«قام في اليوم الثالث حسب الكتب» (1كو 4:15)
7- نبوة اليوم الثالث أو الثلاثة الأيام والثلاث الليالي(8)
نبوة اليوم الثالث في سفر يشوع
والحالة الأدبية التي يجب أن يكون عليها شعب الرب في حربهم الروحية
(يش 11:1، 16:2، 22، 2:3)
2- الثلاثة الأيام والرجاء الحي بقيامة يسوع المسيح من الأموات (يش 16:2، 22):
في الأصحاح الثاني من سفر يشوع نقرأ قصة انتصار النعمة الإلهية في مشهد خراب الإنسان حيث خلصت راحاب الأممية الزانية بالإيمان ولم تهلك مع العصاة. ونتبين أمامنا، فيما دون عن راحاب، تلك الصورة الرائعة والمتكاملة التي يرسمها الروح القدس بقلمه المُبدع، فنرى فيها دعوة الله للأمم الخطاة نظيرنا نحن، وغنى نعمة الله المطلقة في اختيارها، لتقتسم بالإيمان مع شعب الله القديم نعمة التمتع بالمواعيد. كل هذا وهي في أحط حالة أدبية نتصورها، إذ ارتبط اسمها بلقب «الزانية». ثم نرى الإيمان الذي أنار قلبها فتمسكت بإله إسرائيل، ولم تهلك مع أهل أريحا العصاة الذين كانوا تحت دينونة القضاء الإلهي (عب 31:11). ونرى أيضاً أعمال راحاب التي أظهرت إيمانها والتي بررتها أمام يشوع وشعب إسرائيل وأمام الرجلين المُرسلين إليها فأخرجتهما من الكوة إلى طريق آخر (يع 25:2).
وهكذا فإن راحاب الزانية تُستحضَر أمامنا كرمز جميل لقوة إنجيل النعمة. فقد كانت تنتمي لجنس واقع تحت الدينونة؛ شعب تحت اللعنة. وكانت تعيش في مدينة مهيأة للهلاك فاض مكيال إثمها. ولكنها سمعت عن الله وآمنت به، اعترفت بيهوه إله السماء والأرض، وقد وجدت ما يدفعها لهذا الإيمان (يش 10:2) وطلبت الرحمة لنفسها ولأجل بيتها، وقد علمت أن الدينونة ستحل بها وبأريحا، وأنها خاطئة تحتاج إلى نعمة الخلاص. آمنت بيهوه أنه إله قدوس وقد تعامل مع مصر بالضربات، ولكنه أيضاً إله رحيم، فطلبت الرحمة وطلبت بيقين الخلاص لها ولأفراد أسرتها ونالته بطريقة فعالة.
ولقد أصبحت راحاب (مع أهل بيتها) أسيرة الرجاء من اليوم الذي فيه «قبلت الجاسوسين بسلام (بترحاب)» وأطلقتهما من طريق آخر. ولقد اعتبرتهما راحاب الواسطة التي سيستخدمها الله لحفظها من القضاء المزمع أن يحل على أريحا وساكنيها. فخلاصها كان يتوقف على سلامة هذين الجاسوسين. ولقد ربطت راحاب نفسها مع شعب الله بالإيمان في الوقت الذي لم يكونوا فيه قد امتلكوا شبراً واحداً من الأرض، حيث كانوا مجرد جنود جائلين غرباء. لكن إيمانها رأى ما بعد هذا، واستطاعت بهذا الإيمان السامي أن تقول للرجلين الجاسوسين: «عَلِمتُ أن الرب قد أعطاكم الأرض» (يش 9:2) ونتيجة لإيمانها العامل بالمحبة طلبت منهما «علامة أمانة» لاستحياء أبيها وأمها وإخوتها وأخواتها وكل مَنْ لها. وفي طاعة الإيمان ربطت الحبل القرمزي في الكوة كعلامة أمانة أعطاها لها هذان الشاهدان الأمينان للرب. إنها لم تؤمن فقط بقلبها بهذه الشهادة، بل اعترفت بها بربط الحبل القرمزي في الكوة التي في حائط منزلها.
