عدد رقم 4 لسنة 2008
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
دانيآل.. تحدّيات وانتصارات  

كان عمره نحو 17 سنة يوم حُمِل إلى بابل، التي كانت عاصمة الدنيا آنذاك، بمبانيها الجميلة، وقصور مَلكها، ومنتزهاتها الواسعة، وحدائقها المُعلَّقة التي كانت إحدى عجائب الدنيا.

وسرعان ما أُعطيَّ له مكانًا خاصًا في قصر الملك، حيث يجلس على المائدة الملكية، ليأكل من أطايب الملك، وليشرب من خمر مشروبه.  وهنا برزت الأزمة الخطيرة الأولى في حياة دانيآل، لأن كل ما كان يُقدَّم لملك بابل من طعام أو شراب كان يُقدَّم للأوثان أولاً.  ولا شك أنه كان يدخل في أطايب الملك بعض الأطعمة النجسة التي لا يجوز أكلها بحسب الناموس.

فهل يأكل دانيآل أو لا يأكل؟! ... هل يشرب أو لا يشرب؟!

كل الأمور، بحسب الظاهر، بل بحسب المألوف والشائع عند الناس، كانت تُلزم دانيآل أن يخضع لنظام الأكل المُتَّبع؛ أولاً لأنه يوافق شهوة الجسد، فطعام الملك وشرابه كانا في ذلك الوقت أشهى ما في العالم، مُقدَّمين بأمهر الطهاة، ومُعدَّين من أفخر وأندر الأنواع والأصناف التي أُحضِرَت من سائر الدول والأمم التي خضعت لسلطان بابل.

ودانيآل شابًا غريبًا،  في أرض الأعداء، في مدينة وثنية مشهورة بشرورها، بعيدًا عن الوطن وعن البيت.  ولا بد أنه كان يشعر بالغربة والوحشة، وبالإحباط والحزن لدمار أورشليم ولخراب الهيكل.  يعيش حيث لا يستطيع أحد أن يعرف شيئًا عن جنسه أو إيمانه، خصوصًا وأن مملكة يهوذا صارت في خبر كان، أما المستقبل فينبغي أن يكون في بابل.  ولربما جُرِّبَ دانيآل بأن يقول لنفسه: أنا الآن في بابل، ويجب ألا أخرج عن عاداتهم طبقًا لما يقوله الناس: ”جارهم ما دمت في دارهم“.

زد على ذلك أنه إذا امتنع عن تناول ما يُقدَّم له من أطعمة من مائدة الملك، فإنه يُعرِّض نفسه للسخرية والاحتقار من الشبان الآخرين الذين أُحضروا من الشعوب الأخرى.

كما أنه إذا خالف الأوامر المتّبعة، فإنه يُعرِّض نفسه لغضب الملك.  ومثل هذا الرفض يقف حجر عثرة في طريق المستقبل، فلن يكون هناك أي بصيص من الأمل للتدرج في سلم الرقي في المملكة، بل ربما يعني تعريض الحياة للموت.

فهل يأكل من أطايب الملك ويشرب من خمر مشروبه، ولا يكون أمينًا لإلهه؟

ولربما قال له أحدهم مُشككًا أو متهكمًا: ”إذا كان إلهكم معكم، فلماذا أصابتكم كل هذه؟  وأين كل عجائبه التي أخبركم بها آباؤكم؟  والآن قد رفضكم الرب وجعلكم في كفَّ بابل“. 

