عدد رقم 5 لسنة 2006
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
دليلة - 4   من سلسلة: شابات الكتاب المقدس

(قضاة 16)

الفصل الأخير من مأساة شمشون مع دليلة

عرفنا من أحاديثنا السابقة عن دليلة التي أحبها شمشون النذير، أن أقطاب الفلسطينيين وعدوها بتقدمة من الفضة سخيِّة، في مقابل أن تعرف سر قوة شمشون الخفيِّة. وفي البداية لم يبح شمشون بالسر. لكن مع إلحاح دليلة المتواصل، بدأ شمشون يقترب أكثر فأكثر من الإفصاح بالسر.  ففي محاورتها معه ذكر لها أولاً الرقم سبعة، ثم ذكر حبالاً جديدة، تذكِّر بشعره الذي لم يُقص. ثم ذكر الشعر صراحة.  فإذا وضعنا إجاباته السابقة معًا، وحللناها، نجده – كما يحدث عادة - يدور حول الحقيقة، وكاد أن ينطق بها: سبع - لم تمس – خصل الشعر.

لم يكتف البطل التعس أن يدور ويراوغ، بل إنه في النهاية، إذ ضاقت نفسه إلى الموت، فقد كشف لحبيبته الخائنة كل قلبه.  فدعت أقطاب الفلسطينيين لكي يحضروا ومعهم الفضة.  فها أخيرًا آن الأوان لإتمام صفقة الخيانة، وتسليم شمشون إلى ذروة المهانة.  وأتصور شمشون في رحلته المشؤومة الأخيرة لبيت دليلة، وودتُّ لو كان بإمكاني أن أصرخ فيه، وأقول له بأعلى صوتي: ”حذار حذار، فالخطر أمامك! لا تخطو خطوة أخرى في هذا الاتجاه يا شمشون! اهرب لحياتك فأنت على وشك السقوط في بئر سحيقة“!

لكن شمشون استمر في طريقه لا يلوي عن شيء.  ودخل البيت ليزور الخليلة الخائنة، ولم يكن يدري أن الحلاق هناك والأقطاب.  وكل شيء جاهز للإجهاز على الغريم الذي طالما دوَّخ الفلسطينيين!

وكان على دليلة أن تعمل على نوم شمشون، لأنها لن تستطيع أن تعمل معه أي شيء، حتى ينام.  ويقول لنا الوحي المقدس: «أنامته على ركبتيها»، مكان التدليل (إش66: 12)!  ولا نعلم كيف أنامته؟ ربما أرخت الستائر لتشيع في المكان جوًا من الاسترخاء.  ربما هدهدته لترتخي أعصابه.  ربما غنّت له.  على أي حال يعرف العالم جيدًا كيف يجعلنا ننام! وما أشد الخطر علينا إذ ذاك!  قال الحكيم: «قليل نوم، بعد قليل نعاس، وطي اليدين قليلاً للرقود، فيأتي فقرك كساع، وعوزك كغاز» (أم6: 10، 11). 

قلبي على شمشون النائم على ركبتي دليلة!  أين لنا بمَنْ يصرخ في وجهه بكل ما أوتي من قوة: «استيقظ أيها النائم»! إنك مثل النائم في زورق يغرق!  أنت على وشك الوقوع في الشرك، فاستيقظ قبل فوات الأوان!  قبل أن يُقص شعرك.  قبل أن تقع في الأسر مع مَنْ لا يرحمون!  قبل أن يقلعوا عينيك وتمسى في عمى كامل!  قبل أن تنتهي شهادتك قبل الأوان، وتضطر أن تنهي حياتك بيديك!“

على أنه لا طائل من الصراخ الآن في وجه شمشون، لذلك فإني أتحول إلى كل شخص في مثل وضع شمشون النذير، يُنتظر منه الكثير.  أصرخ في وجه كل شاب يقترب من نار الشهوة المدمرة برجليه، وأصرخ به: تنبَّه ماذا أنت فاعل. تحذَّر فإن معظم النار من مستصغر الشرار.  تذكَّر كلمات الحكيم: «أ يأخذ إنسان نارًا في حضنه ولا تحترق ثيابه؟ أوَ يمشي إنسان على الجمر ولا تكتوي قدماه!» (أم 6: 27، 28).

وما أن نام شمشون حتى جاء الحلاق، وكان جاهزًا بالموسى لينقَضَّ على شعر النذير.  وبعد أن قص شعره، سمع شمشون الصرخة الأثيرة: «الفلسطينيون عليك يا شمشون». ويقول الوحي: «فقام وانتفض كما في المرات الأول، ولم يعلم أن الرب قد فارقه!».