وإن حبل القرمز المُدلَّى من الكوة، مثل دم خروف الفصح المرشوش على القائمتين والعتبة العليا، يذكرنا بالضمان والأمان الذي يلقاه الخاطئ تحت حماية دم المسيح؛ «علامة من الحق» أو «علامة صادقة» (يش 12:2) «لأنك إن اعترفت بفمك بالرب يسوع، وآمنت بقلبك أن الله أقامه من الأموات، خلصت» (رو 9:10).
ولاحظ أيها القارئ العزيز جمال وكمال جواب الله. فهي قالت: «فالآن احلفا لي بالرب وأعطياني علامة أمانة .. وتُخَلِّصَا أنفسنا من الموت» (يش 12:2، 13). وقد كان جواب الجاسوسين: «نَفسُنَا عوضكم للموت» (يش 14:2) فإيمانها وجد في الآخرين (كما وجدنا نحن في المسيح) البديل والنائب الذي يضمن عدم وصول الموت أو لحاقه بها.
ولقد أنجز يشوع العهد الذي تعهد به هذان الرجلان. فعندما سقطت أسوار أريحا لم يبق إلا بيت راحاب الملاصق للسور!! إنها تستطيع أن تقول معنا: «ونحن قابلون ملكوتاً لا يتزعزع» (عب 28:12). سيجيء اليوم الذي فيه سيتزعزع كل شيء بواسطة الدينونة التي سيوقعها الرب على العالم والساكنين فيه، ولن يثبت إلا ما هو مؤسس على كفارة المسيح وعمله المبارك على الصليب.
وبالنسبة لراحاب، نجا في ذلك اليوم، يوم سقوط أريحا وهلاك العصاة، أبوها وأمها وإخوتها وأخواتها وكل مَنْ لها، أي كل عشيرتها، نتيجة لعمل إيمانها. بل هناك ما هو أكثر من ذلك، فهي لم تخلص فقط من الدينونة، ثم تُركَت لحياتها وبيئتها الطبيعية، لكنها أُخرجت من مدينة الهلاك وأُحضرت في وسط محلة شعب الرب وسكنت في وسطهم. خلصت من الهلاك في أريحا وأُدخلت إلى دائرة امتيازات النعمة. ولقد غيرت النعمة راحاب من زانية أريحا إلى واحدة من أكثر الأمهات إكراماً في إسرائيل. فقد أصبح لها مكان بارز من الكرامة في سلسلة نسب رب المجد - الرب يسوع المسيح. فقد تزوجها «سلمون بن نحشون» وهو من سبط يهوذا (ولربما كان سلمون ـ كما يقول التاريخ اليهودي ـ هو أحد الجاسوسين الذين قبلتهما راحاب).
ولكن دعونا ـ أيها الأحباء ـ نتساءل عن كيف حُكِمَ بطهارة هذه المرأة الأممية، البرصاء أدبياً، وكيف سُمح لها، لا أن تدخل فقط إلى محلة شعب الله، بل أن تدخل إلى شعب الله وتصبح أماً في إسرائيل، فيأتي منها بوعز، الذي تزوج براعوث الموآبية، ولتصبح جدة لداود الملك، ثم للرب يسوع المسيح الملك الحقيقي (را 21:4؛ مت 5:1).
ودعونا أيضاً ـ أيها الأحباء ـ نتذكر شريعة اليهودي الأبرص يوم طهره حيث كان يُؤتى به إلى الكاهن، ويخرج الكاهن إلى خارج المحلة ويأمر أن يُؤخذ للمتطهر عصفوران حيان طاهران. ويأمر الكاهن أن يُذبح العصفور الواحد في إناء خزفٍ على ماء حيٍّ. أما العصفور الحيّ فيأخذه مع خشب أرز وقرمز وزوفا ويغمسها مع العصفور الحي في دم العصفور المذبوح على الماء الحي، وينضح على المتطهِّر من البرص سبع مرات فيطهره، ثم يطلق العصفور الحي على وجه الصحراء. وبعد ذلك يمكن للمُتَطهِّر أن يدخل المحلة (لا 1:14-8).
