عدد رقم 5 لسنة 2006
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
مجدل عِدْر وحادثة رأوبين   من سلسلة: مؤمنون في أماكن خاطئه

لم تنته رحلات يعقوب، كلا، ولا انتهت أحزانه. ذلك الرجل الذي اجتاز خليطًا من التدريبات والأحزان أكثر من سائر الآباء، على قدر ما كان إسحاق أقلهم، حيث عاش حياة هادئة في معظمها، ولم يترك أرض كنعان. على أن هذه التدريبات والتقلبات المحزنة تحت معاملات يد الله وحكومته البارة، كانت لبركة نفس يعقوب، الذي صار «إسرائيل» الأمير مع الله، خاصة بعد موت راحيل.

«ثم رحل إسرائيل ونصب خيمته وراء مجدل عِدْر.  وحدث إذ كان إسرائيل ساكنَا في تلك الأرض، أن رأوبين ذهب واضطجع مع بلهة سُرِّية أبيه، وسمع إسرائيل» (تك 35 :21 ،22)

في هذه البقعة، وراء «مجدل عِدْر»، والتي تعني "برج القطيع"، سكن إسرائيل.  ونحن نقرأ عن "برج القطيع" هذه الكلمات في نبوة ميخا: «في ذلك اليوم، يقول الرب، أجمع الظالعة (العرجاء)، وأضم المطرودة، والتي أضررتُ بها، وأجعل الظالعة (العرجاء) بقية، والمقصاة أمة قوية، ويملك الرب عليهم في جبل صهيون من الآن إلى الأبد.  وأنت يا برج القطيع، أكمة بنت صهيون إليك يأتي. ويجيء الحكم الأول ملك بنت أورشليم» (مي 6:4- 8).  وهذه النبوة تتكلم عن قطيع إسرائيل، وفي الأصحاح التالي (مي 5)، نقرأ عن الراعي الذي من خلال آلامه ستتحقق البركة لإسرائيل، غنم مرعاه.  وفي يعقوب، الأعرج والمطرود والمذلول، نرى صورة للبقية التي سيجمعها الرب في المستقبل ويملك عليهم ويجعلهم أمة قوية.  وإن كان القطيع يتكلم عن الضعف والمسكنة، فالبرج يتكلم عن عظمة ومجد الأمة وقوتها. 

ارتحل إسرائيل وسكن وراء مجدل عِدْر، وربما طالت إقامته هناك، وكان هذا المكان بالنسبة لرأوبين بكر يعقوب، وبلهة سُرِّيتَه، بمثابة شرك محزن. فهناك سقطا في خطية الزنا.

كانت حادثة دينة، والعار والكدر الذي ارتبط بها (تك 34)، مثار حزن عظيم ليعقوب.  لكن هنا يصادفه ما هو مثار حزن أعظم، ومرارة، ظلّت تلازمه طوال حياته الباقية، حتى التف حوله أولاده، عند موته، بعد قرابة أربعين سنة، لينبئهم بما يصيبهم في آخر الأيام (تك 49).

ويا له من عار لا يُمحَى لصق برأوبين.  ورغم السنين الكثيرة ظلّت هذه الحادثة نقطة سوداء تلطخ تاريخه.  لقد ألحق إهانة بأبيه وتعدَّى على حقوقه وكرامته، وارتكب خطية الزنا مع امرأة أبيه وهي أم إخوته دان ونفتالي.  وهذه الخطية يُقال عن مثلها: «لا تُسمَّى بين الأمم الذين لا يعرفون الله» (1كو 5)، وما كانت تليق إطلاقًا أن تحدث من ابن يعقوب، بكره وأول قدرته.

لقد قال عنه يعقوب: «فائرًا كالماء لا تتفضَّل، لأنك صعدت على مضجع أبيك.  حينئذ دنسته».  ثم يختلي يعقوب بنفسه في تأمل عميق يُعبّر عن حزن دفين، ويقول: «على فراشي صعد» (تك 4:49).

إن هذه الفعلة الدنيئة قد أسقطت عنه حقوق البكر، وما عادت له أفضلية.  لقد أعطى يعقوب البكورية ليوسف بدلاً من رأوبين، ليس لأن يوسف هو ابن راحيل المحبوبة، ورأوبين ابن ليئة المكروهة (تث 15:21- 17).  لكن بسبب خطية النجاسة التي ارتكبها رأوبين فَقَدَ هذا الامتياز.  وكأنه مثل عيسو، الزاني والمستبيح، الذي لأجل أكلة واحدة باع بكوريته (عب 12).  وهذا ما ذكره الكتاب صراحة عن رأوبين: «لأنه هو البكر، ولأجل تدنيسه فراش أبيه، أُعطيت بكوريته لبني يوسف ابن إسرائيل» (1أي 1:5، 2)، حيث أظهر يوسف الطهارة والعفة في هذا الأمر.
وعندما نتأمل في تاريخ سبط رأوبين لا نجد أية أفضلية أو ميزة تَميَّز بها.  فلم يأت من هذا السبط أي قاضٍ أو ملك أو نبي.  وفي تقسيم الأرض لم يأخذ سوى شريطًا ضيقًا شرق الأردن.  ولا ننسى أن داثان وأبيرام اللذان تزعما حركة التمرّد والعصيان ضد موسى، مع قورح، كانا من سبط رأوبين.