ما قاله شمشون لدليلة في ع17 عن مفارقة قوته له، يُعَد كارثة كبرى.  لكن قمة المأساة في الحقيقة، التي لم يعمل لها شمشون حسابًا، ما يسجله الوحي في ع20 أن «الرب قد فارقه».  وهي يقينًا أكثر عبارات سفر القضاة حزنًا، وربما تكون واحدة من أكثر العبارات في كل الكتاب المقدس مدعاة لذرف الدموع!

ثم يقول الوحي: «فأخذه الفلسطينيون وقلعوا عينيه، ونزلوا به إلى غزة»!

ومأساة شمشون هذه تكررت بعد ذلك مع مدينة بأكملها، تركها الرب نتيجة خطاياها. ويحكي لنا إرميا مأساتها فيقول عنها إنها: «تبكي بكاء في الليل ودموعها على خديها .. أصحابها غدروا بها، صاروا لها أعداء».  لقد جاء نبوخذنصر الذي لا يرحم، وسوَّى بها الهوايل.  ومن فرط رحمة الرب أعطى هذا المدينة الآثمة فرصة ثانية، وأتى إليها رب المجد بنفسه، فرفضوه وصلبوه، من ثم جاء تيطس الروماني وفعل بها ما تشيب لهوله الولدان!  الدرس الأسيف المتكرر دائمًا وأبدًا، أن الذين يلعبون بالخطية، لا يفكرون في عواقبها المرة (تث32: 28، 29)!
النذير الأسير! 

قبل أيام ليست بكثيرة، عندما كان شعر شمشون مسترسلاً وطويلاً، ولم يكن أحد ندًا له، حمل مصاريع بوابة غزة وعوارضها، وصعد بها فوق الجبل.  وأما الآن فإننا نراه في ذلة وانكسار يدخل من تلك البوابة عينها، لكنه هذه المرة أسير ذليل!

وإني أتخيّل الصبية الصغار الهازئين يسخرون من هذا الأعمى!  أتخيلهم مثل أطفال الحجارة الذين نسمع عنهم، يركضون وراء هذه المدرعة التي وقعت في الأسر، يهيلون عليه التراب ويرشقونه بالحجارة!  يجرون وراءه يتصايحون قائلين: «اصعد يا أقرع»، بعد أن جزت شعره ”دليلة“، وأخذت منه إكليله!

بعد شمشون بعشرات من السنين قال داود في مرثاته على شاول: «كيف سقط الجبابرة!  لا تخبروا في جت، لا تبشروا في أسواق أشقلون، لئلا تفرح بنات الفلطسينيين، لئلا تشمت بنات الغلف!» (2صم1: 19، 20).  وماذا نقول نحن إزاء ما حدث للبطل شمشون، عندما أخذه الفلسطينيون وقلعوا عينيه، ونزلوا به إلى غزة، وأوثقوه بسلاسل نحاس، وكان يطحن في بيت السجن! وكان هناك في ظلمة مزدوجة، ظلمة العمى وظلمة السجن! وفي وثق مزدوجة «مُوثقًا بالذل والحديد، لأنه عصى كلام الله وأهان مشورة العلي (مز107: 10، 11).

وفي بيت السجن وصل الحال بهذا البطل الذي لم يشاهد التاريخ نظيرًا له، أن يعمل ما تعمله الجارية الأسيرة!
حق له أن يقول، ما قاله النبي الباكي بعده: «أنا هو الرجل الذي رأى مذلة بقضيب سخطه. قادني وسيرني في الظلام ولا نور... أسكنني في ظلمات كموتى القدم. سيَّج عليَّ فلا أستطيع الخروج. ثقَّل سلسلتي» (مرا3: 1-7).  وذاك الذي كان قصد الله من جهته أن يخلص شعبه من الفلسطينين، أمسى أسيرًا، يطحن الحنطة لهم!  وصاحب الصولات والجولات صار تحت رحمتهم!  والذي طالما أرعب الفلسطينيين، ها هم يستدعونه لكي يلعب لهم!  حقًا «عار الشعوب الخطية» (أم14: 34)!

نهاية شمشون

وفي بيت السجن مكث شمشون يكمل باقي أيام عمره الحزينة.  ولا ندري كم كان طولها، لكنها لم تكن أيامًا قليلة، لأن شعره نبت.  وفي ذات يوم أحضروه إلى بيت إلههم داجون ليلعب أمامهم، ولا نقرأ أنه انتفض يومها كما في المرات السابقة، فلقد اقتنع تمامًا أنه ضعيف لا يقوى على شيء، بل في ذلة وانكسار طلب من الغلام الماسك بيده أن يلمس الأعمدة ليستند عليها.  ولكنه في حقيقة أمره ما كان يستند على أعمدة معبد إلههم، بل كان يستند على الرب إلهه.

