أعتقد أننا كلنا نسعد بما قاله الحكيم: «النُّصْرَةُ فَمِنَ الرَّبِّ» (أم21: 31)! وكيف لا وهي وسادة ترتاح عليها قلوبنا وسط عالم مضطرب مضطرم! وكم اختبرناه وهو يطمئننا «لاَ تَخَافُوا وَلاَ تَرْتَاعُوا... لأَنَّ الْحَرْبَ لَيْسَتْ لَكُمْ بَلْ لِلَّهِ» (2أخ20: 15). وتعلمنا أنه بحق «مُبَارَكٌ الرَّجُلُ الَّذِي يَتَّكِلُ عَلَى الرَّبِّ وَكَانَ الرَّبُّ مُتَّكَلَهُ» (إر17: 7). وليتنا نستمر هكذا.
لكنننا كثيرًا ما نغفل أن هذا لا يعني أنه لا دور لنا على الإطلاق في كل جوانب الحياة، وكل ما علينا أن ننتظر ”القسمة والنصيب“. فإننا إن قرأنا الآية، المتصدرة الموضوع، من أولها (ونحن بالطبع نعلم خطورة نزع آية من سياقها)؛ فإننا نجدها تقول «اَلْفَرَسُ مُعَدٌّ لِيَوْمِ الْحَرْبِ، أَمَّا النُّصْرَةُ فَمِنَ الرَّبِّ». فمن جانبنا ينبغي أن يكون هناك فرس معَدّ، على أن ذلك، وإن كان واجبنا، فهو ليس متكلنا مطلقًا.
وبالتأكيد على كل مؤمن أن يتهيأ ويستعد للحرب الروحية فيلبس سلاح الله الكامل حتى يقدر أن يثبت في اليوم الشرير (أف6). ولكن ليتنا أيضًا ندرك أنه علينا كذلك أن نُعد أنفسنا لمواجهة معترك الحياة، في عصر لم يرَ العالم، في كل تاريخه، قطار التطور التقني (التكنولوجي) أسرع مما هو عليه الآن؛ حتى أن من لا يستطيع أن يجاريه سيدهسه. وبالطبع، ونحن نفعل ذلك، نفعله ليس بمنطق الاعتمادية على الذات، بل بمفهوم المتكِل على الرب وهو يعدّ الفرس.
خلفية كتابية
في 2أخبار14، نقرأ قصة آسا، وهو أحد الملوك الذين تشرفوا بالتقرير الإلهي «وَعَمِلَ آسَا مَا هُوَ صَالِحٌ وَمُسْتَقِيمٌ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ إِلَهِهِ». في بداية ملكه «اسْتَرَاحَتِ الأَرْضُ عَشَرَ سِنِينَ»، أي كانت بلا حرب. كان من الممكن أن يركن هو إلى ذلك ويستريح بلا عمل، لكننا نقرأ عنه أنه «بَنَى مُدُناً حَصِينَةً فِي يَهُوذَا لأَنَّ الأَرْضَ اسْتَرَاحَتْ وَلَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ حَرْبٌ فِي تِلْكَ السِّنِينَ لأَنَّ الرَّبَّ أَرَاحَهُ. وَقَالَ لِيَهُوذَا: ”لِنَبْنِ هَذِهِ الْمُدُنَ وَنُحَوِّطْهَا بِأَسْوَارٍ وَأَبْرَاجٍ وَأَبْوَابٍ وَعَوَارِضَ مَا دَامَتِ الأَرْضُ أَمَامَنَا؛ لأَنَّنَا قَدْ طَلَبْنَا الرَّبَّ إِلَهَنَا. طَلَبْنَاهُ فَأَرَاحَنَا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ“. فَبَنُوا وَنَجَحُوا».
وقد نسأله، بمنطق البعض اليوم: لماذا تتعب نفسك والزمان زمان راحة؟ ثم ألست من طالبي الرب الذين لا يعوزهم شيء؟!
ولعلي أسمعه شارحًا لنا وجهة نظره الصائبة: أنه لا تعارض بين طلب الرب وتحصين المدن؛ بل إن تحصين المدن مؤسَّس على الاتكال على الرب والاعتراف بأفضاله. كما أن زمن الراحة هو وقت استعداد وتجهيز للآتي، فإذا أتت الحاجة يوم الحرب فلا وقت للتجهيز. ولنعتبر زمن الراحة بالنسبة لنا هو أيام الشباب، في الجامعة وبداية التخرج، ونتجهز بما يمكننا أن نستخدمه غدًا. فالممكن اليوم قد لا يكون ممكنًا غدًا.
