عدد رقم 4 لسنة 2008
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
الإنترنت والإدمان  

تُعتبر شبكة الإنترنت شيئًا مستحدثًا، فقد ظهرت في العقود الأخيرة وأصبحت عماد الحياة في العقدين الأخيرين.  وما زالت تزداد في تأثيرها وفي انتشارها وفي اعتمادية الحياة الحديثة عليها.  لقد بلغت استخدامات الإنترنت كل جوانب الحياة المختلفة؛ من تسلية واجتماعيات وألعاب، إلى التجارة والأعمال والأخبار والنشر والدين، وحتي الخطية والشرور والسرقات والنصب والاحتيال قد وجدت مكانها على هذه الشبكة.

فهذه الشبكة أضحت مجتمعًا جديدًا أو آلية جديدة يتقابل ويتفاعل المجتمع فيها.  فبدلاً من التسوق في الشوارع والمجمعات التجارية يمكن التسوق على الإنترنت.  وبدلاً من الذهاب للمدرسة أو الجامعة أو المكتبات، يمكن الدراسة والقراءة والبحث من خلال الشبكة.  وبدلاً من الذهاب للنوادي والمجتمعات يمكن مقابلة الأصدقاء عليها أيضًا.  وهكذا...  فالإنترنت، أو ”النت“، أصبحت وسيلة يمكن بها ممارسة معظم، إن لم يكن كل، أنواع الممارسات والعلاقات الإنسانية دون التحرك من المنزل أو العمل.

ولكن قد ظهر في الآونة الأخيرة إضطراب نفسي من نوع جديد وهو ”إضطراب إدمان الإنترنت“، حيث يصبح الشخص مربوطًا بشكل ما بالنت، ولايستطيع الاستغناء عنها.

أحد أنواع هذا الإدمان هو إدمان المواقع الإباحية، ولكن النجاسة والشر في حدِّ ذاتهما هما مادتي إدمان سابقتين للإنترنت.  وكل ما فعلته النت هو الترويج لهما، وتسهيل دخولهما البيوت والأذهان.

ونوع آخر هو ممارسة الألعاب من خلال الشبكة، ولكنه أيضًا إدمان سابق للنِّت، فإدمان الألعاب منتشر منذ القديم.  فهناك الطاولة والشطرنج والدومينو وألعاب الورق (الكوتشينة) على المقاهي في الماضي ليس بالبعيد، وألعاب الكمبيوتر الحديثة والفيديو والإكس بوكس والبلاي ستيشن؛ وكلها ألعاب تؤدي للإدمان.  لكن الإنترنت - كالعادة - سهَّلت الألعاب، وابتكرت الكثير منها، ووفَّرتها؛ فأصبحت في متناول الجميع.  وحتي الألعاب التي لا بد من وجود شخص أخر يشاركها معي، وفَّرت لي هذا الشخص من خلال الشبكة أيضًا دون احتياج للذهاب للمقهي أو النادي.
وهناك التسوق أيضًا.  والتسوق إدمان في حدِّ ذاته، وقد وفَّرته الإنترنت وقرَّبته من المنزل وأصبح عند أطراف الأصابع.  وحتي من لا يملك المال الكافي للتسوق، يدمن التصفح للوصول لكل جديد، تمامًا كمدمن التأمل في واجهات المحلات دون شراء.

أضف إلى ذلك القمار، والبحث عن الجديد، والسلوكيات الشاذة الغريبة، ومتابعة أخبار النجوم، والسينما، والرياضة، والسيارات والتكنولوجيا؛ كل هذه أنشطة سهلتها النت وساهمت في إمكانية إدمانها بسهولة.

ولكن أسوأ أنواع الإدمان الشبكي، في رأيي، هو إدمان المواقع الاجتماعية.  وبالرغم من اسمها اللطيف، إذ أن كلمة ممارسة اجتماعية أو نشاط اجتماعي تبدو محترمة جدًا، لكنها في نفس الوقت ممارسة خطيرة جدًا.  وهذه سنتكلم عنها بتفصيل أكثر.

الأنشطة الإدمانية الاجتماعية

لقد نجحت الإنترنت في صنع مجتمعات أو شبكات اجتماعية ”Social Networks“ يتم فيها التواصل فقط من خلال النت، أو من خلال النت بجانب الحياة الطبيعية أيضًا بين الأفراد.  وتتميز هذه الشبكات الاجتماعية بأنها تسهل التواصل بين الأفراد عن طريق:

  1. التواصل النصي الفوري ”Text Instant Messaging“ فعن طريق مواقع الدردشة ”Chatting“، حيث يتواصل فردان أو أكثر، في شاشة يكتب كل منهما أحاديثه للآخرين فيها.  يمكن للمتحاورين أيضًا تبادل الصور والملفات من خلال نفس نشاط الدردشة.  وذلك تحت أسماء مستعارة أو حقيقية، ولكنها تكون في معظم الأحيان أسماء غير حقيقية.
  2. التواصل النصي الغير فوري عن طريق البريد الإلكتروني.  وهو كما هو معروف للجميع، ويمكن إيضًا إرسال صور أو ملفات مع النصوص المتبادلة بين طرفين أو أكثر.
  3. التواصل الصوتي والمرئي الفوري ”Multimedia Instant Messaging“  سواء عن طريق الدردشة الفورية أو غيرها.  ففي مواقع مثل البال توك ”PalTalk“ أو باستخدام ”MSN Messenger“ أو ”Skype“ يتواصل فردان أو أكثر عن طريق الحديث الصوتي أو حتي الصورة المرئية.  فالآن، باستعمال ميكروفون وكاميرا صغيرة، يستطيع جميع المستخدمين أن يتواصلوا أو يجروا مكالمة صوتية مرئية أو اجتماعًا بين مجموعة من المتواصلين.  وذلك أيضًا تحت أسماء مستعارة في معظم الأحيان.
  4. التواصل المتعدِّد الأوجه الجماعي.  وهو عن طريق المواقع الاجتماعية ذات الطبيعة النشرية ”Billboards“؛ مثل الفيس بوك ”FaceBook“، أو المدونات ”Blogs“.  وهي ليست مواقع ذات طبيعة تواصليه فورية ”Instant“ بشكل أساسي.  لكنها تمكِّن المستخدم من استخدام كل من الرسائل النصية والمسموعة والمرئية للتواصل مع مجموعة من أصدقائه في نفس الوقت.  ينتمي المستخدم في هذه المواقع لأكثر من مجموعة من الأصدقاء، كل مجموعة يجمعها عامل مشترك؛ كالرياضة، السياسة، الجنس، الدراسة، تعلق بنجم للفن أو الرياضة، الشعر، الفن، الألعاب، الدين، وغيرها.  ينشر كل منهم صور أو رسائل مقروءة أو مسموعة أو مرئية للآخرين، ويتفاعل معها الآخرين بالرد عليها بأي من طرق التواصل المتاحة.
  5. التواصل الافتراضي ثلاثي الأبعاد ”Virtual Electronic Community“، حيث يقوم موقع مثل ساكند لايف ”Second Life“ ببناء مدينة أو عالم إلكتروني على الشبكة، وهو عالم افتراضي، تخيلي، غير حقيقي، ثلاثي الأبعاد.  ويتخذ كل مستخدم شخصية ما في هذا العالم.  يقوم المستخدم بتحديد شكله وشخصيته واسمه وملابسه عن طريق اختيار ”Avatar“، وهو مظهر خارجي مميَّز يقوم بتصميمه كل مستخدم.  هذا المظهر الخارجي، يتحكم المستخدم في كل شيء به، الطول، الوزن، الشكل العام، لون البشرة، لون العيون، تسريحة الشعر ولونه وطبيعته، الملابس، كل شيء.  وفي هذا العالم الخيالي الافتراضي، يمارس المستخدم بشخصيته الافتراضية التخيلية كافة الأنشطة المالية والاجتماعية والفيزيائية، في صورة ثلاثية الأبعاد.  فيتعرف على أصدقاء وهميين، هم أيضًا مستخدمون في نفس الموقع، ولكن بشكلهم التخيلي وتصرفاتهم التخيلية التي اختاروها.  ويمارسون معًا مخلتف الممارسات التي يختارونها.  فقد يستمعون للموسيقي، يتناقشون في أي موضوع، يقعون في الحب ويتبادلونه، يبيعون ويشترون ويسافرون، يذهبون للشاطئ، ويقيمون الحفلات والعلاقات من كل الأنواع، ويفعلون كل ما يريدونه.  وكل هذا في عالم تخيلي افتراضي غير واقعي وبشخصيات تخيليه.
    وهذا النوع الأخير من التواصل من أخطر الأنواع، حيث يعيش المستخدم في أحلام يقظة دائمة ثلاثية الأبعاد، ذات طبيعة إدمانية شديدة جدًا تقترب في قسوتها من إدمان الهيروين.  ومما يدل على ذلك، أن بعض الشركات قررت أن تقوم بنشر إعلاناتها في المدن الافتراضية الإلكترونية هذه بالاتفاق مع هذه المواقع، حتي يقوم المستخدم بشراء منتجاتها في العالم الحقيقي.  حيث أن الوصول لهؤلاء المستخدمون بمادة إعلانية قد أصبح صعبًا جدًا، إذ أنهم لا يتعرضون لأي من وسائط الإعلان الأخري من عمق إنهماكهم في عالمهم التخيلي.