ونحن نعلم أن العصفورين معاً يحدثاننا عن عمل الله لأجلنا وعن علاج الله العجيب لخطية الإنسان؛ موت الرب يسوع المسيح في ذبح العصفور الأول، وقيامته في إطلاق العصفور الحي وعليه علامة الدم جهة السماء كأنه يُعلن ذلك في نظر الله الذي رضي وشبع بهذا العمل.
ولقد هيأت النعمة لراحاب الأممية، البرصاء أدبياً، لا عصفورين، بل رجلين رسولين. ولربما كان أحدهما يرمز ـ كما يرمز العصفور المذبوح ـ إلى الرب يسوع المسيح كمن مات لأجلنا. ولربما كان الرسول الآخر يرمز، كما كان يرمز العصفور الحي، إلى الرب يسوع كمن قام لأجلنا. والرجلان الرسولان معاً، كما العصفوران معاً، يمثلان لنا المسيح الواحد في دوري عمله، أعني بهما موته وقيامته.
أولا: يمكننا أن نرى في الرسول الأول، الذي أعدَّ خيوط القرمز لراحاب، رمزاً للرب يسوع المسيح كمن مات وأُسلم من أجل خطايانا.
إن راحاب الزانية، وقد سمعت عن الدينونة القريبة، تنبهت لخطورة حالتها، ولم تستطع أن تهدأ حتى اهتدت إلى طريق النجاة. وكان سر خلاصها هو طاعة الإيمان البسيطة، الحبل القرمزي المربوط في الكوة والذي في حماه سكنت في أمان، لا بمفردها، ولكن مع كل أهل بيتها أيضاً.
إن هذا الحبل من خيوط القرمز يرمز بكل تأكيد إلى دم الرب يسوع المسيح الكريم. فاللون الحقيقي من القرمز لا يوجد إلا بالموت، إذ أنه يؤخذ من عصارة نوع معيّن من الدود، ومن هذا نفهم مناسبة الرمز للمسيح المتألم لأن «المسيح تألم لأجلنا بالجسد» (1بط 1:4، 18:3). وما كنا لنستفيد من المسيح شيئاً لولا أنه مات، ذاك المجيد الفريد الذي قال عن نفسه: «أما أنا فدودة لا إنسان» (مز 6:22).
ثانياً: والرسول الثاني، الذي ربما كان هو نفسه سلمون بن نحشون الذي تزوج راحاب فيما بعد (مت 5:1)، يمكننا أن نرى فيه رمزاً للرب يسوع المسيح الذي أُقيم لأجل تبريرنا.
ولربما أخبرها سلمون بن نحشون، إذا صح أنه كان فعلاً أحد الجاسوسين، لربما أخبرها قبل أن يغادر أريحا أنه أحبها وأنه ماضٍ ليعد لها مكاناً، ولكنه سيأتي مرة أخرى ليأخذها إليه ويتمم أمر زفافه بها، وليدخلها مع شعب الله إلى الأرض البهية التي تفيض لبناً وعسلاً. ولربما أخبرها أن تنسى ماضيها الأثيم كله، كما نسيه هو أيضاً، فإن خيوط القرمز تكفلت بإنهاء هذا الماضي. ولربما أخبرها أيضاً أن تنتظره وأن ترهف السمع حتى متى سمعت صوت الهتاف وصوت البوق علمت أنه في الطريق إليها (يش 12:6-20، قارن من فضلك يو 2:14، 3؛ 1تس 16:4، 17).
ولكن كان يجب أن تمر ثلاثة أيام قبل أن تتأكد راحاب أن سلمون حي وأن السُعاة لم يجدوه وأنه عاد إلى مكان القوة، إلى محلة شعب الله، بعد أن تركها مع أحبائها في موضع الأمان في حماية الحبل القرمزي (قارن يش 16:2، 22 مع لو 5:24-7).