وسار على نهج آسا أيضًا عزّيا الملك في زمان طلبه للرب (2أخ26)، بل زاد عن آسا إذ يقول عنه الكتاب «وَعَمِلَ فِي أُورُشَلِيمَ مَنْجَنِيقَاتٍ (ماكينات) اخْتِرَاعَ مُخْتَرِعِينَ ... لِتُرْمَى بِهَا السِّهَامُ وَالْحِجَارَةُ الْعَظِيمَةُ». لقد اقتضى تطور الحرب وقتها أن يطوِّر هو من نفسه، فكان مِقدامًا وسبّاقًا في هذ المضمار. وهذا أيضًا كان في زمان ليس فيه حرب عليه.
وداود أيضًا يقدِّم لنا درسًا حين استدعى ابنه سليمان: «الآنَ يَا ابْنِي لِيَكُنِ الرَّبُّ مَعَكَ فَتُفْلِحَ وَتَبْنِيَ بَيْتَ الرَّبِّ إِلَهِكَ... هَئَنَذَا فِي مَذَلَّتِي هَيَّأْتُ لِبَيْتِ الرَّبِّ ذَهَباً مِئَةَ أَلْفِ وَزْنَةٍ... وَعِنْدَكَ كَثِيرُونَ مِنْ عَامِلِي الشُّغْلِ: نَحَّاتِينَ وَبَنَّائِينَ وَنَجَّارِينَ وَكُلُّ حَكِيمٍ فِي كُلِّ عَمَلٍ... قُمْ وَاعْمَلْ, وَلْيَكُنِ الرَّبُّ مَعَكَ» (1أخ22: 11-16). فالمواد الخام مهيّأة والصنّاع مدرَّبون. ومن اللافت للنظر أن داود بدأ وختم بالقول «لِيَكُنِ الرَّبُّ مَعَكَ»، وفي الوسط كل استعداداته. فلم يكن اتكاله على الرب متعارضًا مع تجهيزاته، بل بالعكس. والأمثلة كثيرة، من كلمة الله، ومن التاريخ الحديث.
لنتّقِ هذا السهم
ويمكننا أن نرى مثالاً عكسيًا أن حرماننا من التطور والجاهزية هو من مخططات العدو: «وَلَمْ يُوجَدْ صَانِعٌ فِي كُلِّ أَرْضِ إِسْرَائِيلَ, لأَنَّ الْفِلِسْطِينِيِّينَ قَالُوا: لِئَلاَّ يَعْمَلَ الْعِبْرَانِيُّونَ سَيْفاً أَوْ رُمْحاً... عِنْدَمَا كَلَّتْ حُدُودُ السِّكَكِ وَالْمَنَاجِلِ... كَانَ فِي يَوْمِ الْحَرْبِ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ سَيْفٌ وَلاَ رُمْحٌ بِيَدِ جَمِيعِ الشَّعْبِ الَّذِي مَعَ شَاوُلَ وَمَعَ يُونَاثَانَ» (1صم13: 19-22).
لنحذر! فالعدو يسلبنا فرصًا يمكننا أن نجهِّز أنفسنا بها، ونحن نستسلم بسذاجة غريبة، بل وقد ”نروحن“ الأمر أيضًا؛ ثم حين يأتي وقت الحاجة، وإذا جاء فقرنا كساعٍ وعوزنا كعدّاء، بعد طي اليدين (”تكتيف اليدين“ كصورة بليغة لمن لا يريد أن يفعل شيئًا)، ولاحظ أن هذا التعبير ورد مرتين - توكيدًا - في سفر الأمثال؛ مرة وهو يحرِّضنا من مخلوق صغير، هو النملة التي تُعِدّ في الصيف طعامها فلا تحتاج في الشتاء (6: 8-11)، ومرة وهو سيتعرض النتيجة المرة للكسل «عَبَرْتُ بِحَقْلِ الْكَسْلاَنِ وَبِكَرْمِ الرَّجُلِ النَّاقِصِ الْفَهْمِ؛ فَإِذَا هُوَ قَدْ عَلاَهُ كُلَّهُ الْقَرِيصُ وَقَدْ غَطَّى الْعَوْسَجُ وَجْهَهُ وَجِدَارُ حِجَارَتِهِ انْهَدَمَ» (24: 30-34). أقول: إن أهملنا فجاء وقت الحاجة، نجد العدو يشتكي لنا على صلاح الله، ويوجِّه سهامه إلى إيماننا؛ وللعجب أننا، وقتها، نستسلم لمثل هذه الأفكار!