علامات الإدمان

ففي حالات إدمان الخمور أو المخدرات، فالإدمان واضح، وهدف العلاج واضح، إذ ينبغي مساعدة المدمن حتي يتوقف تمامًا عن الخمور والمخدرات.  وأما بالنسبة للإنترنت، فيكف نكتشف الإدمان؟  و ماهي العلامات التي من الممكن أن تشير إلى إدماني للإنترنت؟  هناك علامات عديدة منها:

  1. المشغولية الدائمة بالإنترنت: أن تفكر دائمًا في الإنترنت كلما كنت بعيدًا عنها.
  2. فقدان القدرة على التحكم: فتشعر أنك لا تستطيع، أو لا تريد، أن تترك الكمبيوتر وتذهب من أمامه.  وكلما جلست أمام الإنترنت لمجرد قراءة بريد إلكتروني أو لمتابعة أمر ما، تجد نفسك في نهاية الأمر قد جلست أمام الإنترنت لساعات عديدة.
  3. شعور بالحزن والتقلب العاطفي عندما تكون بعيدًا عن الإنترنت: فإن كنت تدمن مادة ما، أو ممارسة ما، كالإنترنت.  فسوف تشعر دائمًا بأعراض الحزن والتقلب العاطفي الشديد، كالعصبية والانفعال غير المبررين، عند إبتعادك عن مادة الإدمان، أي الإنترنت.
  4. التشتيت: أن تستخدم الإنترنت كمادة للتشتيت الذهني لكي تبعد بها ذهنك عن كل ما يؤرقك أو يؤلمك.  فتلجأ لها كمضاد لحالة الألم والأرق والاكتئاب، أو كمسكـِّن نفسي لمتاعبك في الحياة.  وهو من أكثر الأعراض انتشارًا
  5. عدم الأمانة والصدق من جهة مقدار استخدام الإنترنت: فإن أدمنتها، ففي الأغلب سوف تكذب على مديريك في العمل، وأعضاء عائلتك، بخصوص الوقت الذي تستهلكه على الشبكة.  أو سوف تبحث عن طرق تخفي بها، عن أعين الآخرين، مقدار الوقت الذي تنفقه في هذه الممارسة.
  6. فقدان الحواجز النفسية والاجتماعية الطبيعية:  فسوف تفقد تدريجيًا الحواجز النفسية الطبيعية كالخجل والحاجة للشعور بالخصوصية مثلاً.  وتجد نفسك منفتحًا بشكل مَرَضي على الآخرين، فتشارك معهم أشياء خاصة وأمور مخزية.  وقد تمارس أمور يندي لها الجبين مع المستخدمين الآخرين دون إحساس بالخجل.  وفي غرف الدردشة غالبًا ما يشارك الأعضاء خبراتهم الخاصة جدًا، أو أفكارهم النجسة التي لا يعلمها أحد، وذلك لسقوط حاجز الرهبة النفسي الطبيعي، بسبب الإدمان، وبسبب السرية المتاحة في هذا الوسيط؛ الإنترنت.
  7. تكوين علاقات حميمة افتراضية مع المستخدمين الآخرين: وقد تجد نفسك متعلقًا بعلاقات نفسية، أو عاطفية، أو حميمة، أو جنسية، قوية جدًا مع مستخدمين آخرين.  ولا تستطيع التحكم في الوقت الذي تقضيه معهم على الشبكة.
  8. فقدان القدرة على ممارسة الحياة الطبيعية: فإن كنت تمارس الإنترنت بطريقة إدمانية، فسوف تتأثر جوانب حياتك الأخري بشكل مؤثر.  كأن تهمل جوانب عملك أو دراستك، أو تؤثر على حياتك الاجتماعية الطبيعية وتجعلك تنسحب منها تدريجيًا.  وقد تقضي على علاقاتك الطبيعية بعائلتك وأصدقائك العاديين، وحتي بشريكة أو شريك حياتك.  وكل ذلك بسبب انسحابك للعالم الشبكي الافتراضي وإنهماكك فيه حتي الثمالة.

