الخيانة وثمنها
مررنا بتاريخ الحماقات في رحبعام، وكيف بدأه بالخسائر بسبب حماقاته، ورأينا كيف تدخل الرب ليوقف سيل الحماقات. ثم رأينا الرب في نعمته يستخدم سنوات الطاعة القليلة ليشدد رحبعام ومملكتة. فكيف كانت الخاتمة؟! هذا هو موضوعنا.
لما أطاع رحبعام أعطاه الرب حكمة ورخاء، وحصد نتيجة معاشرة الأتقياء ثلاث سنوات راحة ورخاء. لكن الأمر لم يستمر هكذا! وقد نتسائل، لماذا لم يستمر الأمر على هذا المنوال الحسن؟ وكيف انقلب الحال؟ الواقع أن انقلاب الحال لم يكن بدون مقدمات، بل يمكننا أن نلتقط طرفًا للخيط ذكره الوحي بين سطور سرده لقصة الازدهار. فبينما يقصّ لنا ما تم من إعمار وتحصينات ودور الكهنة واللاويين وكل من وجَّه قلبه لطلب الرب؛ نقرأ هذه العبارة المُحزنة: «وَأَقَامَ لِنَفْسِهِ كَهَنَةً لِلْمُرْتَفَعَاتِ وَلِلتُّيُوسِ وَلِلْعُجُولِ الَّتِي عَمِلَ» (2أخ 11: 15). وآهٍ من ثعالب صغار نخفيها وسط الكثير من الأمور الحسنة، وكأنها لن تؤثِّر؛ لكنها تتحول إلى أصل لشرور عظيمة. ثم آه من الدفين في القلب الذي لا تستطيع كل المظاهر أن تمحوه، وعندما تتاح الفرصة له أن يطل برأسه يظهر بأقبح الصور.
تاليًا، يخبرنا الوحي بزيجات رحبعام المتتابعة «اتَّخَذَ ثَمَانِيَ عَشَرَةَ امْرَأَةً وَسِتِّينَ سُرِّيَّةً وَوَلَدَ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ ابْناً وَسِتِّينَ ابْنَةً». ورغبة في الإيجاز لن أتوقف عند اختياره لزوجاته ولا عند تفريقه في معاملته لبنيه، لكن مما لا بد من الإشارة إليه تلميحٌ لا يُغفَل «وَطَلَبَ نِسَاءً كَثِيرَةً». وكأنّ الوحي يسجُّل عليه عصيان وصية محدَّدة للملك أن «لا يكثر له نساء لئلا يزيغ قلبه» (تث17: 17). ولقد أفلحت نساؤه في إزاغة قلبه، وعلى رأسهم معكة بنت أبشالوم، محبوبته الغالية، والتي بقيت إلى نهاية عمرها رائدة للوثنية (2أخ 15: 16).
ومن أين تعلَّم رحبعام ذلك؟! أليس من سليمان أبيه (1مل11: 1-10؛ نح13: 26). لم يفلح في أن يتعلم أي حكمة من أبيه، لكنه التقط هذه العدوى المريعة. لنحذر؛ فأولادنا على استعداد لالتقاط المساوئ أكثر من المحاسن إذا غابت مخافة الرب من حياتنا! فلندقق إذًا في كل حياتنا.
كهنة مرتفعات.. كثرة زيجات .. ألعل هذا ما قاده إلى الأحداث التي تَلَتْ؟!
ولما تثبتت المملكة
«وَلَمَّا تَثَبَّتَتْ مَمْلَكَةُ رَحُبْعَامَ وَتَشَدَّدَتْ...» تخيل لو أُعطيت هذه العبارة كبداية لموضوع تعبير، وتُرك لك أن تكمله؛ ماذا كنت ستكتب؟ لعل معظمنا كان سيكتب الكثير من الإيجابيات، فيكمل مثلاً أنه شكر الرب أو عاش حياة فاضلة. لكن اسمع الحقيقة المُرّة «وَلَمَّا تَثَبَّتَتْ مَمْلَكَةُ رَحُبْعَامَ وَتَشَدَّدَتْ تَرَكَ شَرِيعَةَ الرَّبِّ هُوَ وَكُلُّ إِسْرَائِيلَ مَعَهُ»!! إن تقوى السنوات الثلاث الماضية كانت كسحابة صيف مضت بلا فعلٍ إلى لا عودة، والآن ظهر ما في قلبهم على حقيقته. لم يَعِ درسًا كرَّر الرب تعليمه له، الدرس الذي قال عنه المرنم ”قد فهمتُ الدرس درسًا للزمانِ؛ في ابتعادي عنك جوعي وهواني“. عجيب أن حتى الدروس المهمة تُنسى سريعًا!! ولقد تركوا شريعة الرب فأيّة حكمة لهم (إر8: 9) بل إن ليس لهم فجر (إش8: 20).
