ذكرنا فيما سبق أن للرب يسوع المسيح؛ بالنسبة لكونه إنسانًا في المجد الآن، قد أعطيَ عطايا من الله، «إلهه وأبيه»، مكافأة له على إكمال عمل الصليب. ولكون الكنيسة هي جسد المسيح الرأس، وأفراد المؤمنين هم أعضاء الجسد (أف 15:4، 16)، فإن كل العطايا والمكافآت التي قَبِلَها –تبارك اسمه- من إلهه وأبيه، أعطاها لنا نحن المؤمنين باسمه، وليس بمعنى أنه تخلى عن هذه العطايا والمكافآت لنا، لكن بمعنى أنه أدخلنا نحن فيها للتمتع بها معه.
أما عن هذه العطايا والمكافآت التي أُعطيت له –تبارك اسمه- فقد تأملنا فيما سبق في:
أولاً: الحياة إلى الأبد (مز 4:21، 11:16)
ثانيًا: الاسم الذي فوق كل اسم (في 6:2- 9)
ثالثًا: موعد الروح القدس (أع 32:2، 33)،
والآن نتأمل في:
رابعًا: المُلك على الأرض كلها
(رؤ 26:2؛ 10:5؛ 4:20)
«مَن يغلب ويحفظ أعمالي إلى النهاية فسأعطيه سلطانًا على الأمم، فيرعاهم بقضيب من حديد، كما تكسر آنية من خزف، كما أخذت أنا أيضًا من عند أبي» (رؤ 26:2)
«وهم يترنمون ترنيمة جديدة قائلين: مستحق أنت أن تأخذ السفر وتفتح ختومه، لأنك ذُبحت واشتريتنا لله بدمك من كل قبيلة ولسان وشعب وأمة، وجعلتنا ملوكًا وكهنة، فسنملك على الأرض» (رؤ 9:5، 10)
«ورأيت عروشًا فجلسوا عليها، وأُعطوا حكمًا» (رؤ 4:2)
إن قصد الله هو أن يُخضع جميع ممالك الأرض لسلطان الرب يسوع، لا باعتبار مركزه كالله، بل باعتبار حقه كإنسان (مز 8؛ عب 5:2- 8)، على أن يتسلمها من يد الله، وذلك عن طريق عمل الصليب. فإن هذا العالم قد دمَّره إبليس –رئيس هذا العالم- ولوثته الخطية، ولا بد من الفداء قبل أن يأخذ الرب المُلك الذي له على الجميع. ليس عن طريق السجود للشيطان (مت 9:4؛ لو 5:4)، بل عن طريق الطاعة للآب، الطاعة حتى الموت، موت الصليب. نعم، سيكون له العرش والمُلك من الآب، بعد أن كان له الصليب والعار من الناس.
وفي تجربة المسيح في البرية، أراه الشيطان في لحظة ممالك العالم ومجدها (لو 5:4)، وعرض عليه أن يُملِّكه عليها إذا سجد له، ولكن المسيح لم يشأ أن يقبله منه بتة، فلقد وُعِدَ به من الآب (مز 7:2- 9)، وسيمتلكه في الوقت المعيَّن (رؤ 15:11)، لأنه كابن الإنسان، آدم الأخير، سيرث كل شيء (مز 8؛ عب 5:2- 9)، ولكنه سيمتلكه بالحق، جزاء له من الله على طاعته الكاملة، حتى الموت، موت الصليب (في 5:2- 11)، ولم يخطر على باله، ولو إلى لحظة واحدة، أن يلبس إكليل المجد، بدون أن يلبس أولاً إكليل الشوك.
لقد رآه الناس مرة كأنه واحد منهم، وتطاولوا عليه وأوثقوه وساقوه، ثم صلبوه. ومع أنه ابن الله الأزلي، صاحب كل شيء، بهاء مجد الله، ورسم جوهره، وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته، فقد بدا على الصليب أمام عيون الناس الأشرار وكأنه ضعيف لا يستطيع أن يخلص نفسه. ومع أن موته على الصليب كان طريق ظفره بكل الأعداء، فقد توهمه الناس وهو على الصليب أضعف من أن يخلِّص نفسه، فقالوا متهكمين: «خلَّص آخرين وأما نفسه فما يقدر أن يخلصها! إن كان هو مَلِك إسرائيل فلينزل الآن عن الصليب فنؤمن به!» (مت 42:27). وصَمَتَ «ربي وإلهي»، وكان لسان حاله: «وأما أنا فكأصم لا أسمع. وكأبكم لا يفتح فاه. وأكون مثل إنسان لا يسمع. وليس في فمه حُجَّة» (مز 13:38).