أسباب الإدمان وعلاجه

المسبب (1): فقدان المعنى والقيمة

إن مشكلة الإنسان الرئيسية هذه الأيام، هي عدم شعوره بمعنى أو قيمة لحياته.  فالعالم يزداد ميكانيكية كل يوم.  فهناك طريق مرسوم لكل إنسان نتيجة الثقافة المحيطة به.  هذا الطريق مثلاً هي النجاح في الدراسة، ثم دخول إحدى الكليات المرموقة، ثم التخرج، ثم البحث عن وظيفة الأحلام، ثم عروسة أو عريس الأحلام، ثم سكن الأحلام، وسيارة الأحلام، ومصيف الأحلام، والبعض يضيف لذلك الهجرة، أو تعليم الأولاد، والثروة والمكانة الاجتماعية، والمنصب والسلطة وهكذا...  فالإنسان، في مجتمعنا اليوم، مدفوع دفعًا في اتجاه محدَّد، يمليه عليه المجتمع، ويملي عليه معه معني للحياة، وللوجود.  ولكي يشعر الإنسان بقيمته، كما يمليها عليه المجتمع، يحاول تحقيق المعني المطلوب كما اقتنع به وشربه منذ طفولته، وإن لم يحقِّقه يشعر الإنسان بفقدان القيمة، قيمته الشخصية وقيمة حياته، إذ لا يجد المعني، معني الحياة.  ومثلما يقف كل إنسان منا أمام المرآة قبل أن يخرج من باب منزله، ليتأكد أن شكله مقبولاً، قبل أن يتواجد وسط المجتمع.  فمعظم الناس، للأسف، يبحثون عن معني وقيمة لحياتهم في مرآة المجتمع. 

وبالطبع، فإن العالم الذي يطالب الإنسان بشكل ما لكي ما يحصل على معني لحياته ويشعر بقيمة لها، يفشل تمامًا في أن يمد الإنسان بالمعني والقيمة.  ويظل الإنسان في بحثه عن المعني، وعن القيمة طوال حياته.  فلا يجدها.

فنجد مثلاً المرأة السامرية التي التقاها الرب على البئر (يو4).  هذه كانت تعتقد أن المعني والقيمة هو في أن تكون محبوبة من رجل ما ومرغوب فيها وغارقة في المتع الحسية.  لكنها رغم محاولاتها في أن تجد معني وقيمة لحياتها مع ست رجال على الأقل، فقد فشلت تمامًا في ذلك الأمر.  وليس أدل على ذلك من أنها كانت بعدُ عطشى وقالت للرب «يا سيد أعطني هذا الماء لكي لا أعطش ولا آتي إلى هنا لأستقي»، بمجرد أن سمعت أن الرب لديه الماء الذي «من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد»، لأن الماء الذي أعطاه العالم لها كان «كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضًا»، أي يعطش مرة أخري؛ فلا ينفك يشرب ويشرب، حتي يدمن الشرب، وهو ما زال عطشانًا.

يقولون للإنسان: الحل في المتعة، في الشهرة، في العلم، في العلاقات، في التطور، في التمدين، في البحث عن كل جديد، في الفن، في الدين أو في المال، فيسعي وراء هذه الأشياء.  وعندما يحصل عليها أو يحقِّقها، وهو حال أقلية ضئيلة من الناس، يُصدَم بأنه رغم هذا لم يشعر بعد بقيمة لحياته، ولا بمعنى لها، ويظل رغم هذا في فراغ داخلي، فكل شيء يُفقد بالامتلاك.  وإن لم يحصل على هذه الأشياء أو يحقِّقها، وهذا حال معظم الناس، فإنه يظل ساعيًا خلفها لاهثًا متعَبًا ممزِّقًا، أو ينكفئ على وجهه باكيًا حاله مستسلمًا لواقعه المرير.  وفي الحالتين، يظل على فقدانه لمعنى حياته وقيمتها.

ويقترب الشيطان من الإنسان في هذه الحالة، ويقدِّم له حلوله.  ويشغله في ممارسات كثيرة يشغل بها نفسه عن المعنى المفقود، ويملأ بها فراغه.  وعندما يعتاد عليها تصبح هي معني حياته.  فلا يعود يبحث عن قيمة ومعني لحياته، ولكنه، إذ يشعر بالفراغ، يتحول للممارسة المعتاده، فتحل الممارسة محل كل من المعني، والقيمة.  مع أن الصحيح هو أن المعنى والقيمة يُنتجا ممارسةً مشبعةً مؤسَّسة عليهما.  وكلما شعر بفراغ وانعدام للمعنى وللقيمة أكثر، كلما انخرط أكثر في الممارسة المعتادة، حتي تصبح إدمانًا لا يمكنه أن يحيا دونها.  فيصبح انخراط الإنسان في ممارسةً معتادةً دواءً مسكِّنًا يلهيه عن فراغ حياته وضحالة قيمتها.

العلاج: المعني والقيمة في المسيح

يقول الرسول بولس «لي الحياة هي المسيح» (في1: 21)، ويقول أيضًا «ما أحياه الآن في الجسد، فإنما أحياه في الإيمان، إيمان ابن الله الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي» (غل2: 20)؛ فقد كان بولس يجد كل معني الحياة وقيمتها في المسيح.  ولكن ما معني هذا كله؟

كانت حياة بولس قبل أن يعرف المسيح متمحورة تمامًا حول الدين.  لقد كان متدينًا من طراز فريد، ولكنه للأسف لم يكن للمسيح.  كان يحاول الاقتراب من الله ولكن ليس عن طريق المسيح.  كانت حياته كلها مكرَّسة للناموس؛ فقد أدمن التديّن الناموسي، ووجد فيه كل معني لحياته.  ولو كان قد لخص لنا حياته قبل المسيح لقال ”لي الحياة هي اليهودية“.  كانت قيمته الشخصية في عيني نفسه تنبع من اهتمامه بالناموس وولائه للدين.  فمن جهة الدين كان في المقدمة (غل1: 14).  وكان يراعي، لحد الإدمان، الممارسات الناموسية الخارجية (في3: 6).  ومن جهة اتباعه لتقاليد الآباء كان «أوفر غيره» (غل1: 14).  وبسبب غيرته على ديانته كان يضطهد كنيسة الله بإفراط ويتلفها» (غل1: 13؛ انظر أيضًا أع8: 3؛ في3: 6).  فقد كانت حياته هي الممارسات الدينية الناموسية التقليدية، والدفاع عن اليهودية كان هو محور حياته.

ولكنه عاد وقال إنه «ما كان لي ربحًا فقد حسبته من أجل المسيح خسارة» (في3: 7)؛ فبعدما صار للمسيح، صار محور حياته هو المسيح.  وحتي ما لم يخسره بعد قال عنه «بل إني أحسب كل شيء أيضًا خسارة، من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربي، الذي من أجله خسرت كل الأشياء وأنا أحسبها نفاية» (في3: 8)، أي أن كل قيمة أخري سعى وراءها، وكل معني آخر كان يحاول أن يجده في تلك الممارسات الدينية أو غيرها، قد بَدَت في نظر بولس مجرد نفاية، والنفاية كما نعلم هي ”قمامة القمامة“؛ فالقمامة بعد جمعها يتم محاولة الاستفادة منها، وإعادة تدويرها، والأشياء عديمة القيمة والنفع التي تبقى، تسمى ”نفاية“؛ أي ليس لها قيمة على الإطلاق، بل يجب التخلص منها.
كيف تخلص بولس من هذه الرؤية القديمة له للمعني وللحياة ولقيمتها؟  هل كانت هذه غزوة عنترية نسكية لبولس تخلص فيها من كل شيء كنوع من التجرد؟  لا، لم يكن هذا حاله.  لقد تخلّص من هذه الأشياء لأنها لم تعطه معنى ولا قيمة لحياته قَطّ، وقد وجد القيمة والمعني في المسيح؛ فيقول «أنا أحسبها نفاية لكي أربح المسيح وأوجد فيه...  لأعرفه وقوة قيامته، وشركة آلامه، متشبهًا بموته» (في3: 8-10).