ولكن دانيآل «البار» (حز14: 14، 20)، و«الحكيم» (حز28: 3)، في أحلك الظروف، وفي أسوأ الأوقات، وفي أشرّ الأماكن، عاش مرتفعًا منتصرًا على التجارب والمآسي التي اعترضت طريقه.  لم ينحرف قَطّ عن السبيل المستقيم الذي أراد الرب له أن يسلك فيه، ولم يسلك قط في مسالك مُعوَجَّةٍ متعلِّلاً بالحكمة الإنسانية وعدم التصادم مع الآخرين أو ما أشبه من تعليلات الناس!  كان رجلاً ذا أخلاق فاضلة وعزيمة قلبية ثابتة، وكان مثالاً صالحًا لينسج على منواله مؤمنو اليوم.  كان شجاعًا، وقف راسخًا ثابتًا ضد الخطية حتى الموت، وفضَّل أن يموت على أن يكون غير أمين لإلهه.  وامتاز بالأمانة الصحيحة في حياته الخاصة والعلنية، بالرغم من أنه كان يعيش غريبًا في مدينة وثنية شريرة، وفي أيام أقل ما توصف به أنها «أيام شريرة».  ولقد استطاع البابليون أن يُغيّروا اسمه، ويُبدّلوا مكانه، لكنهم لم يستطيعوا أن يُغيّروا طبيعته ولا أن يُميلوا قلبه.

لقد اختار دانيآل أن يجعل المبادىء الإلهية تحكمه وليس الناس، فقال:: ”لا“ لكل أمر مخالف لشريعة إلهه، وعاش ضد التيار.  هكذا ابتدأ، وهكذا أكمل السعي.  وظلّت حياته الطويلة سلسلة متصلة الحلقات من الطاعة لله والثبات على الحق. 

لقد كان أمينًا لإلهه، في شبابه المبكر، عندما وُضعت أمامه أطايب الملك (دا 1).  وكان أمينًا أيضًا لإلهه، في سنّه المُتقدّم، في مواجهة بيلشاصَّر الملك، بل وامتلأ من الغضب المقدس، عندما أُدخل الى الحفل الذي صنعه لقواده وعظمائه، وكان الحفل ماجنًا مُعربدًا، إذ استُعملت آنية الهيكل المقدسة في الشرب واللهو والمجون.  وعندما أراد الملك مكافأة دانيآل لتفسيره الكتابة له، كان جواب دانيآل: «لِتَكُنْ عَطَايَاكَ لِنَفْسِكَ وَهَبْ هِبَاتِكَ لِغَيْرِي»، وهو جواب خشن خال من التملق والمداهنة، وأكثر من ذلك أنه وبَّخ الملك توبيخًا صريحًا (5: 17-28).

وعندما عجز الإغراء، سواء في الأطايب أو في المركز، عن إسقاط دانيآل، سواء في شبابه أو في رجولته؛ فإن الامتحان القاسي يكون بالتهديد بالطرح في الجب مع الأسود، ويكون في الشيخوخة أمام ضعف الجسد ووهنه.  ولكن يا لروعة الانتصار!  ففي سن تربو على الثمانين، فتح دانيآل كوى عُلِّيَّتِهِ، وصلَّى وحَمَدَ قدام إلهه كما كان يفعل قبل ذلك، وفضّل أن يُطرح في جب الأسود على أن يقدِّم طلبة للملك داريوس.

  • وهكذا انتصر دانيآل في قصر الملك في شبابه المبكر.
  • وانتصر في جب الأسود في شيخوخته المتقدمة.
  • انتصر أمام الإغراء والوعود..   
  • وانتصر أمام التهديد والوعيد.

لقد اتخذ قرارًا في شبابه بأن يعيش لإلهه،
وكان أمينًا للقرار الذي اتخذه، فالتزم به طوال حياته،
وبرهن دائمًا على أنه كان يعني ما يقول.

ترى كيف انتصر دانيآل؟
أستطيع أن أوجز أسباب نصرته في أمرين:

أولهما: تحفُّظ القلب.
ثانيهما: التسلُّح للحرب.

أولاً: تحفظ القلب

قال الحكيم: «فَوْقَ كُلِّ تَحَفُّظٍ احْفَظْ قَلْبَكَ؛ لأَنَّ مِنْهُ مَخَارِجَ الْحَيَاةِ» (أم4: 23).  فكما أن القلب هو مركزالجهاز البدني، الذي منه تصدر مخارج ونشاطات الحياة، هكذا يتحدّث الحكيم عن القلب كمرادف للنفس، الأمر الذي يجب أن نحرسه بكل غيرة وجدية، لكي يصدر عنه كل ما هو نافع للبنيان والتقدّم الروحي. 

