ما هي الأسباب الإلهية التي أسس من أجلها الزواج والعائلة؟ وما هي أسس الزواج السليمة؟
عندما انظر فيما حولي وأستمع لإخوتي، وحينما أراقب المجتمع من حولي، وإن حدث وراقبت ما يحدث في وسائل الإعلام والفنون العربية والأجنبية؛ أجد أن الشيطان قد نجح إلي أقصى الحدود في تشويه صورة العائلة والزواج، وجعلها تنحرف عن المسار الإلهي لها بزاوية تقارب المائة وثمانون درجة. هذا ما دفعني لكتابة هذا المقال.
الزواج...
لماذا لم يخلق الله الإنسان ذكرًا فقط أو أنثى فقط؟ هل تظن يا قارئي أن ذاك كان من أجل التكاثر وحفظ النوع كما يقولون؟ بكل تأكيد ليس هذا هو السبب. فهناك أشكال أخرى من الخلائق، مثل الأميبا والميكروبات، تتكاثر بأن تنقسم كل خلية منها إلي خليتين أخرتين، ثم تنقسم كل خلية جديدة بدورها لخليتين أخرتين؛ وهكذا يتم التكاثر وحفظ النوع دون تزاوج. وبكل تأكيد كان الله، الكلي القدرة، قادرًا على ابتكار طريقة للتكاثر دون تزاوج. بل وحتى الحيوانات الأليفة والثدييات بالذات، التي تشابهنا لحد بعيد من الجهة البيولوجية، الكثير منها يتكاثر في موسم معيّن للتكاثر عن طريق التزاوج، ثم لا تعود تعتبر أن لها شريكًا في الحياة. فوقتما يأتي وقت التكاثر يتقابل أي ذكر مع أي أنثى لأداء التكاثر، ثم يفترقا بعد ذلك ربما للأبد. لا يتعلق أي منهما بالآخر عاطفيًا، فهي مجرد عملية بيولوجية بحتة لحفظ النوع. ولكن الزواج بترتيبه الإلهي أن «يترك الرجل أباه وأمه، ويلتصق بامرأته؛ ويكون الاثنان جسدًا واحدًا... فالذي جمعه الله لايفرقه الإنسان» (تك2: 24، مت19: 6). فهو أمر جليل وعظيم، وجوانب عظمته عديدة، وأسبابه تتفق مع سموه.
أما سمو هذا الأمر، أي الزواج، فلست أجد دليلاً أقوى على سموه من أن الله نفسه، لما قرَّر أن يختار تشبيهًا لعلاقته بإسرائيل في الماضي كأمه مختاره له، إختار تشبيه الزواج. ثم لما قرر أن يعبِّر عن علاقة المسيح بالكنسية وارتباطهما الأبدي ووحدتهما كرأس وجسد، إختار علاقة الزواج بما فيها من حميمية ووحدة ليصف علاقة المسيح بالكنيسة. ليس هناك أدل على سمو الزواج من هذا الأمر.
لماذا يتزوج الشاب والشابة هذه الأيام؟
وبعيدًا عن ما رأينا من سمو علاقة الزواج، فإن نزلنا للواقع نجد أنه، حتى بين المؤمنين، قد صار الناس يتزوجون من أجل أمورًا عجيبة. فإن سألت شابًا ما أو شابة: لماذا تتزوج؟ وبالتالي لماذا اخترت أن تتزوج بهذا الإنسان؟ قد يذهلك أولاً أنه قد لا يدري لماذا يتزوج؛ فهو يتزوج فقط لئلا يواجه العنوسة، أو لأن عائلته أشارت عليه أن ميعاد الزواج قد أتى، أو لأن هناك فتاة معينة أو شابًا معينًا ”لقطة“ يريد أن يفوز بها لئلا يخطفها، أو يخطفه، آخر. ثم يقدم بعد ذلك أسبابًا عديدة لإختياره شريكًا معينًا للحياة، ومعظم هذه الأسباب أسباب عالمية، ذاتية، مادية، ونفسية.