لقد علم ماذا فعل المسيح من أجله، وتعرَّف على شخصه الرائع الفريد، وتأمل كيف عاش في جمال متفرِّد، وكيف أحب المسيح بولس، وكيف مات وقام من أجله.  فقرَّر أنَّ الحياة ليس لها آخر سوي المسيح تُكرَّس له.  لقد شعر بقيمة المسيح وفهمها، فحسب أن كل شيء آخر - في ضوء تفرد المسيح - هو نفاية.  ورأى أنه ليس هناك أروع من أن تصير حياته كلها محورها ومعناها وقيمتها هي في التمحور حول المسيح.

أيا باحث عن القيمة لحياتك، أيها الساعي وراء المعني، سوف تبحث كثيرًا ولن تجد شيئًا يسد جوعك، وسوف تلجأ لمياه هذا العالم التي كل من يشرب منها «يعطش أيضًا»، وسوف تدمن مياه العالم حتي الثمالة، ولن تجد المعني.  أنت قد خُلقت من أجل المسيح لأنه «الكل (كل الناس والأشياء) به (بواسطة المسيح) وله (لأجله) قد خُلق» (كو1: 16).  ولن تجد المعني في أي شيء سوي في أن تعرف المسيح، وتعرف القوة التي يقيمك الله بها من الموت الروحي، وتجد القيمة في أن تتألم لأجل المسيح، في أن تحمل رسالته إلى كل مكان متحملاً من أجلها الغالي والرخيص، وأن تستعد لأن تعطي الحياة كلها حتي الموت لأجله.  نحن لم نُخلق من أجل أن نتكرس لشاشة وللوحة مفاتيح، ولا لنكون أداة شر في يد الشيطان والأشرار.  نحن قد خُلقنا من أجل المسيح وافتُدينا بدم كريم، دم المسيح» (1بط1: 19).  و«لأنكم قد اشتُريتم بثمن؛ فمجِّدوا الله في أجسادكم وأرواحكم التي هي لله» (1كو6: 20).

عندما تشعر بالفراغ وفقدان القيمة والمعني، تمعَّن في صليب المسيح، كرِّس القلب للمسيح، كرِّس الفكر للمسيح، كرِّس الوقت للمسيح؛ ولن تعود بعدها تشعر بالفراغ، بل سوف تشعر بالامتلاء، بل وتفيض على الآخرين.

المسبب (2): الهروب من الواقع

فما أقسي واقعنا الذي نعيشه، في هذا العالم الذي ورث اللعنة من جراء ما فعل أبوينا آدم وحواء، ومن جراء ما نفعل نحن كل يوم؛ إذ بأنانية البشر وقسوتهم وشراستهم، يزداد الواقع سوءًا ووحشية.  هذا غير ما ورثته البشرية من أمراض وأوبئة وكوارث طبيعية.  فإن الكتاب المقدس يقول أن «كل الخليقة (بسبب الخطية) تئن وتتمخض معًا إلى الآن» (رو8: 22).  فالخليقة تعاني وتتوجع، والواقع مرير ومظلم: أزمات اقتصادية، بطالة، أزمة غذاء، مجاعات، فقر، مرض، حروب، آلام، جراح نفسية، حوادث، كوارث، قسوة، ظلم، ذل؛ وفوق كل هذا موت جسدي قادم لا محالة، في المستقبل القريب أو البعيد، ثم ما بعد الموت، هذا المستقبل المظلم المجهول المخيف للضمير والعقل.
ماذا يفعل الإنسان المسكين في مواجهة واقع مرير ومظلم مثل واقعنا؟  كيف يجد الأمان؟  لا يوجد أمان!  كيف يرتاح من جهة آلام الماضي وذكراها المؤلمة، ومشاكل الحاضر وعدم جدوي أي حلول لها، ومخاطر المستقبل المجهولة؟  لا توجد طريقة!

وكعادة الشيطان، يقدِّم الحل.  إن أبسط الحلول هو أخطرها، وهو حل المشغولية، إلى حد الإدمان، في نشاط فارغ يستهلك الوقت والجهد ويلهي العقل.  كل ما يسعي له الشيطان هو أن يشغل الإنسان في ممارسات تلهيه عن مشاكله التي لا حل لها.

ولقد سهَّلت الإنترنت للشيطان مهمته إلى حد كبير جدًا.  فقد نقلت كل ملاهِ العالم وتوافهه ونجاساته ومشاغله الفارغه إلى داخل المنزل.  ووفَّرت لكل إنسان سهولة الانخراط، لحد الإدمان، في ممارسات لا تُغني ولا تبني ولا تثمر؛ تستهلك الوقت والمجهود وتملأ العقل بما لا قيمة له إطلاقًا.  وهكذا يهرب الإنسان من واقعه المزعج إلى عالم آخر مملوء بالممارسات الفارغة، إلى عالم افتراضي تخيلي غير حقيقي.  فيستبدل الإنسان واقعه المؤلم المظلم المرير بواقع آخر غير حقيقي، تخيلي، على شبكة الإنترنت.

العلاج: الواقع الروحي

لا أعلم يا عزيزي القارئ موقفك من المسيح، ولكن إن كنت مؤمنًا حقيقيًا فالواقع الروحي الذي سنتكلم عنه هو لك.  وإن لم تكن قد عرفت المسيح معرفة حقيقية بعد، فالواقع الروحي هذا إن لم يكن لك الآن، فهو في متناول يديك إن رجعت للرب الآن وآمنت بقلبك بالمسيح وبصليبه.

ماهو الواقع؟  إن الواقع هو الأحداث التي تقع لنا، أو هو ما يحدث لنا.  ولكل إنسان ثلاثة وقائع يعيش فيهم.  فكما يتكون الإنسان من ”روح ونفس وجسد“ (1تس5: 23)، فهو يعيش في ثلاثة وقائع.

1. الواقع الأول هو الواقع الجسدي المنظور: وهو ما يحدث لأجسادنا، من مرض وألم، وإطعام، وراحة وتعب، ومُتع وشيخوخة، وعطش وجوع، وملابس، وانتقال من مكان إلى مكان، وقوة وضعف، وغيرها.  ويعيش العالم كله في الواقع الجسدي المنظور بشكل كبير جدًا؛ فمعظم البشر لا يهمهم سوي واقعهم الجسدي أو ما يحدث لهم على مستوي الجسد.  فالعمل بالنسبة لهم مثلاً هو بحث عن ”لقمة العيش“، والحياة ما هي إلا «لنأكل ونشرب، لأننا غدًا نموت» (1كو15: 32).  كل واقعهم هو الواقع الجسدي.