ويقول روح المسيح بلسان المُرنّم: «خَبَّأْتُ كَلاَمَكَ فِي قَلْبِي لِكَيْلاَ أُخْطِئَ إِلَيْكَ» (مز119: 11).  فالقلب الذي تحكمه كلمة الله هو الذي يضمن السلوك في الحق، والله يُسَرّ بالحق في الباطن (مز51: 6).

وواضح من التاريخ المقدس، أنه قبل أن تأتي مسألة الأطعمة المُحرَّمة أمام دانيآل، فإنه حضر إلى بابل وفي قلبه تصميم أكيد أن يكون أمينًا لله.  لذلك لم يكن من الصعب عليه أن يقول ”لا“ لما برزت أمامه التجربة: «أَمَّا دانيآل فَجَعَلَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ لاَ يَتَنَجَّسُ بِأَطَايِبِ الْمَلِكِ وَلاَ بِخَمْرِ مَشْرُوبِهِ؛ فَطَلَبَ مِنْ رَئِيسِ الْخِصْيَانِ أَنْ لاَ يَتَنَجَّسَ» (1: 8).  
ومكتوب في كلمة الله عن الملك رحبعام، ابن سليمان، أنه «عَمِلَ الشَّرَّ لأَنَّهُ لَمْ يُهَيِّئْ قَلْبَهُ لِطَلَبِ الرَّبِّ» (2أخ12: 14).  وهنا مكمن الداء، بل السرّ في تحطم أشخاص كثيرين؛ إنهم يستسلمون للشر لأنهم لم يجعلوا في قلوبهم أن يقاوموه.  قد نتوق إلى أن نتعلَّم فعل الخير، وأن نكُفّ عن فعل الشَّرِّ، وأن نقف وقفة جادة شجاعة في الحياة المسيحية، إلا أن هذا في حد ذاته لا يكفي.  فالأمر ليس أمنية، بل تصميم قاطع في القلب، وإرادة لا تلين، وجهاد حتى الدَّم ضدَّ الخطية (عب12: 4).  ويجب أن نعلم أن الشيطان يريد أن يغربل كل واحد منا كالحنطة، مثلما فعل مع بطرس، ومثلما أراد أن يعمل مع دانيآل.  وهو غالبًا ينجح في حياة الذين لم يُصمِّموا في قلوبهم ألا يتنجسوا.  والحياة الغالبة المنتصرة لا تُنال بالتمني، بل بالجهاد وضبط النفس في كل شيء (1كو9: 25-27)، مُتقوّيين في الرب وفي شدة قوته (أف6: 10).

ثانيًا: التسلّح للحرب

فمع أن أجناد الشر أحاطت به تَرُومُ إرجاعه عن مسلكه، ومع أن العدى زمجرت ضده في كل آن ليرعبونه، لكنه كان دائمًا في أمان، إذ تقوَّى في الرب وفي شدة قوته، فوقف ثابتًا ضد مكايد إبليس.  وإنني دائمًا أتصوّره جُنديٌّ مُحاربٌّ، بالرب غالبٌ، وله سلاحٌ كاملٌ.  بل إنني أستطيع أن أراه وهو يحمل كل قطعة من سلاح الله الكامل الذي وُصف لنا في أفسس6: 10-18، وهكذا استطاع أن يقاوم وأن يثبت وأن ينتصر في «اليوم الشرير».