البعض يرى الزواج كمؤسسة مالية، سوف تجلب له المزيد من الأموال عن طريق شريك حياته، لتمكِّنه من تحقيق أحلامه المعيشية بشكل أفضل. والبعض ينظر له كمهرب من جحيم بيوتهم الذي لا يُطاق وللمعارك اليومية الحادثة بين أبويهما أو بينهما وبين أبويهما. وهناك من يفتكر، وبالأخص الشباب، أنه الباب ”الحلال“ للمتعة الجسدية التي يتمناها وينتظرها ويحلم بها. والبعض يريد التزوج لأجل الوجاهة الاجتماعية والارتباط بعائلة ذات اسم مشرِّف. والبعض، وبالأخص الشابات، يريد أن يتزوج من أجل الإنجاب. وهناك، وبالأخص الشابات، من يتزوج بحثًا عن العواطف الرومانسية. والكل في رأيي يتزوج أيضًا لكي يشعر أنه مرغوبًا فيه، وأنه إنسان محبوب، وأن له قيمة عند شريك حياته.
ومن ناحية أخرى نجد أن معدل الطلاق أو الانفصال في المجتمع، وفي المسيحية نفسها التي لا تؤمن بالطلاق، قد ازداد أخيرًا بشكل مطّرد. ورغم إطلاق اليد النسبي الذي حدث من جهة حرية الشاب والشابة في اختيار شريكه في الحياة، ما زالت معدلات الطلاق في الازدياد. فعندما كانت العائلة تفرض رأيها، كانت هناك مشاكل كثيرة في الزيجات، ولما صار طرفي الزواج لهما دور أكبر في اختيار شريكهما من دون العائلة إلى حد ما، إزدادت المشاكل أكثر. لست أحاول أن أقول إن هناك أفضلية لدور أكبر للعائلة أو أصغر، ولكن من الواضح أن المشكلة ليست في: من هو الذي سيحدد شريك الحياة، ولكن المشكلة ما زالت في نطاق سؤالين أساسيين: لماذا نتزوج؟ ولماذا نتزوج شخصًا بعينه بالذات؟ أو بعبارات أخرى:
- ماهو الهدف من الزواج وتكوين عائلة؟
- ماهي الدوافع الصحيحة للزواج وتكوين عائلة؟
أولاً. ما هو الهدف من الزواج وتكوين عائلة؟
لا يصح أن تستخدم الثلاجة لتسخين الطعام، وسيكون ما أفشل استخدام الدراجة للصعود للقمر. كل اختراع، أو مشروع ما، له هدف محدّد في عقل صانعه أو من خطَّط له. وعبثًا تستخدم الأشياء من أجل أهداف غير أهدافها الموضوعة لها من قبل صانعها.
والرب بنفسه هو مؤسس العائلة، ومؤسس مشروع الزواج. فالزواج ليس مؤسسة اجتماعية نتجت عن حاجات طبيعية للجنس البشري، ولكنه مؤسسة إلهية أسّسها الرب بنفسه في جنة عدن، لتفي بمقاصد إلهية سامية. وما احتياجات البشر للزواج سوى انعكاس لمقاصد الله السامية الجليلة من جهتنا، والتي وضع بسببها فينا دوافع داخلية ورغبات ومحرّكات نفسيه لتعمل في الزواج وتُستَخدَم فيه.
وما هو الهدف الإلهي من الزواج؟
إن نظرنا لحادثة الخلق في أول أصحاحات الكتاب المقدس، نجد أن الله خلق الإنسان «على صورته، على صورة الله خلقه، ذكرًا وأنثى خلقهم» (تك1: 27). ومن هنا نفهم أن الله كان يقصد من الخليقة أن يكون الإنسان على صورة الله وكشبهه، ولكن لما خلقه لكي يكون على هذه الصورة كهذا الشبه الإلهي، كان لا بد أن يخلقه ذكرًا وأنثى. فلكي يتم الهدف الإلهي من خلقة الإنسان، لا بد أن يكون الإنسان ذكرًا وأنثى.