2. الواقع الثاني هو الواقع النفسي: وهو ما يحدث لنفوسنا الداخلية غير المنظورة.  وهو تشجع أو إحباط، حزن أو فرح، شجاعة أو خوف، إقدام أو تكاسل، فهم أو عدم فهم، استيعاب أو جهل، إرادة أو استسلام، نجاح أو فشل، وغيرها.  وهو واقع لا يراه الناس إلا لو ظهر بسببه على واقعنا الجسدي شيء ما؛ كأن يحزن إنسان ما، فيظهر على وجهه علامات الحزن.  وإن ارتقي الإنسان قليلاً، فهو يعيش بعضًا من حياته في الواقع النفسي أيضًا، فتجده يهتم بالعلاقات وبالمعرفة وبالفن وبالموسيقى، وهكذا يعي هذا الواقع الآخر ويهتم به.  وبالنسبة لهؤلاء فالعمل مثلاً هو ”مجال لتحقيق الإنجاز الذاتي“، وليس فقط ”بحث عن لقمة العيش“.

3. الواقع الثالث هو الواقع الروحي: وهو ما يحدث لأوراحنا وعلاقتنا بالله أبينا.  هناك أشخاص أموات روحيًا، إذ ليس لهم علاقة بالله.  وهناك أشخاص أحياء لهم علاقة حقيقية بالله.  وهو واقع أيضًا غير منظور، ولكنه لا بد أن يظهر في تصرفاتنا.  والإنسان الروحي، وهو المولود من الله، والذي له علاقة حقيقية حيّة بالله أبينا، هو الوحيد الذي له حق الدخول للواقع الروحي.  وهذا الشخص كلما ارتقي روحيًا، كلما عاش واقعه الروحي أكثر وأدركه واعتني بأموره.  وبالنسبة لهؤلاء فالعمل مثلاً هو ”مجال لتمجيد الله أبينا“.

إن العالم الحاضر الشرير يقدِّم للبشر جميعًا الواقعين الجسدي والنفسي، ويحاول أن يوهمهم بالشبع عن طريقهما.  ولكن الإنسان يصطدم بهذين الواقعين كما رأينا.  فكم من آلام ومتاعب ومشاكل جسدية ونفسية تحيط بالبشر جميعًا.  إنه عالم قاس يَعِد بالمُتع والسعادة ولا يعطي لأتباعه سوي الضيق والألم!

أما نحن أيها الإخوة، فلنا واقعنا الروحي الذي نعيشه والذي ننمو فيه.  هذا الواقع نعلم فيه أننا «أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع» (غل3: 26)، وأننا «محبوبون من الرب» (2تس2: 13)، وأننا وإن كنا نعيش في هذا الواقع الذي يعيش فيه جميع الناس، لكننا لسنا من هنا فإن «سيرتنا نحن هي في السماويات».  فإن عانينا في هذا العالم، سواء من الوجهة الجسدية أو النفسية، فإنه وضع مؤقت؛ لأننا من السماويات أيضًا «ننتظر مخلِّصًا هو الرب يسوع المسيح» سوف «يغير شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده (مجد المخلِّص)» (في3: 20، 21) وعندها سوف تنتهي الآلام والمتاعب بصورة نهائية.

وهذا الواقع الروحي الحقيقي الذي لدينا يمكِّننا من التعامل مع الواقع الجسدي بمنطق مختلف هو منطق ”الشكر“، فيقول الرسول «اشكروا في كل شيء؛ لأن هذه هي مشيئة الله في المسيح يسوع من جهتكم» (1تس5: 18).  فمهما تألمنا في الواقع الجسدي، فنحن نثق في الله أبينا، وفي حبه، وفي حكمته وصلاحه؛ ونعلن عن ثقتنا بالشكر.
وهذا الواقع الروحي أيضًا يجعلنا ننظر للواقع النفسي بمنظور جديد هو منظور ”التجديد المستمر“؛ فمن الوجهة النفسية نحن نتغير كل يوم بسبب الضغوط والآلام والتحديات التي تواجهنا، ننتغير لنصبح أكثر شبهًا بالمسيح.  فإذ نرى هذه الحقيقة: أن كل ما يأتي علينا من آلام، لن يفعل فينا سوى أن يحقِّق قصد الله أكثر من حياتنا في أن نكون «مشابهين صورة إبنه» (رو8: 29)؛ فإننا نسلم ليدي الآب السماوي في ثقة واطمئنان.  يقول الرسول بطرس إننا ينبغي أن نُحزن الآن يسيرًا بتجارب متنوعة (1بط1: 6).  هذه التجارب تأتي لنا بالتزكية، أي التنقية؛ فنكون أكثر شبهًا بالمسيح، فبواسطتها يشكلنا الله أبونا، وينقينا من كل شوائب حتي نصير في الصورة التي تحسُن في عينيه.
ولكن هذا الواقع الروحي يُعاش بالإيمان، لأنه واقع غير منظور، «لأننا بالإيمان نسلك لا بالعيان» (2كو5: 7)، وهو يمكِّننا - كما رأينا - من التعامل مع الواقع الذي يهرب الجميع منه، سواء بإدمان الإنترنت أو بأي إدمان أو بأي طريقة أخري.

وكلما تغذّينا على كلمة الله أكثر، كلما نَمَا إنساننا الداخلي من الوجهة الروحية أكثر.  فالتعليم المسيحي يجعلنا «ننمو في كل شيء» (أف4: 15).  فيصير إنساننا الداخلي أكثر قدرة على التعامل مع الواقع المؤلم بطريقة أفضل.  وكلما صرنا في شركة أعمق مع الله أبينا ومع الرب يسوع المسيح (1يو1: 3)، ومع جميع القديسين (أف3: 18) الذين هنا على الأرض، في الروح القدس (في2: 1)؛ كلما صرنا أكثر خبرة ونضوجًا في تعاملنا مع الواقع المرعب الذي يمرّ به العالم الآن، والذي يزداد رعبًا يومًا بعد يوم.

فلنعش إذًا في واقعنا الروحي في شركة دائمة مع الله، ولا نلجأ لواقع آخر خيالي، غير واقعي، على شبكة الإنترنت.

المسبب (3): محبة الخطية

إن المجتمع الشرقي الذي نعيش فيه، وإن كان يتغير بسرعة غريبة إلى نمط آخر هذه الأيام، هو مجتمع محافظ إلى حدٍّ ما.  وفيه ممارسة الخطايا الإباحية بشكل علني، أو سهل الملاحظة من الآخرين، يوصم الإنسان بفضيحة وعار يصاحبانه طوال حياته.  وهذا يحمي المجتمع إلى حد كبير من الانخراط العلني في النجاسة والشرور الأدبية التي سقط فيها الغرب بسهولة.  ورغم أن الخطايا الأخري، مثل الكذب واللف والدوران والنصب والاحتيال، ليست مُدانة بشدة في مجتمعنا، فإن الخطايا الجنسية الفاضحة والعلاقات الدنسة النجسة والشذوذ، غير مرحبٍّ بها على الإطلاق.
ولكن جاءت الإنترنت - للأسف - بكل هذه الشرور، وجعلتها عند أطراف أصابع مستخدم الشبكة.  فمن جانب وفَّرت المواد الإباحية الشريرة، وجعلت الوصول لها أسهل من الوصول لرغيف الخبز اللازم للحياة.  ومن جهة أخري سمحت الشبكات الاجتماعية، وسهولة التواصل بين مستخدمي الشبكة، بإقامة العلاقات الدنسة النصية والمرئية والمسموعة والافتراضية ثلاثية الأبعاد بينهم.  وأصبح الدخول في علاقة آثمة على شبكة الإنترنت من أسهل ما يكون.