  1. مِنطَقَة الحَقِّ؛ «مُمَنْطِقِينَ أَحْقَاءَكُمْ بِالْحَقِّ»..  تطبيق الحق عمليًا على الحياة والسلوك
    المِنطَقَة هي الحزام أو الزنار.  والمِنطَقَة عادة تشد أحقاء المحارب ووسطه، فتُشدّد عزيمته، ولكي يكون مشدودًا وقويًا ومستعدًا للركض والجهاد في الميدان.  والأحقاء في الإنسان هي مكان الأحشاء والمشاعر والعواطف والميول الداخلية، وكذلك هي مكان القوة ومركز الحركة.  والمنطقة التي يتمنطق بها المؤمن هي «مِنطَقَة الحَقِّ»، والمقصود بالحق هنا هو كلمة الله.  فقبل كل شيء يجب على المؤمن أن يتمنطق بالحق الإلهي، أي أن يُشدِّد على نفسه في تطبيق كلمة الله على حياته وسلوكه. 
    ودعونا نتأمل دانيآل، عندما كان مسبيًا في قصر نَبُوخَذ نَاصَّر، لقد كان مُمنطقًا بالحق إذ «جَعَلَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ لاَ يَتَنَجَّسُ بِأَطَايِبِ الْمَلِكِ وَلاَ بِخَمْرِ مَشْرُوبِهِ» (1: 8)، وربط عواطفه بكلمة الله التي تُنهي عن تناول مثل هذه الأطعمة حتى ولو كانت أطايب، فأكرمه الرب بأن جعله يفوق كل أترابه جمالاً ونضارة، وحكمة وفهمًا.  لقد كان ولاء دانيآل الأول لله ولكلمته، ولما تعارض قانون الملك مع وصية الله، تصرّف دانيآل باعتبار أنه «يَنْبَغِي أَنْ يُطَاعَ اللهُ أَكْثَرَ مِنَ النَّاسِ» (أع 5: 29)، وأطاع دانيآل الله رغم معرفته بالخطر الذي سيتعرض له بسبب طاعته لله (6: 4- 10).
  2. دِرعَ البِرِّ؛ «وَلاَبِسِينَ دِرْعَ الْبِرِّ ».. حالة الضمير في مواجهة العدو
    الدرع هو القميص المكوَّن من قطع معدنية، مرتبطة معًا بطريقة تسمح له بالحركة، وهو يُغطي صدر الجندي وبطنه من الرقبة حتى الفخذين.  والدرع تحمي الصدر، حيث القلب الذي منه مخارج الحياة (أم4: 23).  والبر هنا هو البر العملي في حياتنا الروحية والعملية.
    وما يعنيه «دِرعَ البِرِّ» هو السيرة المقدسة والضمير الحساس، الذي بلا عثرة من نحو الله والناس.  وهذا يعني أن يكون المؤمن غير مذنب في خطية لم يعترف بها، كما تعني أيضًا أنه لا يتسبب في عثرة الآخرين.  هذا الضمير يجب أن يُميِّز المؤمن سواء كان تاجرًا في تجارته، أو موظفًا في وظيفته، أو طالبًا في امتحاناته، فلا يجد العدو ثغرة في سلوكنا العملي ينفذ فيها ليشتكي علينا.  لذا يجب على كل المؤمنين الحقيقيين الذين تبرروا مجانًا بالفداء الذي بيسوع المسيح، أن يحيوا حياة البر العملي «قَدِّمُوا ذَوَاتِكُمْ لِلَّهِ كَأَحْيَاءٍ مِنَ الأَمْوَاتِ وَأَعْضَاءَكُمْ آلاَتِ بِرٍّ لِلَّه» (رو6: 13). 
    هل نستطيع أن نثبت ضد مكايد إبليس، وصوت الضمير يشتكي علينا ويلومنا، بسبب أمور لا يرضى عنها الرب، ونسكت عليها دون أن نحكم على أنفسنا؟