ثم نجد في الأصحاح الثاني من نفس السفر تفاصيل عملية الخلق. فيقول «وجبل الرب الاله آدم ترابًا من الأرض. ونفخ في أنفه نسمة حياة. فصار آدم نفسًا حية» (تك2: 7). وهذه هي عملية الجَبْلِ أو الخلق الوحيدة، فالله لم يخلق حواء كما خلق آدم بل «أوقع الرب الإله سباتًا على آدم فنام. فأخذ واحدة من أضلاعه وملأ مكانها لحمًا. وبنى الرب الإله الضلع التي أخذها من آدم امرأة، وأحضرها إلى آدم» (تك2: 21، 22). وبالتالي فإن حواء لم تكن عملية خلق، لكنها كانت عملية بناء. رغم أن الله قال إنه خلق الإنسان ذكرًا وأنثى، لكنه جبل آدم وعمل حواء. ومن هنا نفهم أن حواء كانت في آدم يوم خُلقَ آدم.
وهكذا نفهم أن وحدة آدم وحواء في الجسد كانت أمرًا مقررًا من الله من يوم أن خلق آدم. ونفهم أيضًا أن العلاقة الحميمية بينهما، نفسًا وروحًا وجسدًا، والمحبة المتبادلة بينهما، والترابط والتفاني وبذل الذات فيما بينهما، هو أمر مقرر منذ أن خلق الله الإنسان.
وفوق كل هذا، نرى في نوم آدم والسبات الذي أوقعه عليه الله وفي أخذ حواء من جنبه، أولى إشارات الكتاب المقدس الرمزية لموت المسيح وجنبه المطعون الذي خرج منه دمًا وماء، وكان هذا الدم وهذا الماء، أو الكفارة وكلمة الله، هما أساس الكنيسة التي هي عروس المسيح. وهكذا نرى أن علاقة الزواج في مقاصد الله الأزلية، وحتى قبل السقوط تشير لمحبة المسيح للكنيسة.
إن الإنسان، بوجه عام، في كل تفاصيل حياته وخلقته وفداء الله له، يقول الرب عنه «لمجدي خلقته وجبلته وصنعته» (إش43: 7). ومن كل ما سبق، نفهم أن علاقة الزواج من المقرّر لها، في مقاصد الله، أن تقدم للكون صورة لله وشبهًا له، تكون ممتلئه من محبته واتضاعه وبذله، والوحدة المتبادلة بين أقانيمه، وتؤدي في النهاية إلى تمجيد اسمه وإعلائه فوق كل شيء. كل من يتزوج بسبب أي هدف آخر غير تمجيد الله عن طريق الزواج، يكون قد خرج بالزواج عن المسار الإلهي المقرّر له في مقاصد الله. ويكون كمن يحاول أن يطهي الطعام في ثلاجة أو يدق مسمار في الباب بواسطة تفاحة.
ثانيًا: ماهي الدوافع الصحيحة للزواج وتكوين عائلة
إنها ليست دوافع صحيحة إذًا، ولكنه دافع واحد صحيح، أي تمجيد الله. لن أتحدث عن طرق إختيار شريك الحياة، لأنه ليس هناك وصفة سحرية وخطوات تنفيذية لاختيار شريك الحياة. إن رجعنا لكلمة الله، نجد أن رجال الله تزوجوا بمختلف الطرق، وكان الزواج ناجحًا متى كان الشخص يتزوج ضمن طريق حياته الذي اتخذه بأن يرضي الله ويمجده. قد يتزوج زواج عائلي ”زواج صالونات“، كما يقولون، كإسحاق ورفقة، أو قد يتزوج على الطريقة الحديثة بأن يعجب بإنسانة محترمة وحكيمة تحب الرب، مثل داود في زواجه من أبيجايل. ولكن في كل الطرق، طالما كانت الأساسات صحيحة، يكون الزواج مشبعًا ومملواءً من الفرح، ويمجد الله ويرضيه.