ثم اسمع تقرير الكتاب عن شرهم «وَعَمِلَ يَهُوذَا الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ وَأَغَارُوهُ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ مَا عَمِلَ آبَاؤُهُمْ بِخَطَايَاهُمُ الَّتِي أَخْطَأُوا بِهَا» ويستمر في وصف ما فعلوا (اقرأ 1مل14: 22-24)، فنجد أنه ليس فقط كأبيه ترك الرب واتبع الأوثان بكل شرورها، لكنه أزاد؛ وهكذا فالشر دائمًا في تطور رهيب، كانحدار كرة على جبل.
تتكرر بكثرة في سرد قصة حكم ملوك يهوذا وإسرائيل تعبيرات مثل «تركوا شريعة الرب» ومرادفاتها (انظر مثلاً 1مل 18: 18؛ 19: 10،14؛ 2مل 17: 16؛ 21: 22؛ 2أخ 12: 1،5)، أو «تركوا الرب» (انظر 2مل 22: 17؛ 2أخ 15: 2؛ 24: 18،20،24؛ 29: 6؛ 34: 25)؛ وقد سبق وحذّر الرب نفسه من هذا (2مل 9: 4-9؛ 11: 9-13) بعد أن كان داود قد حذّر ابنه من ذلك (1أخ 28: 9)، وكرر الأنبياء التحذير على مر تاريخ الملوك بعد ذلك (2أخ 12: 5؛ 15: 2....)، لكنهم تركوه؛ وما أرهب النتائج! ولنعتبر!
** هو أحد ملوك مصر ذوي الشهرة، وغزواته وفتوحاته مدوَّنة على جدران معبد الكرنك بالأقصر، وتتضمن غزوته هذه على يهوذا مصوِّرة إياه ممسكًا بسلسة تجر خلفها طابورًا من الأسرى، كما وتسجِّل قائمة بأسماء المدن التي أخذها من يهوذا ومنها المدن التي كان قد سبق وحصنها رحبعام.
نتيجة حتمية
«وَفِي السَّنَةِ الْخَامِسَةِ لِلْمَلِكِ رَحُبْعَامَ صَعِدَ شِيشَقُ مَلِكُ مِصْرَ عَلَى أُورُشَلِيمَ - لأَنَّهُمْ خَانُوا الرَّبَّ». خانوا الرب!! هل نعي، ونحن نعمل الشر، أنه خيانة للرب؟! إن هذه هي الحقيقة والتي لا بد أن نضع لها اعتبارًا.
لقد تأنى الرب مدة سنتين على وثنيتهم، علّهم يرجعون، فلم يرجعوا، فكان لا بد وأن تنتهي أناته، فهي وإن اتصفت بالطول فعلاً (رو2: 4) لكن لها نهاية. ولنحذر أن عدم رد الرب الفوري على شرورنا لا يعني أنه يتناساها، بل هو يمنح فرصة للعودة، وإلا. وها هو قد أرسل شيشق** القاسي بشعبٍ لا يُعَدّ. قال أحد الأفاضل ”نير الرب هيّن، لكن القديس الذي يرفض حمله عليه أن يتعلم الدرس بطريقة صعبة: ماذا يعني نير العدو“، وما أصدق ذلك هنا! وقال آخر ”إن الذي يعتبر أن له حرية في أن يخطئ، فلا بد أن يعاني العبودية ثمنًا لخطيته“.