    إن دانيآل - فوق ثيابه الرسمية في بابل - كان لابسًا «دِرعَ البِرِّ»؛ «ثُمَّ إِنَّ الْوُزَرَاءَ وَالْمَرَازِبَةَ كَانُوا يَطْلُبُونَ عِلَّةً يَجِدُونَهَا عَلَى دانيآل مِنْ جِهَةِ الْمَمْلَكَةِ، فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَجِدُوا عِلَّةً وَلاَ ذَنْبًا؛ لأَنَّهُ كَانَ أَمِينًا وَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ خَطَأٌ وَلاَ ذَنْبٌ» (6: 4)، وهكذا خابت معه مكايد الشيطان، وارتدت عنه سهام الوزراء والمرازبة. 
    واسمعه يقول مقولته الرائعة، من داخل جب الأسود الذي دخله بضمير غير منزعج: «يَا أَيُّهَا الْمَلِكُ عِشْ إِلَى الأَبَدِ!  إِلَهِي أَرْسَلَ مَلاَكَهُ وَسَدَّ أَفْوَاهَ الأُسُودِ فَلَمْ تَضُرَّنِي؛ لأَنِّي وُجِدْتُ بَرِيئًا قُدَّامَهُ وَقُدَّامَكَ أَيْضًا أَيُّهَا الْمَلِكُ.  لَمْ أَفْعَلْ ذَنْبًا» (6: 21، 22).
  3. حذاء الأرجل؛ «وَحَاذِينَ أَرْجُلَكُمْ بِاسْتِعْدَادِ إِنْجِيلِ السَّلاَمِ»
    حذاء الأرجل إشارة إلى السلوك العملي المُطابق لتعليم إنجيل الله (في1: 27)، وهو إشارة أيضًا إلى الاستعداد لحركة الحرية من عبودية الشر، وحركة الشهادة والخدمة (خر12: 11؛ نا1: 15).  ويُقصد به أيضًا تمتّع النفس بالسلام وسط كل الظروف.  وإذ كان المؤمن متمتّعًا بهذا السلام، يستطيع أن يشعه بين أفراد شعب الله.  ونحن نذكر تلك المرأة العظيمة، الشونمية، فأمام موت وحيدها، ما انهارت قواها، بل قالت: «سلام» (2مل4: 26). 
    ودانيآل، لم تستطِع الظروف التي قابلها، رغم قسوتها، أن تزعجه أو تقلقه أو تنزع سلامه، بل استمر في طريقه؛ طريق الشهادة لله والمحبة والسلام، بتصميم قلبي على السير في ذلك الطريق «فَلَمَّا عَلِمَ دانيآل بِإِمْضَاءِ الْكِتَابَةِ ذَهَبَ إِلَى بَيْتِهِ وَكُواهُ مَفْتُوحَةٌ فِي عُلِّيَّتِهِ نَحْوَ أُورُشَلِيمَ، فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فِي الْيَوْمِ وَصَلَّى وَحَمَدَ قُدَّامَ إِلَهِهِ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ قَبْلَ ذَلِكَ» (6: 10).  فيا للسلام!  ويا للهدوء!  ويا للثقة في الله!
  4. ترس الإيمان؛ «حَامِلِينَ فَوْقَ الْكُلِّ تُرْسَ الإِيمَانِ، الَّذِي بِهِ تَقْدِرُونَ أَنْ تُطْفِئُوا جَمِيعَ سِهَامِ الشِّرِّيرِ الْمُلْتَهِبَةِ»
    التُرس هو كل ما يُتوقى به من سلاح.  والترس في كلمة الله رمز حماية الله لشعبه (تك15: 1؛ تث33: 29؛ مز5: 12؛ 18: 30؛ 91: 4...  إلخ).  وترس الإيمان معناه الثقة الكاملة في الله وفي صلاحه في كل الظروف، والاعتماد القلبي عليه.  فلو اهتزّت ثقة المؤمن في الرب، سيكون عندذا هدفًا سهلاً لسهام الشيطان الملتهبة. 