إن اسم رأوبين يعني "هوذا ابن".  وهذا يُعبِّر عن فرحة ليئة يوم ولدته.  وهي في ذلك تشبه حواء يوم ولدت قايين وقالت: «اقتنيتُ رجلاً من عند الرب».  ولكن خاب الظن في كل منهما.  ويجب ألا نتوقع شيئًا حسنًا من الإنسان بحسب الطبيعة.  فرأوبين أظهر النجاسة، وقايين أظهر الشراسة.

لقد كانت خطية رأوبين كريهة في نظر يعقوب، فكم بالحري في نظر الله القدوس، الذي عيناه أطهر من تنظرا الشر، والذي إلى ملائكته ينسب حماقة والسماء ليست بطاهرة أمام عينيه.

ولكن ما أغنى نعمة الله التي تسمو فوق شر الإنسان ونجاسته، وتقدم العلاج في دم ربنا يسوع المسيح الذي يطهِّر من كل خطية.  ويوم كان المسيح بالجسد على الأرض، قدموا له امرأة أُمسكتْ وهي تزني في ذات الفعل.  وبحسب الناموس كان ينبغي أن تُرجَم.  لكن الرب في نعمة سامية، ليست على حساب البر، بل على أساس البر الذي ظهر في الصليب، قال للمرأة: «ولا أنا أدينك.  اذهبي ولا تخطئي أيضًا» (يو 8).

كذلك نقرأ عن راحاب الزانية أنها خلصت بالنعمة والإيمان، ولم تهلك مع العصاة إذ قبلت الجاسوسين بسلام (عب 31:11).

وفي بركة موسى للأسباط نرى سمو النعمة التي اتجهت لرأوبين هذا، فيقول عنه موسى: «ليحيَ رأوبين ولا يمت» (تث 6:33).  مع أنه يستحق الموت.

في يومها «سمع إسرائيل»، فماذا فعل؟ لا شيء.  إننا لا نسمع كلمة واحدة نطق بها.  لقد اختفت انفعالات الطبيعة، وتعلم ضبط النفس وصار أكثر هدوءًا واتزانًا وتحكمًا في مشاعره.  والروح القدس يشير إليه كإسرائيل ثلاث مرات في هذا الجزء، وليس كيعقوب. على أنه لم ينس هذه الحادثة التي حُفرتْ في أعماقه وسبَّبَتْ له حزنًا دفينًا.  فهو وإن غفر ذكر، ولم ينس رغم السنين.

أيها القارئ العزيز .. إن كان يعقوب لم ينس خطية ابنه، فهل يمكن أن الله ينسى خطاياك، إن كنت تعيش في خطاياك وتسلك بحسب شهوات قلبك، وتتناسى الله، ولاتريد أن تبقيه في معرفتك؟ اعلم يقينًا أنه يسجل الخطايا ولا ينسى.  ولا شيء يُمحَى مما كتبه الله.  وسيُدان الأشرار مما هو مكتوب في الأسفار بحسب أعمالهم.  واسمع كلماته التحذيرية للشرير: «أوبخك وأصف خطاياك أمام عينيك. افهموا هذا يا أيها الناسون الله لئلا أفترسكم ولا منقذ» (مز 21:50، 22).

إن رجعت إليه الآن، بالتوبة والإيمان، فإنه يكون صفوحًا عن آثامك، ولا يعود يذكر خطاياك فيما بعد.  يقول: «أنا أنا الماحي ذنوبك لأجل نفسي، وخطاياك لا أذكرها» (إش 25:43).

يُختم هذا الأصحاح بموت إسحاق وهو شيخ وشبعان أيام.  فقد انتهت رحلة يعقوب إلى ممرا، قرية أربع التي هي حبرون (تك 27:35- 29).  وفي هذه البقعة التي عاش فيها إبراهيم وإسحاق، أخلى إسحاق مكان الشهادة ليعقوب.  وهناك سكن يعقوب في أرض غربة أبيه.  ونلاحظ أن موت إسحاق لم يحدث تاريخيًا إلا بعد أن بيع يوسف إلى مصر وجلس ثانيًا على عرشها.  غير أن الروح القدس قصد أن يدون حادثة الدفن هنا لأنه كان سببًا في اجتماع عيسو ويعقوب، اجتماعهما في الحزن على أبيهما، هذا الاجتماع الذي أنهى الخصومة بينهما. 
وهكذا نرى في هذا الأصحاح أربعة أمور محزنة تركت بصماتها في نفس يعقوب هي:     

  1. موت دبورة عند ألون باكوت
  2. موت راحيل في طريق أفراتة
  3. حادثة رأوبين في مجدل عدر
  4. موت إسحاق في حبرون                       

 (انتهى)

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com