وهناك مواقع كثيرة تسهل التعارف بين الآثمين الذين يريدون الدخول في علاقات دنسة.  هذه العلاقات تبدأ بتواصل نصي، ثم صوتي، ثم مرئي سواء بالصور أو بالفيديو، ثم في بعض الأحيان تنتقل العلاقة من المجال الإلكتروني للمجال الحقيقي الجسدي.  ولكن الإنترنت قد سهَّلت العملية جدًا حتي أصبحت في متناول الجميع، في جو يتمتع بالخصوصية، ومؤمَّن إلى حد كبير.

وفي عالم يلهث من جراء المشاكل الضخمة التي يجوز فيها، والتي تحيط به من كل جانب، يجد الكثيرون في الخطية، وخصوصًا خطايا الشرور الجسدية، مُسكِّنًا يلهيهم عن ما هم فيه.  وفي عالم تتمزق فيه العلاقات الزوجية، انفرط فيه عقد الأسرة المُحبة، يندفع الصغار والكبار بحثًا عن الحب والمتعة في كل اتجاه.

وللأسف، فإن معني المحبة قد تلوَّث تمامًا بواسطة السينما والأغاني ووسائل الإعلام، وأصبح كل ما يُقدَّم عن الحب والمحبة هو صورة حسية جسدية استهلاكية، جعلت من الجسد مادة استهلاكية.  وكما يشيع الشيطان هذه الصورة الفاسدة للحب، يوفر معها - من طريق الشبكة - طُرقًا مزيَّفة لإشباع حاجة الشعور بالحب عن طريق الخطية.
وهكذا فإن محبّو ممارسة الخطية من نجاسة ودنس، يجدون هذه الآلة الجهنمية على الشبكة العالمية، بها كل ما يحلمون به، وكل ما لم يحلموا به  أيضًا.  ولأن «من يشرب من هذا الماء يعطش أيضًا» (يو4: 13)؛ فإنه كمن يشرب ماءً مالحًا من البحر ليروي عطشه، فتجده يزداد عطشًا، ولما يزداد عطشًا يشرب مرة أخري، فيزداد عطشًا، فيشرب، فيعطش، فيشرب.  وهكذا تتحول الخطية إلى إدمان، سهل الوصول إليه وتغذيته دون أن يبرح الإنسان مكانه. 

إن أكثر الأعمال رواجًا وجذبًا للإستثمار على شبكة الإنترنت الآن هي المواقع التي تقدم خدمات إباحية.  إن أرقام الإستثمار في هذا المجال الإباحي مرعبة، تستطيع أن توفر الطعام لقارة أفريقيا الجائعة!

العلاج: المسيح يحرر من الخطية 

يؤكد الكتاب المقدس على أن الإنسان الخاطئ الذي لا يعرف الله، هو «الشارب الإثم كالماء» (أي15: 16).  وكما أن الماء، لا لون له ولا طعم ولا رائحة؛ فكذلك الإثم بالنسبة لهذا الإنسان، يشربه دون تمييز.  وكما أن الإنسان لا يمكن أن يعيش دون الماء، هكذا الخاطئ أيضًا، لا يمكن أن يعيش دون الخطية والإثم!  وعبثًا محاولات الإنسان والمجتمع في إصلاح الإنسان دون المسيح.

ولكن ليس هذا حال المؤمن المولود من الله ولادة ثانية؛ فقد انتهت عبوديته للخطية؛ وأصبحت شيئًا من الماضي، حتي أن الرسول بولس يقول «وإذ أُعتقتم من الخطية صرتم عبيدًا للبر» (رو6: 17، 18).  لقد أصبح عبدًا للبر، أي مهما حاول، لن يستطيع أن يتحرر من البر!

إن آمنت - عزيزي القارئ - أن موتك مع المسيح قد حرَّرك من الخطية، سوف تعيش هذه الحقيقة الواقعة في الواقع الروحي.  إن مشكلة المؤمنين في كل مكان هي عدم إيمانهم أنهم قد أُعتقوا من الخطية.  فكلما تغلغل الحق فينا بدراسة الكلمة وبالشركة مع الله، سوف ندرك الحق بالإيمان ونعيشه بالإيمان، ونتحرر من الخطية.  يقول الرب: «تعرفون الحق والحق يحرركم» (يو8: 32).

في تجربة علمية، ربط أحد العلماء طائرًا بحبل طويل في قمة برج عال.  وكان الطير يطير مسافة معينة حتي يصل الحبل إلى آخره.  وعندها يؤلمه الحبل في قدمه، يتوقف عن الطيران بعيدًا عن البرج، ويبدأ في الدوران حول البرج في دائرة نصف قطرها هو طول الحبل المربوط في قدمه.  ظل هذا الطائر شهورًا يطير حول البرج في هذه الدائرة.  وذات يوم قطع العالم الحبل من قَدمِ الطائر، وكانت المفاجأة أن الطائر طار نفس المسافة بعيدًا عن البرج وظل يطير كعادته في دائرته المعروفة حول البرج.  لقد تحرَّر الطائر، لكنه لم يكن يدرك، أو يصدق، أنه قد تحرَّر؛ فظل يدور في نفس الفلك القديم، رغم حريته.  هكذا حال بعض المؤمنين، فقد حرَّرهم المسيح من الخطية ولكنهم لا يدركون أو يؤمنون أنهم يمكنهم الآن، بواسطة قوة روح المسيح العامل فيهم، أن يتوقفوا عن الخطية.  هم ينظرون للخطية بنفس النظرة القديمة، على أنها وحش مرعب لا مجال للفرار منه.  ولكنهم بمجرد أن يدركوا أنهم قد تحرّروا من قبضة هذا المارد، سوف يبدأون في اختبار التحرير هذا بشكل عملي.

عزيزي القارئ، إن لم تكن قد وُلدت من الله، لن تستطيع أبدًا أن تتحرر من الخطية.  عزيزي المؤمن الحقيقي، إن لم تكن تؤمن بالفعل بالحرية التي أعطاها لك المسيح، فلن تستطيع أن تتحرر من الخطية.  اغمس نفسك وعقلك في الحق الكتابي أكثر وأكثر.  وكلما تلح عليك الخطية، لا تجادل معها كثيرًا بل حوِّل عينيك إلى المكتوب، إلى الحق الإلهي الذي يعلن لك بكل وضوح أنك الآن ”عبد للبر“ في المسيح.