    إننا عندما نتقدس في الحق (منطقة الحق)، وننفصل عن كل شر فيتوافر الضمير الصالح (درع البر)، لتكون نفوسنا في سلام (الاحتذاء باستعداد إنجيل السلام)، نستطيع في هذا الجو الهادئ أن نُثبّت أعيننا على الرب بالإيمان، الذي يستجلب كل قوته ويحقِّق أعظم الانتصارات.  «أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، إِنْ لَمْ تَلُمْنَا قُلُوبُنَا فَلَنَا ثِقَةٌ مِنْ نَحْوِ اللهِ.  وَمَهْمَا سَأَلْنَا نَنَالُ مِنْهُ، لأَنَّنَا نَحْفَظُ وَصَايَاهُ، وَنَعْمَلُ الأَعْمَالَ الْمَرْضِيَّةَ أَمَامَهُ» (1يو3: 21، 22). 
    وهكذا كان دانيآل الذي سجل الروح القدس عنه «فَأُصْعِدَ دانيآل مِنَ الْجُبِّ وَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ ضَرَرٌ لأَنَّهُ آمَنَ بِإِلَهِهِ» (6: 23).  لقد سبق له أن اختبر أمانة الله في تجربة العشرة الأيام (1: 12-15)، وزادت ثقته وإيمانه بالله وقدرته، ولم يكن لديه أدنى شك، حين أكد للملك أن الله سيُخبره بالحلم وتعبيره (2: 16)، ولذلك لم تهتز ثقته في الرب أمام جب الأسود.  ومكتوب «فِي مَخَافَةِ الرَّبِّ ثِقَةٌ شَدِيدَةٌ» (أم14: 26).
    أيها الأحباء.. إن من امتيازنا أن نعتمد على الله بإيمان راسخ وثقة كاملة، مهما كانت الظروف حولنا، لأنه «إِنْ كَانَ اللهُ مَعَنَا فَمَنْ عَلَيْنَا؟» (رو8: 31).  إن هاتين الكلمتين «اللهُ مَعَنَا» هما حصننا وحمانا بإزاء أفكار الشك التي يأتي بها العدو إلينا «وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ، الَّذِينَ هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ» (رو8: 28).
  5. خوذة الخلاص؛ «وَخُذُوا خُوذَةَ الْخَلاَصِ»
    الخوذة غطاء معدني لوقاية الرأس من مختلف أسلحة الهجوم.  والرأس هي مركز التفكير والفهم والإرادة.  وتُستخدم الخوذة مَجَازيًا للدلالة على القوة والمناعة، فيقول إشعياء عن الرب إنه «لَبِسَ الْبِرَّ كَدِرْعٍ وَخُوذَةَ الْخَلاَصِ عَلَى رَأْسِهِ» (إش59: 17). 
    وخوذة الخلاص تعني بالنسبة للمؤمن اليقين والثقة من حصوله - بالنعمة - على الخلاص الكامل الأبدي، وهو ما يقي رأس المؤمن وذهنه من هجمات الشيطان ويثبِّته في المعركة، ويشجِّعه على التقدم لإحراز النصرة على العدو.  وهذا يجعل رأسه مرفوعًا باستمرار في الحرب. 
    إننا نعلم أن الذي خلَّصنا بموته على الصليب، يحيا لأجلنا في السماء، وهو الذي يمتّعنا بخلاصه كل الطريق وبنصرته الدائمة في كل معركة، إلى أن يأتينا مُخلّصًا ليُغير شكل جسد تواضعنا، لنكون على صورة جسد مجده (رو5: 10؛ في3: 20، 21).  ولكن عدم التثبت من أمر الخلاص يعطي فرصة للشيطان ليملأ أفكار المؤمن القلِق بالمخاوف والشكوك. 
    ولقد كان دانيآل دائم الثقة في خلاص إلهه، رغم كل الظروف الصعبة التي اجتازها.  فعندما تساءل داريوس الملك قائلاً لدانيآل: «إِنَّ إِلَهَكَ الَّذِي تَعْبُدُهُ دَائِمًا هُوَ يُنَجِّيكَ (يخلِّصك)!» (6: 16، 20)، صمت دانيآل أولاً ولم يجب قبل أن يُطرح في الجب، وكان صمته الواثق أبلغ من كل كلام، وكان سكوته يهتف بأجلى بيان: ”أيها الملك...  سوف ترى أعظم من هذا“.  