إن كان قصدك، يا أخي ويا أختي، أن ترضي الرب وتمجده من الزواج؛ فلا بد أن تعرف جيدًا ما أنت مقبل عليه. ما هي الطريقة التي ستمجد بها الله وترضي الرب في زواجك؟ أليس بأن تتمم مقصد الله من الزواج، وتقوم بدورك فيه على أكمل وجه، ولا تطمح لنوال شيئًا لنفسك منه ولا تبغي سوى وجه الرب في زواجك؟ بكل تأكيد نعم وألف نعم. وإن لم تكن تريد أن تتزوج من أجل هذا الدافع السامي العظيم، فلا يهم إن قرأت باقي المقال أم لا؛ ونصحيتي لك، لا تتزوج من فضلك. ما أبأس حياة ليس هدفها تمجيد الله، وما أتعس زواج يحاول فيه الطرفان كل منهما أن يرضي نفسه، ولا يفكر في إرضاء الرب وتمجيده.
إن نظرنا لكلمة الله، نجد الرب يوضَّح لنا دور كل من الرجل والمراة في الزواج. وإن أمعن كل شاب وكل شابة، النظر في هذين الدورين جيدًا؛ سيدرك أن ما يقدم عليه من زواج ليس نزهه جميلة لاثنين يتمتعان بالرومانسية ويطيلان النظر في عيني بعضهما البعض، ويمسكا بأيديهما ويتمشيا سويًا للأبد على شاطئ نهر تحيطه الأشجار والعصافير. وإن كانت العواطف الرقيقة المتبادلة بين الزوجين لها مكانها، ولست أقلِّل منها أو أسيء إليها من قريب أو بعيد، بل وأشجَّع عليها؛ ولكنها ليست الزواج. فلقد تشوّهت صورة الزواج بسبب ما يُقدَّم على شاشات التلفاز وفي القصص الروائية وما يتداوله الشباب والشابات من خبرات ليست سوى إرهاصات لا علاقة لها بالواقع إطلاقًا.
فما يدور في المجتمع ويتداوله الأصدقاء وتحكيه العائلات ويعرض على الشاشات، هو فكر اكتسابي للزواج. كل ما يدور في هذا الفكر هو ”كيف يمكن للزواج أن يكون مكسبًا لمن يتزوج“ أو ”ماذا يمكنني كإنسان أن أجني من وراء الزواج“ و”كيف سَيُشبع شريك حياتي احتياجاتي العديدة وسيضيف نوعًا من الجودة لحياتي“. ما أراه بشده، حتى وسط المؤمنين، وأريد التنبير بشدة عليه هو: إن الزواج الآن، بوجه عام، أصبح محوره احتياجات الإنسان. صار النظرة المنتشرة عن الزواج محورها ”الأنا“. ماذا سأفيد أنا من شريك حياتي وكيف أستمتع به وبزواجي إلى أقصى حد، هذا محور التزاوج الآن بصفة عامة. لا أدري كيف دارت الأمور وتطورت ووصلت لهذا الحد من الأنانية والتمحور الشديد حول الذات من جهة علاقة الزواج.
فلو نظرنا له، نجد أنه يريدها جميلة فاتنة لكي يستمتع بجمالها، ورقيقة لكي لا تخدشه وصبورة في نفس الوقت حتى تتحمله، ومثقفة لها فكر حتى يفتخر بها، ولكن طائعة ليست معتدة بفكرها حتى لا تناقشه ولا تجادله، وتعمل عملاً مجديًا ماديًا لتساعده، وفي ذات الوقت تستطيع أن تهتم بالبيت وبالأولاد وتجيد الطبخ لكي تريحه، وهكذا...