ومات «رئيس الحياة» ودُفن وتوارى عن الأنظار. وبعد ذلك توالت الأجيال، وقال فيه كل جيل كلمته. ولا زالت الأجيال تتحدث عنه وتقول فيه ما تشاء، أما هو ففي لحظة وصل إلى المجد بعد أن قام بتنفيذ مشورات الله على الوجه الأكمل. والدليل على ذلك ما قاله الله له: «اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئًا لقدميك» (مز 1:110). إنه يسكت الآن مستترًا في الله حتى يحين وقت مجيئه ليملك بقوة ومجد كثير (مت 30:24)، ولا بد من ظهوره ومُلكه ليتضح للجميع حقيقة أمره «لأنه يجب (أو لا بد) أن يملك حتى يضع جميع الأعداء تحت قدميه» (1كو 25:15).
نعم، لا بد أن يُستعلن مجده للعالم الذي أهانه، ولا بد أن يملك على العالم الذي رفضه، فيسترد لنفسه اعتباره ومجده. وإن كان بولس، روماني الجنسية، يقول: «ضربونا جهرًا غير مقضي علينا، ونحن رجلان رومانيان، وألقونا في السجن. أفالآن يطرودوننا سرًا؟ كلا!» (أع 37:16)، فكم بالحري ابن الله، شريف الجنس، الذي أهانوه وقتلوه جهرًا، فلا بد أن يمجده الآب جهرًا أيضًا، ولا بد أن تراه كل عين مُمجَّدًا.
والذي عُومل بهذه المعاملة الرديئة، وهو الشريف الجنس، سيأتي علنًا ليُظهر حقيقة شخصه كرب المجد، كابن الله الأزلي صاحب السلطان المطلق في السماوت والأرض. والذي وضع نفسه كابن الإنسان وأطاع حتى الموت، موت الصليب، صرَّح –بعد قيامته- في مسامع تلاميذه، بهذه الحقيقة الغالية: «دُفِعَ إليَّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض» (مت 18:28)، «على أننا الآن لسنا نرى الكل بعد مُخضعًا له» (عب 8:2)، ومن ثَمَّ، «يجب (لا بد) أن يملك حتى يضع جميع الأعداء تحت قدميه» (1كو 25:15). والذي أضاعه آدم، الإنسان الأول، جاء آدم الأخير، الإنسان الثاني الرب من السماء، ليسترده. من أجل ذلك لا بد أيضًا من عالم عتيد، والرب يسوع المسيح، باعتبار حقه كإنسان، لا باعتبار مركزه كالله، سيحكم العالم العتيد (مز 8؛ عب 5:2- 8).
وفي مَثَل العبد والأَمْنَاء (لو 12:19- 27) نقرأ عن سيدنا المعبود أنه «إنسان شريف الجنس (إذ ليس سواه شريف الجنس) ذهب إلى كورة بعيدة (هي بيت الآب) ليأخذ لنفسه مُلكًا (من الآب، إلهه وأبيه، «مالك السماوات والأرض») (تك 19:14). والذي لما وصل إليه ابنه، أجلسه عن يمينه إلى الوقت المعيَّن منه للمُلك (مز 1:110)، وسيقول له متى جاء ذلك الوقت: «اسألني فأعطيك الأمم ميراثًا لك، وأقاصي الأرض مُلكًا لك. تُحطّمهم بقضيب من حديد. مثل إناء خَزَّاف تكسرهم» (مز 8:2، 9). أو كما يقول الرب في المَثَل: «ليأخذ لنفسه مُلكًا ويرجع»، وذلك «عند ظهوره وملكوته» (2تي 1:4) وعندئذ يتم ما قيل في رؤيا 15:11 «قد صارت ممالك العالم لربنا ومسيحه، فسيملك إلى أبد الآبدين».
والشيء العجيب حقًا أن المسيح في نعمته سيجعلنا نملك معه ونشاركه في أمجاد مُلكه السعيد. فنحن إن كنا نشاركه الآن آلام رفضه، فلا بد أن يُشركنا معه عن قريب في أمجاد مُلكه. «إن كنا نصبر فسنملك أيضًا معه» (2تي 12:2؛ رؤ 9:1؛ 5:5)، وسيكون لنا نفس سلطانه على الأمم، بحسب وعده «مَنْ يغلب ويحفظ أعمالي إلى النهاية فسأعطيه سلطانًا على الأمم، فيرعاهم بقضيب من حديد، كما تكسر آنية خزف، كما أخذت أنا أيضًا من عند أبي» (رؤ 26:2، 27).
وهو -تبارك اسمه- إن كان قد تحمّل الآلام وحده، لكنه في مجده وملكه أشركنا معه!! فجميع القديسين الذين يقومون والأحياء الذين يتغيرون ويُخطفون عند مجئ الرب الثاني، هؤلاء جميعًا سيظهرون مع المسيح بالمجد، وسيشتركون معه في ملكه على الأرض، كما يقول الرائي في رؤيا 4:2 «ورأيت عروشًا فجلسوا عليها، وأعطوا حكمًا» وسيكون هو «كاهنًا على كرسيه» (زك 13:6) وسيكون القديسون معه «ملوكًا وكهنة» (رؤ 4:5).
(يتبع)