لقد كان لسان حاله، كما قال رفقاؤه الثلاثة من قبل: «هُوَذَا يُوجَدُ إِلَهُنَا الَّذِي نَعْبُدُهُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنَجِّيَنَا مِنْ أَتُونِ النَّارِ الْمُتَّقِدَةِ وَأَنْ يُنْقِذَنَا مِنْ يَدِكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ» (3: 17).  وهكذا أجاب دانيآل من داخل الجب: «أَيُّهَا الْمَلِكُ...  إِلَهِي أَرْسَلَ مَلاَكَهُ وَسَدَّ أَفْوَاهَ الأُسُودِ فَلَمْ تَضُرَّنِي» (6: 21، 22).
  6. سيف الروح «وَسَيْفَ الرُّوحِ الَّذِي هُوَ كَلِمَةُ اَللهِ»
    السيف هو القطعة الهجومية الوحيدة في سلاح الله الكامل.  والسيف هنا هو كلمة الله؛ ليس الكتاب المقدس بصفة إجمالية هو سيف الروح، بل السيف هو القول المناسب من الكتاب للحالة التي أنا فيها، والذي أستطيع به أن أرد على تجارب العدو بعبارة: «هكذا قال الرب...»، أو «مكتوب...». 
    ونلاحظ أن السيف قد أُطلق عليه «سَيْفَ الرُّوحِ»، أي لا بد أن تُستخدم الكلمة المُشبعة لقلوبنا بقيادة الروح القدس.  والمؤمن الذي يعيش في جو الشركة مع الله، والمؤمن الذي لا يُحزن الروح القدس، هو الذي يجيد إمساك السيف.  إن أذهانًا ملآنة بالكلمة دون حياة تقوية بقيادة الروح القدس، ستفقد هذا السيف، ولن يمكنها استخدام الكتاب المقدس استخدامًا فعّالاً.  ليتنا نلهج في كلام الرب نهارًا وليلاً ونخبئه في قلوبنا حتى لا نخطئ إليه.  والرسول يحرضنا «لِتَسْكُنْ فِيكُمْ كَلِمَةُ الْمَسِيحِ بِغِنىً» (كو3: 16). 
    ولم يكن دانيآل نبيًا فحسب، بل كان تلميذًا مُجِّدًا في درس الكلمة.  لقد تعلَّم من الشريعة أن اليهودي التقي يجب أن لا يأكل طعامًا يمت للأوثان بِصلة (لا 3: 17؛ 7: 22-25؛ 17: 10، 14؛ تث12: 23،24)، فجعل في قلبه أن لا يتنجَّس (1: 8).  لقد كانت شريعة إلهه في قلبه فلم تتقلقل خطواته (مز37: 31).  كما أن صلواته كانت مطابقة لكلمات سليمان التي نطق بها يوم تدشين الهيكل (1مل8: 29-34 قارن من فضلك دا 6: 10).  ومن الأصحاح التاسع نستنتج أنه كان مُلمًا بالنبوات وبأسفار موسى الخمسة (9: 2، 11، 13).  لقد كان بحق رجل الكتب المقدسة؛ عرفها (9: 2)، وتمسك بها (6: 5).
  7. الصلاة.. كل وقت.. في الروح: «مُصَلِّينَ بِكُلِّ صَلاَةٍ وَطِلْبَةٍ كُلَّ وَقْتٍ فِي الرُّوحِ، وَسَاهِرِينَ لِهَذَا بِعَيْنِهِ بِكُلِّ مُواظَبَةٍ وَطِلْبَةٍ، لأَجْلِ جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ»
    الجزء الأخير من سلاح الله الكامل، وهو الصلاة، هو بمثابة الاتصال المباشر بالقيادة العليا التي منها يستمد المؤمن التوجيه في حربه.  إذا كان الجيش كامل العدد والأسلحة، ولكنه فَقَد اتصاله بالقيادة العليا، فإنه لا يعرف أ يتقدم أم يثبت أم يتراجع؟  هل يتجه يمينًا أم يسارًا؟  وهكذا يوجد أشخاص يدرسون الكلمة والتفاسير المختلفة، ولكن إذا كانت صلاتهم ضعيفة وهزيلة، فمن أين يستمدون القوة للانتصار؟  لنحرص على أن نكون متصلين دائمًا بقائدنا الأعلى لنستمد منه الإرشاد والمعونة في كل حين. 