إن سرَّ عمل رحبعام للشرّ مدوَّن بدقة في الوحي «وَعَمِلَ الشَّرَّ لأَنَّهُ لَمْ يُهَيِّئْ قَلْبَهُ لِطَلَبِ الرَّبِّ». لم يكن طلب الرب يعنيه من الداخل. فماذا عن قلوبنا؟! إن قلوبنا الخدّاعة بطبيعتها (إر17: 9) الميّاله للبُعد عن الرب ووصايه؛ تحتاج منا إلى تهيئة وإعداد لطلب الرب. لتكن صلاتنا: «وحِّد قلبي لخوف اسمك» (مز86: 11).
مرة أخرى يظهر شمعيا، واسمع القول المرعب الذي جاء به: «هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ: أَنْتُمْ تَرَكْتُمُونِي وَأَنَا أَيْضاً تَرَكْتُكُمْ لِيَدِ شِيشَقَ»! ويا لها من نتيجة مريرة للشر.
لقد صاهر سليمان فرعون قديمًا مصاهرة سياسية الدوافع، لكن هذا لم يشفع لرحبعام عند ملك مصر؛ فأصدقاء الأمس صاروا أعداء اليوم. هل يمكن أن تأتمن العالم (مصر) بكل ما يقدِّمه؟ إن حَسَّن صوته فلا تأتمنه. ثم ألا ترى الأفضل أن تلتصق بذاك الذي يبقى أمينًا (2تي 2 :13)؟!
لقد أخذ شيشق كل شيء له قيمة في يهوذا، بداية من «الْمُدُنَ الْحَصِينَةَ الَّتِي لِيَهُوذَا» التي كان قد سبق وحصّنها رحبعام؛ فتحصيناتنا واستعداداتنا وإمكانياتنا وحَذَرنا وتخطيطاتنا، هذه كلها لا تفيد شيئًا إذا لم نكن في صف الله وإن غابت تقواه عن قلوبنا.
ولم يترك ثمينًا من ذهب أو فضة إلا وسلبه؛ فما أبشع خسارة من خان الرب!! يُقال إن تابوت شيشق كان من الذهب الخالص، فهل كان ذهب سليمان الذي خسره رحبعام؟! أوَ يمكن أن يشارك شعب الله في صناعة أمجاد العدو؟!
قليل من النجاة
«فَتَذَلَّلَ رُؤَسَاءُ إِسْرَائِيلَ وَالْمَلِكُ وَقَالُوا: بَارٌّ هُوَ الرَّبُّ». إنه الحل الوحيد أن نذلِّل أنفسنا إذا أدّبنا الرب على شرٍّ في حياتنا. فالحقيقة «إنّه ولو أحزن يرحم حسب كثرة مراحمه. لأنه لا يذل من قلبه ولا يحزن بني الإنسان»، فكل غرضه أن يقودنا إلى أن «نفحص طرقنا ونمتحنها ونرجع الى الرب» (مرا 3: 32،33،40).
وما أعظمك يا إلهنا الكريم، يا من تتجاوب مع أضعف بادرة تبدو من أحدٍ! «فَلَمَّا رَأَى الرَّبُّ أَنَّهُمْ تَذَلَّلُوا كَانَ كَلاَمُ الرَّبِّ إِلَى شَمَعْيَا: قَدْ تَذَلَّلُوا فَلاَ أُهْلِكُهُمْ بَلْ أُعْطِيهِمْ قَلِيلاً مِنَ النَّجَاةِ وَلاَ يَنْصَبُّ غَضَبِي عَلَى أُورُشَلِيمَ بِيَدِ شِيشَقَ»، صحيح أنه كان عليهم أن يدفعوا ثمن العصيان، وأن يحصدوا مما زرعوه، غير أنه لم يسمح بإفنائهم الذي كان عدلاً، بل أعطاهم قليلاً من النجاة.
ثم ما أطيب ذاك الذي في وسط كل هذه الظلمة لا يُغفِل أن يرى أنه «كَانَ فِي يَهُوذَا أُمُورٌ حَسَنَةٌ»، ولا أعرف من يفعل ذلك غيره، ولا حتى من الأفاضل! أين رأيت يا رب أمورًا حسنة في وسط كل هذا؟! ألا إنها عيناك، وما أروعهما! تبارك اسمك.
بقيت في حياة رحبعام الخاتمة، نراها إن تأنى الرب المرة القادمة