في أحيان كثيرة.  لقد لجأ إبراهيم إلى الحكمة الإنسانية لكي يحمي نفسه ولم يستند على الله القادر أن يحفظه ويحقق مواعيده له.  

كانت سارة نحو تسعين سنة في ذلك الوقت، لكن الله جدد شبابها بطريقة معجزية فاستعادت نضارتها وجمالها.  وهذا يفسر كيف طلبها أبيمالك.

كان الشيطان يحاول تعطيل مشروع الله وقصده بمجيء المسيح، نسل المرأة ونسل إبراهيم، بأن تذهب سارة لأبيمالك.  ولكن هل يمكن حقاً أن مشروع الله يخيب حتى لو تصرف المؤمن بالخطأ؟ حاشا.  لقد تدخل الله بنفسه ووضع الحواجز الإلهية وأحبط مخطط العدو.  ويا لسلطان الله المطلق الذي يسيطر على الأحداث وعلى قلوب بني البشر! فإن قلب الملك في يد الرب كجداول مياه حيثما شاء يميله.

خطأ إبراهيم يظهر في أصحاح 13:20 عندما قال: «وحدث لما أتاهني الله من بيت أبي أني قلت لها: هذا معروفك الذي تصنعين إليَّ: في كل مكان نأتي إليه قولي عني: هو أخي».  كان هذا الاتفاق قبل الخروج من أور الكلدانيين.  وقد استمر معهما بطول الرحلة.  إنها بذرة قديمة لم يُحكَم عليها فأثمرت.  ومع ذلك فإن عدم أمانة إبراهيم لم يُبطل أمانة الله.  فقد ظل الله أميناً من جهة مواعيده، فهو لا يمكن أن ينكر نفسه ولا يغير ما خرج من شفتيه.

لكن دعونا لا ندين إبراهيم بل أنفسنا.  فكم من المرات نثق في الله من جهة الأمور الأبدية، ولا نثق فيه من جهة الأمور الوقتية الزمنية، واحتياجاتنا اليومية.  إننا كثيراً ما نثق في حكمتنا الإنسانية وتدبيراتنا الجسدية لمواجهة الأمور أكثر مما نثق في الله الذي يرتب ويدبر كل شيء حسناً في وقته.

والشيء المعزي في هذه القصة هو: كيف تصرف الله؟ هل فقد صبره مع إبراهيم؟ هل طرحه جانباً وكف عن التعامل معه؟

كلا.  إن الله لا يطرح الدرر الثمينة لمجرد أن علق بها التراب.  نعم لقد أظهر إبراهيم مثالاً سيئاً أمام الفلسطينيين.  ومع ذلك فإن الله تصرف بنعمة سامية نحوه.  وهذا ما سنراه في العدد القادم بمشيئة الرب.      

(يتبع)

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com