المسبب (4): قسوة المجتمع

إن مجتمعنا وحاضرنا الآن يتميز بالقسوة والعنف إلى حد كبير.  فنسمع عن المدرس الذي قتل الطفل تلميذه، والأم والأب اللذان ذبحا أولادهما، والزوجة التي قطَّعت زوجها وعبَّأتهُ في أكياس وأحرقته، والزوج الذي يجلد زوجته أو يكسر عظامها، والابن الذي يذبح أمه ويحبس أخته في قبو لعشرات السنين لا تري النور ويطعمها خبز الضيق وماء الضيق، والذئاب البشرية التي تفترس برائة الأطفال وتلقي بهم بعد ذلك تحت عجلات القطار...  آه، لقد تعبت من هذه الصورة المرعبة للبشرية الممزَّقة.

وكل هذه الصور المريعة تدل على واقع آخر غير مرئي.  إنها ليست مجرد صور شاذة مريضة، لكنها تشير - بكل وضوح - لِمَا وصل إليه حال القلب الداخلي في المجتمع.  كل هذا يدلّ على قلب متحجِّر متصلِّف قد ترك كل أحاسيس الحنان الطبيعي والحب.  ففي هذه الأيام الأخيرة التي نعيشها، والتي أطلق عليها الرسول «أزمنة صعبة»؛ فإن «الناس يكونون محبين لأنفسهم... دنسين، بلا حنو... شرسين...» (2تي3: 1-3).  ويتميز الناس الآن بغلاظة (أي قسوة) قلوبهم وبفقدانهم للحس (أف4: 18-19) أي للأحاسيس.  وقسوة المجتمع هذه، لها صورها العديدة، وأكثر الصور انتشارًا هو بلادة المشاعر والأحاسيس الطبيعية بين أعضاء الأسرة الواحدة، وبين أفراد الصداقة الواحدة، والكنيسة الواحدة، وبين أصدقاء العمل وزملائه.  نتيجة ذلك يشعر معظم الناس بالرفض وبعدم التقدير والقبول ممن حولهم لهم.  ويحاولون بناء العلاقات، ولكن معظم العلاقات تنتهي بالرفض والألم والجراح النفسية وانكسار القلب.  وينقسم الناس إلى صنفين، صنف يلوم الآخرين، ويلقي بالخطإ عليهم، ويقول لنفسه ”إن الناس لم يعودوا يحبون كما يجب، وليس هناك من يقدِّرني.  أنا أستحق أن أُحَبّ، لكني لا أجد من يحبني“.  وصنف أخر يلقي بالخطإ على نفسه، ويلوم نفسه، ويقول لنفسه ”أنا شخصية فقيرة اجتماعيًا، وليس بي ما يجعل الناس يحبونني، كم حاولت أن أتغير وأكون ذلك الشخص المرموق المحبوب ولم أستطع“.

ثم يأتي صاحب الحلول الشيطانية، فيجعلهم يجدون في الإنترنت مجالاً للتعرف على، والتواصل مع، أشخاص تحت أسماء مستعارة أو بشخصيات تخيليه افتراضية.  فيستطيع الباحث عن مجتمع آخر، بدلاً من المجتمع القاسي الذي يعيش فيه، أن يجد ذلك المجتمع الخيالي غير الحقيقي على الشبكة.

ويستطيع الباحث عن أن يكون شخصية محبوبة، أن يكون ذلك الشخص التخيلي الوهمي الذي يريده، ولم يستطع أن يكُنه.  ويعيش هذا وذاك، في مجتمع خيالي، ويمارسون أنشطة تخيّليه، وينتمون لمجموعات غير حقيقية، وينخرطون في ممارسات تافهة، أو لا أخلاقية.  وبهذا يستبدلون المجتمع القاسي الذي نعيش فيه بآخر إلكتروني غير واقعي.

ويستطيع أيضًا مستخدم الشبكة أن يعيش بأكثر من شخصية، وبأكثر من اسم مستعار، وذلك لكي يستطيع أن يمارس كل ما يحبه دون أن يعرفه أحد.  ففي مجموعة الرياضين يختار إسمًا رياضيًا وشخصية رياضية، وفي مجموعة الإباحيين، يختار إسمًا مثيرًا وشخصية مثيرة، وفي مجموعة المثقفين، يصير فيلسوفًا وباحثًا عالمًا وهكذا.
وكلما ازداد المجتمع قسوة وشراسة، كلما انخرط الإنسان في مجتمعه الخيالي أكثر وأكثر، وأدمن المماراسات الشبكية الخيالية أكثر وأكثر.

العلاج: محبة الآب

يخبرنا الأصحاح الخامس عشر من إنجيل لوقا عن قصة الابن الضال.  هذا الابن الذي لم يُرِد أن يعيش مع أبيه لأنه أحس أن أبيه يحد من حريته، وأن الحياة مع أبيه مملة وسخيفة.  وكما يقول ساكني صعيد مصر فقد ”ورث أبيه وهو حيًا“، وأخذ ميراثه وبذره «بعيش مسرف» في «كورة (أي قرية أو مدينة) بعيدة»؛ إذ كان يريد أن لا يرى أبيه مرة أخرى.  فإن عاش في قرية قريبة، فلربما يرى أبيه مصادفة، لذا فقد ذهب لواحدة بعيدة.  وأنفق كل معيشته و«ابتدأ يحتاج». وكما نعلم باقي القصة كيف احتاج أكثر، وجاع، ورعى الخنازير وكان «يشتهي أن يملأ بطنه من الخرنوب الذي كانت الخنازير تأكله، فلم يُعطه أحد» (لو15: 13-16).

هل من الممكن أن يفكِّر مثل هذا الشاب أن يعود لبيت أبيه.  كان هناك الكثير من الأسباب التي تمنعه: أولاً؛ أنه لم يكن يحب بيت أبيه في الأصل، فقرَّر الهروب من هناك.  ثانيًا؛ أنه لا يحب عشرة أبيه.  وثالثًا؛ أنه أهان أبيه إهانة ليست بسيطة، إذ قرَّر أن يعيش بعيدًا عنه، وأن يرثه وهو حيًا.  رابعًا؛ أنه قد فشل عمليًا في حياته، وأصبح مفلسًا فقيرًا، ورائحة الخنازير النجسة القذرة لا تفارقه.  خامسًا؛ أنه سيواجه سخرية الناس وسخرية أخيه، كيف خرج ممتلئًا بالمال والصحة والجمال، وعاد خاسرًا كل شيء.

ولكنه عاد إلى أبيه!  كيف عاد؟  كان حب أبيه السابق له يقنعه أنه مهما تمادى في بُعده فلا بد أن هناك ولو بعض الحنين باقيًا لدى أبيه من نحوه.  وكان هذا الحنين في نظر هذا الابن كافيًا حتي يقبله أبيه كعامل بالأجرة عنده.  ولكن عندما نقرأ باقي القصة، نجد العجب العُجاب هو أن الحنين الذي آمن الابن بوجوده قد تفوَّق بما لا يُقاس عن المقدار الذي توقَّعه ذلك الابن.