وهكذا بعد مرور ثلاثة أيام، أصبح لراحاب ما هو أكثر من حبل القرمز، فما فائدة حبل القرمز بالنسبة لراحاب ما لم يكن لها شهود أحياء موثوق بهم هناك في محلة شعب الله؛ في المكان الذي فيه ستنصب الدينونة على أريحا؟ إن حبل القرمز تكفّل بإنهاء الماضي، ولكن الشهود الأحياء مسئولون عن المستقبل. ولم يكن رجاؤها في الموت وحده (الذي كان يُرمز إليه بحبل القرمز)، بل في الشهود الأحياء. فالجاسوسان اللذان رجعا في اليوم الثالث، إلى معسكر شعب الله، هما شاهدان حيان، وهما الضمانة على أن الموت (المشار إليه بالحبل القرمزي) فيه كل الضمان لأمن راحاب.
وهكذا الحال معنا أيها الأحباء، فالمسيح هو الشاهد الحي أمام الله عن عمل الفداء الكامل بدمه الذي سفكه لأجلنا فوق الصليب «وليس بدم تيوس وعجول، بل بدم نفسه، دخل مرة إلى الأقداس، فوجد فداء أبدياً» (عب 12:9). ونحن نضع ثقتنا، لا في موت المسيح فقط، بل في المسيح الحي، فالذي مات هو الآن حي؛ لقد قام وصعد إلى السماء وحياته الآن هي ضمان لحياتنا (رو 10:5). وذاك الذي أُسلم من أجل خطايانا ومات نيابة عنا، قد قام من الأموات بمجد الآب، وهو الآن يمثلنا أمام الله، وهذا يعطينا التأكد بأن كل خطايانا نحن المؤمنين به قد غُفرت ولم يعد هناك ما يفصلنا عن الله، بل أن الله يرانا الآن فيه كاملين وبلا لوم في المحبة. وإن حقيقة كونه حياً إلى الأبد تضمن مرورنا بسلام من كل تجارب الطريق وصعابها وتضمن خلاصنا الأكيد من كل تجربة على طول الخط وإلى نهاية الزمن «وأما هذا فمن أجل أن يبقى إلى الأبد، له كهنوت لا يزول. فمن ثم يقدر أن يخلص أيضاً إلى التمام الذين يتقدمون به إلى الله، إذ هو حي في كل حين ليشفع فيهم» (عب 24:7، 25).
وأصبحت راحاب (مع أهل بيتها) أسيرة الرجاء من اليوم الذي فيه قبلت الجاسوسين بسلام، وأطلقتهما من طريق آخر. وماذا كان يا ترى رجاؤها؟ وماذا كان انتظارها اليومي؟ إن أريحا وكل أسباب فخرها، كانت قد انتهت بالنسبة للإيمان الذي كان يرى الموت مكتوباً على كل شيء. كان يشوع في طريقه إلى هناك، ونفس الشخص الذي كان عتيداً أن يوقع أحكام الله على كل ما هو خارج تلك العلاقة؛ خيوط القرمز، كان هو المخلص لجميع مَنْ احتموا بها. وكان سلمون بن نحشون في الطريق إلى راحاب ليرتبط بها ويتزوجها.
وبعد سقوط أريحا نقرأ أن يشوع أرسل الجاسوسين لكي يُخرجا راحاب من هناك (يش 22:6) أما بالنسبة لنا فإن المسيح سيأتي بنفسه ليأخذنا من هذا العالم المحكوم عليه بالدينونة (1تس 16:4، 17) وهذا هو الرجاء المبارك الذي أمام كل أولاد الله، عائلة الله، كل الذين للمسيح في مجيئه.
فلنرنم بانتصار وسرور وهتاف
ولنعش بالانتظار لرجاء الاختطاف
(يتبع)