عدد رقم 4 لسنة 2002
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
إسحاق في جرار   من سلسلة: مؤمنون في أماكن خاطئه

«وزرع إسحق في هذه الأرض فأصاب في تلك السنة مائة ضعف، وباركه الرب.  فتعاظم الرجل وكان يتزايد في التعاظم حتى صار عظيماً جداً» (تك 12:26، 13).

كثيرون يجدون صعوبة كبيرة في تفسير هذه البركة الغزيرة.  إذ كيف نحكم على إقامة إسحاق في جرار أنها خطأ وأمامنا هذا النجاح؟ وعلينا أن نعرف أن النجاح الزمني ليس دليلاً على صحة الحالة الروحية، وليس قياساً للنجاح الروحي أو علامة الرضى والمصادقة الإلهية.  وهناك فارق بين حضور الرب وإظهار ذاته للمؤمن وبين بركات الرب الزمنية.  وكثيرون يتمتعون ببركات الرب ويُحرَمون من حضوره السعيد والتلذذ بالشركة معه.

ومن ناحية أخرى فقد قال الرب لإسحاق في عدد 3: «أباركك».  وكان ذلك قبل أن يظهر الفشل من جانب إسحاق.  وفي عدد 12 ، بعد الكذب والفشل، نجد تحقيق هذا الوعد «وباركه الرب».  وهنا نرى أن «الذي وعد هو أمين» (عب 23:10).  وحتى «إن كنا غير أمناء فهو يبقى أميناً، لن يقدر أن ينكر نفسه» (2تي 13:2).  وفي الوقت الذي أظهر في إسحاق كل الفشل فاض عليه الرب بالبركة الزمنية فأصاب فيتلك السنة مائة ضعف - ويا للنعمة! وكم من المرات يخجلنا الرب بمعاملاته الطيبة.  والآن أيها القارئ العزيز هل تهمك البركات الزمنية أكثر أم الشركة مع الرب والتلذذ به «تلذذ بالرب (أولاً) فيعطيك سؤل قلبك» (مز 4:37).  «اطلبوا ملكوت الله وبره، وهذه كلها تزاد لكم» (مت 33:6).  وذلك يسير في عيني الرب.  

مع كثرة الغنى والثروة «حسده الفلسطينيون» (ع 14).  والحسد يأتي من الغيرة الجسدية نتيجة النجاح والبركات الزمنية وليس نتيجة النجاح الروحي أو الشركة مع الرب.  فهذا لا يهم العالم.  ولم يقتصر الأمر عند حد المشاعر العدائية من جانب الفلسطينيين، بل تطور إلى المضايقات والأذى.  فنقرأ أن «جميع الآبار، التي حفرها عبيد أبيه في أيام إبراهيم أبيه، طمَّها الفلسطينيون وملأوها تراباً» (ع 15).  بل أبيمالك نفسه قال لإسحاق: «اذهب من عندنا لأنك صرت أقوى منا جداً» (ع 16).  وكانت هذه رسالة غير مباشرة من الله لإسحاق ليرحل عن هذه البلاد بعد أن طرده أبيمالك.  وكم من المرات يسمح الرب لنا بالمتاعب والمنغصات ليرد نفوسنا ويعيدنا إلى مكان الشركة.  «فمضى إسحاق من هناك ونزل في وادي جرار وأقام هناك» (ع 17).  كان إسحاق شخصاً سماوياً مسالماً وموادعاً يسحب نفسه من أمام المنازعات والمخاصمات، على استعداد أن يضحي بحقوقه ويرضى بالظلم، تاركاً الأمور بين يدي الرب الصالح، واثقاً أنه إله التعويضات.  إنه بكل تواضع احتمل الظلم من جانب الفلسطينيين من أجل السلام.  فالحكمة النازلة من فوق هي أولاً طاهرة ثم مسالمة.  لقد بدأ ينهض روحياً ويستفيد من المعاملات الإلهية ويستشعر المرار المرتبط بفشله فبدأ يُصلِح طريقه.  فمضى من هناك ونزل أي حلَّ ونصب خيامه في وادي جرار.  والوادي يناسب شخصاً متضعاً، على أن الله كان يقصد له شيئاً أفضل وهو أن يترك جرار نهائياً ويصعد إلى بئر سبع.  وهذا ما حدث في مرحلة مقبلة.