أما هي فتريده وسيمًا وليس به عيوبًا جسمية جسيمة لئلا يقولون أنها أخذته من أجل ماله، وقويًا حتى يحميها من تقلبات الزمان، ولكن رقيقًا حتى لا يسيء لها، ولديه دخلاً ماديًا جيدًا حتى يفي بكل احتياجاتها، وحنونًا ذا قلب حتى ترتاح وتطمئن له، لكنه صلبًا حتى تستند عليه، ووفيًا حتى تطمئن أنه لن يتخلى عنها، ولكنه ماهرًا في دغدغة مشاعرها وفي كلمات الإعجاب من ناحيتها حتى يشبع عواطفها وهكذا...
وهو وهي يريدان شخصًا يفي بكل ما يريداه، دون أن يفكرا فيما سيعطون لهذا الشريك القادم. لا أحد يفكر في ماذا سيعطي لشريك حياته، ولا كيف سيسعده ولا كيف سيبذل حياته من أجله، الكل يفكر في ما سيناله من شريكه وليس في ما سيعطي لشريكه. أصبحت الذات والأنا هما محور الاختيار والزواج، الكل يريد أن يفوز في تجارة الزواج الرابحة، وأضحى الزواج كبورصة الأوراق المالية والكل يريد الورقة الرابحة ولا أحد يفكر في الآخر. الكل يفكر في الأرباح الذي سيجتنيها لنفسه من مشروع الزواج.
والأنكى من ذلك، أنه ليس هناك - تقريبًا - من لا يزال يرى الزواج كمشروع إلهي له مقاصد إلهية، ويطمح من وراءه لصنع مقاصد الرب. أين ذلك المؤمن أو المؤمنة الذي ينظر للزواج كمشروع إلهي وضع الرب أساسته بنفسه لأهداف يحب الرب أن يراها في المؤمنين الذين يتبعونه بحق؟ إن الزواج كما رأينا مشروع إلهي ويجب على كل من يأتي لهذا المشروع أن يضع أمام عينيه أنه مقبل على عمل الرب. إن الزواج هو عمل للرب، وتكوين عائلة هو عمل إلهي جليل، تمامًا مثل الخدمة والكرازة بالإنجيل وتكوين الكنائس الجديدة في بلاد لا تعرف الرب. وبدون هذه الرؤيا يصبح الزواج مشروعًا بلا مالك يموله، وبلا مصمم يضع لها أهدافه النهائية والمرحلية، وبلا مقاول يتممه. يصير مشروعًا شخصيًا ذاتيًا لطرفي الزواج وعائلاتيهما وأولادهما القادمين، ويصير لا ناقة للرب فيه ولا جمل. وما أتعس ذلك؟ ما أتعس الأمور والمشاريع البشرية فقط، فإنها تتشكل حسب رغبات البشر الطبيعية الأنانية الخاطئة وتصير كعكة مزيَّنة من الخارج بأفخر أنواع الزينة وأحلى الفواكة ومن الداخل مملوءة فضلات آدمية من فضلات القلب البشري، ذاك القلب الذي قال عنه الرب أنه «أخدع من كل شيء وهو نجيس» (أر17: 9)
عند النظر للكتاب المقدس نجد أن الزواج يجب أن يكون «مكرمًا» ويؤكِّد أن مضجع الزوجية شيئًا «غير نجس» (عب13: 4). ونحن نعلم أن العالم كله ملوث بالخطية، ودنس لأبعد الحدود؛ وذلك لأنه تأسس على دوافع الإنسان الساقط. ولهذا فإن تأكيد الرب على كرامة الزواج وعدم تدنسه، رغم أن من يمارسون الزواج هم بشر، لهو تأكيد على أن الزواج هو مشروع إلهي شريف ومكرَّم وله غايته ومقاصده الإلهية التي يجب أن تكون هي المحرك الأساسي للزواج ولاختيار شريك الحياة ولإنجاب الأولاد ولتربيتهم وإنشائهم ولكل تفاصيل الحياة الزوجية للزوج والزوجة.