لقد وجد أن أبيه كان طوال هذه السنوات في انتظاره، «وإذ كان لم يزل بعيدًا» عن البيت، كان الأب واقفًا منتظرًا فوق سطح البيت ليستطيع أن يراه عن بُعد.  فيقول الكتاب: «رآه أبوه» وهو ما زال بعيد.  ثم لم ينتظر حتي يأتي إليه ويُقِّر بخطئه، لكن الأب ركض، وهو شيخ وقور متقدم في الأيام، وقبل أن يدور أيَّ حديث، وقبل أن يستفسر عن ما حدث، وقبل أن يقرّ الابن بخطئه، وقبل أن ينزعوا عنه الأثمال البالية ذات الرائحة المنفرة.  قبل أي شيء، وقع الأب على عنق الابن وأغرقه بالقبلات (لو15: 20).  ثم أعاده، كما نعرف من باقي القصة، إلى مكانته الأولى.

لقد كان الابن، رغم خطيته وضلاله وقسوة قلبه والإهانة التي وجَّهها إلى أبيه، هو محل شوق ومحبة أبيه.  وكما نعلم جميعًا أن هذا الأب هو صورة جميلة للآب السماوي.  هذا الآب الذي أحبنا جدًا، كما قال الرب يسوع أن «الآب نفسه يحبكم» (يو16: 27)، حتي أنه «لم يشفق على ابنه، بل بذله لأجلنا أجمعين» (رو8: 32)، «لأنه هكذا أحب الله العالم حتي بذل ابنه الوحيد» (يو3: 16).

إن هذه المحبة المحفوظة لنا من الله أبينا، والمؤكَّدة وغير المتغيرة، هي الملجأ لنا وسط رفض وقسوة العالم المحيط بنا.  يجب علينا دائمًا أن نري محبة الله لنا، وقبوله لنا في المسيح، حتي في أكثر لحظات حياتنا ضعفًا وفشلاً.
إن سَعَينا نحو نوال قبول ومحبة العالم المحيط بنا، فهذا قد يشير إلى أننا لم نعرف الله بعد.  إذ يقول الرسول «لا تحبوا العالم (كنظام) ولا الأشياء التي في العالم (ما يقدِّمه العالم).  إن أحب أحد العالم فليست فيه محبة الآب» (1يو2: 15).

ولا تنخدع يا أخي.. ولا تنخدعي يا أختي.. وتظنان أن الناس في العالم يحبون بعضهم البعض؛ إن كل ما يتبادلونه هو محبة مشروطة ومصالح متبادلة.  أما المحبة كما عرفناها في الله فليست لهم، ولا فيهم.  ونحن لن نجد المحبة الحقيقية ولا القبول الحقيقي إلا في محبة الآب التي لا يعرفها العالم.

فلنلجأ إليه إذًا فليس سواه.  وأي علاقات صداقة أو تعاطف أو رومانسية على شبكة الإنترنت، دونًا عن كونها خطية في معظم الأحيان، فهي أشياء تخيلية بينك وبين أشخاص وهميين.  فلا محبة حقيقية دون احتكاك حقيقي، ففي الاحتكاك العملي الحقيقي تبرز المحبة الحقيقية.  أما في العالم الوهمي التخيلي، فما أسهل المحبة إذ أنها مجرد عبارات.  وما أسهل الحصول على قبول الآخرين في العالم التخيلي وفي أحلام اليقظة.  يقول الكتاب إن المحبة ينبغي أن تكون في الواقع الحي إذ يقول «يا أولادي، لا نحب بالكلام ولا باللسان (مثل مواقع الدردشة والتواصل الإلكتروني)، بل بالعمل والحق (في الواقع العملي الحي الحقيقي)» (1يو3: 18).

الله يحبك كما أنت، ويستطيع أن يغيرك عما أنت فيه، حتي تكون على الصورة التي تحسن في عينيه.  ولكنك تظل غاليًا على قلبه، مهما كان وضعك الأدبي.  لا يوجد مكان آخر في الوجود تحتاج أن تكون فيه لتحصل على الحب غير المشروط والقبول دون مُساءلة، سوي حضن الآب السماوي المحب.

نصائح عملية

هذه بعض النصائح العملية التي قد تفيدك إن اكتشفت أنك مُدمن للإنترنت.

  • شارك أحد المؤمنين الناضجين في ما تعاني منه، اسأله أن يتابعك ويسألك عن مقدار استخدامك للشبكة بشكل دوري.
  • حاول التعرف على المفاتيح التي تجعلك تنقلب وتتحول للإنترنت وتستعملها بشكل غير طبيعي.  فهناك دائمًا مؤثِّرات معيَّنة خارجية تجعلك تتحول للمارسة المعتادة، أي للإنترنت.  تعرف على هذه المفاتيح وراقبها حتي تقطع مشوار الممارسة الشبكية قبل أن يبدأ، أي بمجرد أن يظهر المؤثر الخارجي، الجأ للرب فورًا وأطلب مساعدة من مؤمن ناضج.
  • كما رأينا من قبل، البعض يلجأ للإنترنت في حالات نفسية معينة مثل: الشعور بالوحدة، أو بالرفض، أو فقدان المعنى.  فإذا حدث لك هذا الشعور أو الحالة النفسية الجأ فورًا للرب.
  • توقَّف عن فتح المواقع التي تجعلك لا تستطيع التحكم في مدي استخدامك للشبكة.  ضع قائمة بها وتوقف تمامًا عن التعامل معها، ولو حتى عن طريق الفضول.
  • كلما جلست لاستخدام الشبكة استعمل ”Time Sheet“، أي جدول تسجِّل فيه الوقت الذي تقضيه في كل موقع أو استخدام معين.  بعد أن تنهي استخدامك للشبكة، ادرس ما هي الأشياء النافعة التي قُمت بها، وما هي غير النافعة، إن وجدت، وادرس كم قضيت وقتًا في كل منها.  وضع لنفسك هدفًا: ألا تُهدر الوقت أبدًا في أشياء تافهة أو غير بنائة.
  • نظِّم أوقات حياتك، وذلك بصنع قائمة بالمهام التي يجب أن تقوم بها مبتدئًا بالأهم فالمهم.  ففي معظم الأحيان يقوم معتاد استخدام الشبكة، بشكل مبالغ فيه، بتأجيل كل المهام والأنشطة التي لديه، ويبدأ بالأنشطة أو بالممارسات التي تتم على الشبكة.  لا تستخدم الإنترنت إلا إن كان النشاط الذي لا بد أن تقوم به هو الذي عليه الدور في قائمة المهام التي لديك.
  • ضع الكمبيوتر في مكان مكشوف في المنزل أو العمل، حتي يلاحظ الجميع مقدار استخدامك ونوعيته، فذلك سيجعلك أكثر التزامًا من جهة الوقت ومن جهة محتوى المواقع والأنشطة التي تمارسها.
  • من الممكن أن تجعل الكمبيوتر يمنع عرض المواقع الإباحية بسهولة شديدة، قُم بذلك الأمر، واستخدم مساعدة في ذلك إن لم تكن تعرف كيف تقوم بهذا الأمر.  سيسهل ذلك عليك المهمة بشكل كبير.

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com