    وكان دانيآل الرجل الذي للصلاة أعظم مكانة في قلبه:
    ففي دانيآل2: 17، 18 نجد أن شعوره بعجزه، واعتماده الكلي على الله، جعله يُشرك أصحابه معه في التوسلات أمام الله.  وهذا هو أول اجتماع للصلاة الجماعية في الكتاب المقدس، والتي حرَّضنا عليها الرب يسوع قائلاً: «وَأَقُولُ لَكُمْ أَيْضًا: إِنِ اتَّفَقَ اثْنَانِ مِنْكُمْ عَلَى الأَرْضِ فِي أَيِّ شَيْءٍ يَطْلُبَانِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُمَا مِنْ قِبَلِ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ» (مت18: 19). 
    وبعد أن كشف الرب السر لدانيآل، وأعطاه تفسير الحلم، لم يتوجّه مباشرة إلى الملك لينقذ حياته وحياة أصحابه من حكم الموت، بل ذهب إلى الرب مباشرة ليشكره.  لقد ذهب إليه ساجدًا شاكرًا، وفاض قلبه بأنشودة حمد رائعة (2: 19-33). 
    وكان لدانيآل عادة الصلاة ثلاث مرات يوميًا، بجوار الكوّة، ووجهه نحو أورشليم والهيكل المقدس.  وهكذا صلى وحمد إلهه حتى في وسط الضيق (6: 10). 
    وفي الأصحاح التاسع نجد دانيآل يوجِّه نفسه بالصلاة والتضرعات، بالصوم والمسح والرماد (9: 3-10 انظر أيضًا 10: 2، 3)، متشفعًا من أجل شعبه ومدينته أورشليم، طالبًا وجه الرب لإرجاع شعبه من السبي، وكانت صلواته طبقًا لكلمات سليمان التي نطق بها يوم تدشين الهيكل (1مل8: 29-34). 
    ومن الرائع أن هذه الصلوات التي صلاّها دانيآل في بابل أُجيبت، بعد سنتين تقريبًا، إجابة مباركة حتى أن كورش ملك فارس أطلق نداء في كل مملكته، وبالكتابة أيضًا، أن يُبني بيت الرب في أورشليم وأن لكل مَنْ يرغب من اليهود الحق في العودة إلى أورشليم (2أخ 36: 22، 23؛ عز1: 1-4).  فالله الذي سد أفواه الأسود في الجب، فتح فم الملك لكي ينطق بهذا المرسوم الشهير.

عزيزي:

هل جعلت في قلبك أن تعيش حياة مقدَّسة لإلهك؟
هل ولاؤك الأول لله ولكلمته؟
هل صوت ضميرك لا يشتكي عليك ولا يلومك بسبب أمور لا يرضى عنها الرب؟
هل تتمتع بسلام الله وسط كل الظروف؟
هل لك الثقة الكاملة في الله، وفي صلاحه في كل الظروف؟
هل لك اليقين والثقة من حصولك الكامل، بالنعمة، على الخلاص الكامل والأبدي؟
هل تلهج في كلمة الرب نهارًا وليلاً، وتخبئها في قلبك حتى لا تُخطىء إليه؟
هل للصلاة أعظم مكان في قلبك؟
إن كان الأمر كذلك فلماذا تخاف إذًا،
وهناك
فوق الجميع،
  فوق الظروف،
    فوق المراكز،
      وفوق الأهل والأصدقاء،
        بل وفوق الحياة،

إلهنا القدير الذي 
يرى كل شيء، ويدبِّر كل شيء،
والذي وعد أن يُكرم الذين يُكرمونه.  
إنه «إله دانيآل» الذي ما زال موجودًا.

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com