الدافع الصحيح للزواج من جهة الرجل
يقول الرسول في رسالته لمؤمني أفسس من الرجال «أيها الرجال أحبوا نساءكم» (أف5: 25). وبينما يدعي الجميع الآن أنهم يتزوجون عن حب، فإن ما يطغي عليهم هو النظرة الحديثة للحب، النظرة الاستهلاكية، مثلما أحب التفاح لكي أستمتع بأكل التفاح. لقد ساد على الرجال فكر ”تشييء المرأة“؛ أي جعل المرأة شيئًا يُستهلك للذَّتهم الخاصة. ونستطيع بكل وضوح أن نرى أثر ذلك على كل وسائل الإعلام وفي كل الزيجات التي تتحطم على صخرة هذا الحب المزعوم.
لقد أكمل الرسول العبارة موضحًا ما يقصده بكلمة «أحبوا» إذ قال «كما أحب المسيح أيضًا الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها». فيا أخي الكريم، عندما تريد أن تتزوجن توقَّف عن ذلك الوهم الاجتماعي عن الزواج كباب لإشباع رغباتك الجسدية والنفسية. إن أردت أن تتزوج؛ فلتعلم أن الرب سيختار لك أخت في المسيح لكي تحبها إلي حد أن تبذل نفسك من أجلها. فالزواج في عيني الرب هو باب لأن تكون كالمسيح. هدف الرب من الزواج أن تكون إختباريًا مثل المسيح.
وكيف أحب المسيح الكنيسة؟ لقد أحبها حبًا غير مشروط، دون انتظار لشيء ما منها. فإنه «ليس لأحد حب أعظم من هذا: أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه» (يو15: 13). فإن كنت مُقدمًا على اختيار شريكة حياتك، فأنت مدعو ليس لحساب ماذا ستأخذ منها ولكنك مدعو لأن تحسب جيدًا ماذا ستقدِّم لها. ستقدِّم لها حياتك ونفسك تمامًا «كما أحب المسيح الكنيسة». سوف تحبها حبًا دون قيد أو شرط، أي دون انتظار لما ستقدّمه لك. قد تسيء إليك فتحبها، قد تخطئ في حقك فتحبها أكثر، قد لا تشبع رغباتك ولا تملأ إحتياجاتك الطبيعية النفسية والجسدية فتبذل نفسك من أجلها. إن الزواج باب هام للخروج من ”الأنا“، لبذل الذات، لكي تكون أكثر شبهًا بالمسيح.
ثم يكمل الرسول أن المسيح فعل ذلك مع الكنيسة «لكي يقدسها، مطهرًا إياها بغسل الماء بالكلمة» (أف5: 26). فالمسيح لم يكن مخدوعًا في الكنيسة، بل كان يعلم أنها تحتاج للتقديس. كان يعلم أنها ليست كاملة وبها أخطاء، ولكنه قرّر أن يقدِّسها ويطهرها، وكيف فعل ذلك؟ وماذا كان الثمن؟ أنظر إليه - له المجد - في ليلة آلامه، كان التلاميذ يتشاجرون فيما بينهم «من منهم يظن أنه يكون أكبر» (لو22: 24)، وكان الرب مقبل على معاناته في البستان ثم المحاكمات العديدة والإهانة والعذابات الشديدة ثم الصلب المريع. ولكنه إنحنى «ثم صب ماء في مغسل وابتدأ يغسل أرجل التلاميذ ويمسحهما بالمنشفة» (يو13: 5). كانوا نواة الكنيسة الأولية، ونسى الرب متاعبه وآلامه تمامًا، وقام يقدِّسهم ويطهرهم بغسل الماء، حيث قال لبطرس «الذي اغتسل ليس له حاجة له إلا لغسل رجليه، بل هو طاهر كله» (يو13: 10). فعملية الغسيل إذًا كانت مثالاً حيًا لعملية غسيل أخرى يجريها المسيح في قلب المؤمن بواسطة كلمة الله. ولكن ندرك من هذا الغسيل أن الرب، بينما كانت نواة كنيسته في حالة سيئة روحيًا، وبينما كان هو مُقبلاً على مصاعب وآلام ومتاعب مريرة، نسى نفسه واتخذ وضع العبد وانحنى يغسل أرجل التلاميذ لكي ينعشهم. لم ينطوِ على نفسه أو ينغلق داخل أحزانه، لم تهزم ضعفاتهم وأخطائهم محبته العملية لهم، لكنه انحني لكي يقوم بأحقر المهمات التي يمكن أن يقوم بها أقل عبد في المنزل.