التحدي كبير
لم يشهد عصر من العصور تطورًا وتقدّمًا مذهلاً كذاك الذي نعيشه الآن. فالعشر سنوات الأخيرة شهدت تقدمًا وتطورًا أضعاف ما حدث في القرن الأخير، الذي بدوره شاهد تطورًا يوازي مئات الأضعاف من تاريخ البشرية الأسبق! فالفلاح الذي كان يقلب الأرض بفأسه في ساعات طوال بعرق كثير، أصبح يستعمل المحاريث الآلية ليسرع من إنجازه بمجهود أقل، وبدلاً من أن يسقي الحقل برجله (تث11: 10) أصبح يستعمل ماكينات الري.
أتذكر، عندما التحقت بكلية الهندسة في نهاية السبعينيات من القرن الماضي، كانت وسيلة الحسابات المعتمدة وقتها هي ”المسطرة المنزلقة“ وهي عبارة عن عدة لوحات تنزلق بعضها على بعض، بناء على ترتيب معين، كنا نقضي الشهر الأول من الدراسة نتعلمه. كانت العملية الحسابية الواحدة تستغرق قرابة دقيقتين، تزداد المدة مع تعقيد القيمة الرياضية (كدوال حساب المثلثات واللوغاريتمات). ثم تطور الأمر إلى الآلة الحاسبة، والتي كانت تمكِّن الواحد من الانتهاء من حساب معادلة مكونة من عدة عمليات حسابية، مهما كان تعقيدها، في أقل من دقيقة! ثم تطور الأمر لاستخدام الحاسب الآلي، وتطور برمجياته، فإذ بي أجد حسابات مشروع تخرجي، والتي استهلكت ثلاثة أشهر من عمري وقتها، من الممكن إجرائها في ثلاث ساعات!!
وقديمًا كانت الاكتشافات والاختراعات تُقابَل بالهجوم الشديد، والاتهام بالجنون، بل وبالهرطقة، والتهديد بالحرق أيضًا. أما اليوم، فمن لا يقبل التطور ويجاريه هو المعرَّض للضياع!
أعرف رجلاً، عزيزًا عليَّ، كان شيخًا للمصورين الفوتوغرافيين، كان رائدًا سبّاقًا في هذا الفن في مصر لسنين طويلة، بل ومعلِّمًا له. وفي وقت تقدمت به السن، تطورت هذه الصناعة بسرعة مذهلة، ودخلت عصر التصوير الرقمي، وتغيرت معالمها وتقنياتها، في حين لم يكن سنه يسمح له بالمزيد من التعلّم؛ وانتهى الأمر به إلى اجترار ذكريات عصر جميل، كان قد أبلى بلاءً حسنًا فيه! على كل حال، كان قد أنجز الكثير جدًا بما يكفيه وقد جاوز التسعين. لكن ما لا أرجوه هو أن يجري العمر سريعًا بشاب، فيجد نفسه في هذا الموقف وهو بعد في منتصف عمره؛ يومها سيكون الأمر محزن للغاية.
كلمات عملية
الآن وقد وضح لنا حجم التحدي التقني الذي نواجهه، وبعد أن وصلنا إلى ضرورة أن نجهز أنفسنا له؛ أعتقد أنه لزامًا على كل واحد فينا أن يعد فرسه، وبالاتكال على الرب، يتهيأ لقبول التحدي المفروض علينا. ودعني أهمس في أذن قارئي ببعض الكلمات العملية:
- في عصر العولمة الذي نعيشه، أصبح لإتقان اللغات أهمية قصوي؛ فأرقى الشهادات دون دعمها باللغات الأجنبية ستُبقي الفرص أمامنا محدودة للغاية. ولا تستصعب ذلك، فدراسة اللغات تحتاج إلى بعض المثابرة فحسب. أعرف صديقًا، يعيش الآن بالخارج، كانت ”عقدته“ في الثانوية العامة هي اللغة الإنجليزية، ولكنه بالاتكال على الرب ثابر في دراسته وقت الجامعة؛ فأصبحت الإنجليزية أساس عمله الآن. وأعرف آخر رسب فيها، لكنه الآن، بعد دراستها بجد، يقوم بتدريسها! وغيرهما. وهل لي أن أهمس في أذنك بسرٍّ؟! لقد تعلمت الإنجليزية بمواظبتي على قراءة للكتاب المقدس بكلا اللغتين بالتوازي!