مغبوط أنت يا شمشون برجوع الشعر لك، بل نقول برجوع الشعور بالضعف إليك.  وبهذا فقد رجعت إليك القوة.
وفي روح انكسار حقيقي صلى شمشون لله صلاته الأخيرة.  والشيء الذي يأسر قلوبنا في إلهنا أنه قريب من المنكسري القلوب، ويخلص المنسحقي الروح. ويا له من درس نتعلمه من نهاية بطل فاشل، أن الله «لم يحتقر ولم يرذل مسكنة المسكين، ولم يحجب وجهه عنه، بل عند صراخه إليه استمع» (مز22: 24).  إن آخر عمل عمله هذا القاضي أنه صلى للرب، والرب استمع إليه. أ فليس هذا تشجيعًا لكل واحد منا!

عزيزي الشاب، عزيزتي الشابة: ربما تكون في حياتك خطايا تخجل إن عرف الآخرون تفاصيلها.  ومع ذلك فإني أقول لك إن الرب ليس بعيدًا عنك.  ولو أتيت إلى الله في مسكنة حقيقية، معترفًا بالخطية، سيسمع لك. 

العجيب أن النُصرة التي أحرزها شمشون في لحظاته الأخيرة كانت أعظم من كل نصراته التي أحرزها طول حياته.  ولهذا أيضًا مدلول عجيب، فإن كنت قد فشلت في إكرام إلهك، هو مستعد أن يستخدمك ثانية.  فتعال إليه. إنه يقبل توبتك!

دروس وعبر

مأساة حقيقية أن هذا الذي دعاه أبواه عندما ولد: «شمشون»، أي الشمسي، مالت شمسه إلى المغيب وهو في أوج عمره.  وقبل غروب شمسه، ما عاد هو بقادر على أن يرى الشمس. فلقد قضى آخر أيامه في بيت السجن المظلم مقوَّر العينين. 

وأما الدرس الخطير الذي نتعلمه من قصة شمشون مع دليلة، أن ليس قوة الفلسطينيين هي التي أسرت شمشون، بل شهوته؛ وأن خطورة الفلسطينيين لا تكمن في غضبهم وحنقهم، بل في مكيدتهم وتملقهم.  وهكذا معنا، فدعنا لا نخشى بطش العدو، ولكن لنحذر مكائده ومكره (2كو11: 3؛ أف6: 11).

درس خطير آخر، هو أن الله لا يُشمخ عليه.  لذلك أخبرني أيها الشاب، كيف تريد أن تقضي العمر الباقي لك في هذه الحياة؟ هل تحب أن تقضيه وأنت تخدم إلهك وشعبه، أم وأنت تطحن لهذا العالم؟

بعده بفترة ليست بطويلة أتى نذير آخر، هو آخر القضاة «صموئيل».  وهو لم يكن رجل القوة الخارقة، بل رجل الصلاة المقتدرة.  وكل الأمة استفادت من خدمته الطويلة. ولذلك فإنه لما مات ندبه جميع إسرائيل.  ولكن مع شمشون لا نقرأ هذا، بل نقرأ أن إخوته وكل بيت أبيه نزلوا وحملوه جثمانًا بلا حياة، ودفنوه في قبر منوح أبيه، دون إشار إلى نوح من الشعب أو ندب عليه!

إن قصة شمشون مع دليلة تصور لنا مأساة شاب لعب بالنار إلى أن احترق!  وقبل أن يظهر في العالم أولئك الذين في يأسهم يفجرون أنفسهم ليموتوا مع أعدائهم، كان لشمشون السبق في هذا النوع من القتل، فقلب المعبد على نفسه وعلى أعدائه!  وسبب ذلك أنه رغم أنه قضى لإسرائيل، فإنه لم يعرف أن يقضي على الشهوة في حياته.  ومع أنه من سبط دان، لكنه لم يدن نفسه ولا حكم عليها، فحُكم عليه!

نعم حُكم عليه.  وهو بكل يقين تأدب من الرب هنا، لكي لا يدان مع العالم هناك.  لقد قُضِي عليه بالموت على الأرض، ولكنه لن يقف أمام الديان المرهب عندما تهرب من وجهه السماء والأرض!

(تـــم)

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com