«فعاد إسحاق ونبش آبار الماء التي حفروها في أيام إبراهيم أبيه، وطمَّها الفلسطينيون بعد موت أبيه، ودعاها بأسماءٍ كالأسماء التي دعاها بها أبوه» (ع 18).  وكم نحتاج نحن أيضاً أن نرفع التراب الذي يمثل الاهتمامات الأرضية والعالمية التي تعطل جريان وفيضان عمل الروح القدس فينا (وهو ما ترمز إليه الآبار).  وكم نحتاج أن نسأل عن السبل القديمة ونعود للذي كان من البدء، وللحقائق الأساسية الثمينة التي رُدِمَتْ مع الزمن، وكانت مصدراً لإنعاش شعب الرب منذ القديم.  لقد دعا إسحاق الآبار بنفس الأسماء القديمة.  فما أخطر التحول عن الأساسات القديمة وعن كلمة الله وقوة الروح القدس، إلى أية أساليب بشرية براقة لجذب النفوس مثل الموضوعات الفلسفية أو الاجتماعية أو النفسية.

وفي أيام الرب يسوع كان الفريسيون قد طمَّوا الآبار (روح المكتوب في الناموس) بواسطة تقليد الشيوخ - فعاد الرب ونبش هذه الآبار مرة أخرى.

«وحفر عبيد إسحاق في الوادي فوجدوا بئر ماء حي.  فخاصم رعاة جرار رعاة إسحاق قائلين: لنا الماء.  فدعا اسم البئر عسق (أي خصام) لأنهم نازعوه.  ثم حفروا بئراً أخرى وتخاصموا عليها أيضاً، فدعا اسمها سطنة (أي شكاية أو عداوة).  ثم نقل من هناك وحفر بئراً أخرى ولم يتخاصموا عليها، فدعا اسمها رحبوت (أي أماكن واسعة)» (ع 19 - 22).  وكانت هذه كلها طرقاً في معاملات الله ليعيد إسحاق إلى المكان الصحيح.  ونلاحظ هذه الخاصية الجميلة في إسحاق أنه لم يكن يقاوم الشر ولم يقف بعناد من أجل حقوقه، بل كان ينسحب بكل هدوء إلى مكان آخر.  وهذه هي روح السيد الذي: «إذ شُتِم لم يكن يشتم عوضاً، وإذ تألم لم يكن يهدد بل كان يسلم لمن يقضي بعدل» وعندما رُفض كان يسحب نفسه بهدوء إلى مكان آخر ليواصل خدمة المحبة والنعمة والعطاء المتواصل.

«ثم صعد من هناك إلى بئر سبع» (ع 23).  وهنا يشير إلى صعود روحي وأدبي حدث في حياة إسحاق، إذ عاد إلى مكان الشركة.  وبئر سبع تعني بئر القسم، وهي التي حفرها إبراهيم وأقام عندها وهناك دعا باسم الإله السرمدي (تك 33:21).

وبمجرد أن صعد إسحق إلى بئر سبع نرى علامات السرور والرضى الإلهي وتتابع البركات كما يلي:

  1. (ظهر له الرب في تلك الليلة) (ع 24).  هذا ما كان محروماً منه في جرار.  وهذا يرينا أشواق الرب لرجوعه وسروره وترحيبه به في ذات الليلة.
  2. «وقال أنا إله إبراهيم أبيك.  لا تخف لأني معك، وأباركك وأكثّر نسلك من أجل إبراهيم عبدي».  وهذا هو التعويض عن الخسارة أو المقاومات التي لاقاها عند الفلسطينيين.
  3. «فبنى هناك مذبحاً» (ع 25).  لقد عاد إلى مركزه كساجد بعد أن استرد شركته، وتمتع بظهور الرب له.  فالسجود هو فيضان القلب نتيجة رؤية الرب وإعلان ذاته.
  4. «ودعا باسم الرب» أي استعاد مركزه كشاهد للرب.  والشهادة الناجحة في المكان الصحيح. 
  5. «ونصب هناك خيمته».  لقد عاش غريباً في أرض الموعد ينتظر المدينة التي لها الأساسات.  وكما حدث مع إبراهيم الذي انحدر إلى مصر لكنه صعد من مصر إلى بيت إيل إلى المكان الذي كانت خيمته فيه في البداءة .. إلى  مكان المذبح الذي عمله هناك أولاً.  ودعا هناك باسم الرب (تك 13).
  6. «وحفر هناك عبيد إسحاق بئراً».  وهنا للمرة السادسة نرى إسحاق بجوار الآبار .  إنه يمثل المؤمن الذي بسكنى الروح القدس يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية (يو 4).  والذي تجري من بطنه أنهار ماء حية (يو 7).
  7.  شهادة الأعداء له.  «وذهب إليه من جرار أبيمالك وأحزات من أصحابه وفيكول رئيس جيشه.  فقال لهم إسحاق: ما بالكم أتيتم إليَّ وأنتم قد أبغضتموني وصرفتموني من عندكم؟  فقالوا: إننا قد رأينا أن الرب كان معك، فقلنا: ليكن بيننا حلف، بيننا وبينك، ونقطع معك عهداً: أن لا تصنع بنا شراً، كما لم نمسك وكما لم نصنع بك إلا خيراً وصرفناك بسلام.  أنت الآن مبارك الرب» (ع 26-29).