- كل حرفة الآن أصبحت لها تقنياتها الحديثة التي لا غنى عنها الآن. فالنجار - مثلاً - لم يعُد اعتماده الأساسي على المنشار! بل هناك الكثير من الآليات الحديثة التي تُخرج العمل أكثر إتقانًا، وفي وقت أسرع. لذا، إن كنت من المهنيين (نجار – خرّاط – كهربائي – مبيض ... الخ)، فاسعَ لتتعرف على التقنيات الحديثة وتتقنها؛ فهذا فرسك ولا بد أن تُعِدَّه.
- هناك ما يمكن أن نسميه ”القيمة المضافة“ إلى مؤهلك، وهو إتقان برامج الحاسب الآلي المتعلقة بتخصصك. فإن كنت حاصلاً على دبلوم صناعي - مثلاً - فهل تعلم أنك في أشهر قليلة يمكنك تعلم برنامج مثل ”الأوتوكاد AutoCad“ سيفتح أمامك أبواب عمل ليست بقليلة وبأجرٍ مجزٍ؟! بل إنك تستطيع أن تستثمر موهبة فنية لديك بتعلم برامج مثل Photoshop, Freehand. وإن كنت خريج كلية تجارية أو أدبية، فمجرد نظرة لإعلانات الوظائف الخالية ستوضِّح لك أهمية دراسة بعض البرامج مثل مجموعة برامج مكتب ميكروسوفت Microsoft Office. وكل تخصص هندسي له برامجه التي تساعده على التقدم في عمله، اسأل المتميزين ممن سبقوك عن المطلوب. وإتقانك البحث عن المعلومات المفيدة على شبكة المعلومات Internet سيفتح لك آفاقًا أوسع في عملك كطبيب وكمهندس وكإداري؛ فالمعلومات المفيدة متوفرة الآن بشكل لم يسبق له مثيل.
- لا تتوقف عن الاطلاع على الجديد في تخصصك، واجتهد أن تنتفع بما هو مناسب لمجالك.
- في كثير من الأحوال يحتاج المختصّ إلى إضافة بعض الدراسات بعد الجامعية إلى مؤهِّله. فإن كنت تعمل في المجال الإداري ففكِّر في شهادة مثل MBA، وإن كنت تعمل في مجال المحاسبة فكِّر في شهادة مثل CPA، وإن كنت في مجال الحاسب الآلي، أو تريد العمل به، فاعتبر مجموعة اختيارات من شهادات Microsoft Certified, Oracle, Sisco، وغيرها الكثير. واهتم كطبيب بشهادات التخصّص. وهكذا في كل مجال ستجد ما تجتهد في دراسته فيضيف إليك ميزة، وبسؤال العارفين ستعرف المتاح لمجالك.
تحذير واجب
أتذكر ووالدي يعلمني قيادة السيارة لأول مرة في حياتي، أنه هتف بي: ”حاسب.. إنت داخل في الرصيف الشمال“؛ فما كان مني إلا أن أدرت المقود إلى اليمين بشدة، فاعتليت الرصيف الأيمن!! ونحن جميعًا ميّالون بطبعنا للتطرف، إما يمينًا أو يسارًا.
لذا يجدر بي أن أختم بهذا التحذير: احرص على أن تكون حياتك متزنة. فلا تتطرف إلى سياسة التواكل وروحنة كل شيء؛ فتطوي ذراعيك ولا تفعل شيئًا، والنهاية فقر مدقع. ولا تنحرف إلى الغرق إلى إذنيك في الإعدادات والتجهيزات والدراسات؛ فتصبح هي متكلك، ومن ثم تفقد تدريبات الرب لك. فقط، انفض غبار الكسل، وادخل إلى مخدعك، واطلب من سيدك أن يرشدك أيَّ فرس يريدك أن تُعِد، واتكل على ذراعه في كل خطوة، لتكن طلبتك في كل حين ”اقبل واذهب مع عبدك“ (2مل6: 3)، وافعل الكل لمجد الله (1كو10: 31).
في النهاية؛ دعني أختم بالآية التي بدأت بها، كما ترجمها البعض:
«Do your best, prepare for the worst--and trust GOD to bring victory»
”افعل أحسن ما عندك، واستعد للأسوأ — واتكل على الله ليحرز لك النصر“.