ومن الجدير بالملاحظة أنه لما كان إسحاق معهم في جرار خاصموه وطردوه، ولما رحل عنهم افتقدوه واقتفوا أثره.  وهذا هو تأثير الشخص السماوي على أهل العالم.  كما نلاحظ أيضاً أن الانفصال يجعل المؤمن في هيبة وكرامة أمام أهل العالم.  إن إسحاق وقد عاد إلى المركز الصحيح اللائق به، خرج إليه أبيمالك ورئيس جيشه يطلبون صلحاً وعهداً معه.  وقالوا عنه: «إننا رأينا أن الرب كان معك».  فهل هذا هو الانطباع الذي نتركه فيمن حولنا؟ إن العالم سيميز أن الرب معنا وأنه ينجح طريقنا وأعمالنا.  و«إذا أرضت الرب طرق إنسان، جعل أعداءه أيضاً يسالمونه» (أم 7:16).  

  في تاريخ إسحاق نقرأ 7 مرات عن الآبار هي:

  1. بئر لحي رؤي 
  2. عاد ونبش الآبار التي حفروها في أيام إبراهيم وطمها الفلسطينيون
  3.  بئر عسق
  4.  بئر سطنة 
  5.  بئر رحبوت 
  6.  البئر التي حفروها في بئر سبع
  7.  بئر شبعة (تك 33:26).

«فصنع لهما ضيافة، فأكلوا وشربوا.  ثم بكروا في الغد وحلفوا بعضهم لبعض، وصرفهم إسحاق فمضوا من عنده بسلام» (ع 30، 31).

رأينا فيما سبق كيف أن إسحاق بوداعته احتمل الألم من الفلسطينيين الذين نازعوه على الآبار التي حفرها.  لكن هنا نراه يفشل في إظهار البر.  وهناك وداعة بحسب الطبيعة، وهذه أحياناً تتحول إلى ضعف واستسلام.  أما الوداعة التي هي من ثمار الروح القدس فتقترن بالشجاعة والقوة ولا تتغافل عن مطاليب البر، بل ستدافع عن حق الله.

أن تغفر للمخطئ فهذا تصرف مسيحي أخلاقي.  ولكن هذا يسير جنباً إلى جنب مع الأمانة للرب.  والكتاب يقول: «إن أخطأ إليك أخوك فوبخه، وإن تاب فاغفر له» (لو 3:17).  وأبيمالك كان قد أخطأ إلى إسحاق، وبدلاً من أن يتعامل مع ضميره، صنع له ضيافة.  وكان هذا لطفاً ووداً وسخاء من جانب إسحاق بلا شك، وقد تعلم ذلك من إبراهيم أبيه.  وهي فضائل رائعة في مكانها ومناسبتها الصحيحة.  ولكن هنا في هذا الموقف كان ذلك على حساب البر.  وبالمفارقة مع تصرف إبراهيم في ظروف مشابهة نقرأ أن: «إبراهيم عاتب أبيمالك لسبب بئر الماء التي اغتصبها عبيد أبيمالك» (تك 25:21)، وليس أنه صنع لهم ضيافة.

لقد أضاف إبراهيم ملائكة، بل أضاف الرب نفسه.  أما إسحاق فأضاف أبيمالك وأصحابه.  ويا للفارق!

أخيراً نجد فشلاً آخر في إسحاق الذي لم يهتم أن يعطي أي توجيه لعيسو ابنه في أمر الزواج.  حيث تركه يرتبط بامرأتين من بنات حث.  بينما كان إبراهيم محدداً وقاطعاً في ذا الأمر وهو يفكر في زواج ابنه، إذ استحلف العبد أن لا يأخذ زوجة لابنه من بنات الكنعانيين (تك 24).  لكن إسحاق أهمل هذا المبدأ، ولم يعترض على تعدد الزوجات ولم يتوقع النتائج الخطيرة لهذا الإهمال.  والله لا يستطيع أن يقول عن إسحاق ما قاله عن إبراهيم «لأني عرفته لكي يوصي بنيه وبيته من بعده أن يحفظوا طريق الرب ليعملوا براً وعدلاً» (تك 19:18).  لكن إسحاق على أي حال كان باراً ولهذا شعر بالمرارة والحزن نتيجة هذا الارتباط.  وبينما نرى إبراهيم مثمراً في شيبته، نرى إسحاق وقد فقد نضارته مبكراً.  وهذا ما سنتناوله في العدد القادم بمشيئة الرب.

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com