أخي، سوف ترجع من عملك منهكًا للمنزل، ولكنك لن تكون راجعًا لقصر ”سي السيد“ ولكنك راجعًا لكي تُنفق وتنفَق من أجل العائلة التي شرَّفك الرب بأن تخدمها. أنت تدخل لبيتك لكي تخلع ثيابك وتأخذ وضع العبد «الذي يخدم» (لو22: 27)، تمامًا كسيدك. لتهتم بالأولاد وبالزوجة، ولتنسى متابعك وأحزانك ومشاكل عملك وإحتياجاتك الشخصية وأصدقائك القدامى وتسليتك الشخصية ونشاطتك التي تلذ لك. عليك أن تعطي دون انتظار أن تأخذ. ألا تعلم كلمات ربنا يسوع المسيح «مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ» (أع20: 35)؟ سوف يكون عليك، إن كنت تحب الرب، أن تأخذ وضع العبد. لا مانع من أن تُذاكر للأولاد، أو أن تجري بعض عمليات النظافة المطلوبة، أو أن تساعد في إعداد بعض الطعام، أو أن تعطي حمَّامًا للأولاد وتضعهم في السرير، أو أن تلعب مع الأولاد وتشغل وقتهم معلِّمًا إياهم أمورًا هامة. فإن كنت تفكِِّر في الزواج، عليك أن تنزع من فكرك تمامًا فكرة كم سيكون الزواج مفيدًا لك، وأن تصب اهتمامك في أنك ستأخذ ”أخت في الرب“ لكي تهتم بها وتنسى ذاتك ورغباتك من أجلها ومن أجل أولادكما.
ويكمل الرسول أن المسيح أحب الكنيسة لأجل الكنيسة «لكي يحضرها لنفسه كنيسة مجيدة، لا دنس فيها ولا غضن أو شيء من مثل ذلك، بل تكون مقدسة وبلا عيب» (أف5: 27). فالمسيح، الذي علينا أن نتخذه مثالاً، أحب عروسه من أجل أن تجني عروسه من حبِِّه لها أشياء كثيرة. لم يكن نُصب عينيه أنه سيأخذ منها، لكنه سيجعلها تسفيد بلا حدود من محبته لها. فعليك إذًا أن تعرف أن تختار زوجة من أجل أن تحبها كنفسك وكجسدك (أف5: 28، 29)؛ أي أنك سوف تستبدل محبتك لنفسك بمحبتك لزوجتك، وسوف تستبدل عنايتك بجسدك بعنايتك بزوجتك. سوف تصير هذه المرأة رقم واحد بالنسبة لك بعد الرب. عليك أن تعمل لخيرها دون النظر لما ستجتنيه من علاقتك معها.
الدافع الصحيح للزواج من جهة المرأة
وأما أنت يا أختي، فيقول لك الرب «أيها النساء إخضعن لرجالكن كما للرب» (أف5: 22). فإن كنتي تريدين الزواج، فلتضعي أمام عينيك أن الزواج هو خروج من تحت سلطان الأب والأم والخضوع لهما، للدخول تحت سلطان الزوج والخضوع له. إن كنت لم يكن لك دور أو ثقل في بيت أبيك، فلا تتزوجي من أجل البحث عن دور. لا تتزوجي من أجل الاستقلال الشخصي والحرية، فالزواج ليس حرية ولكنه خضوع لمنظومة العائلة الإلهية. ليس الزواج مجالاً للهروب من سلطة أبويك وتسلطهما. وليس الخضوع علامة على مكانة ما أقل لك. فنحن نعلم أن الرب يسوع الذي هو معادل لله، قد اتخذ صورة العبد وأطاع حتى الموت موت الصليب (في2: 6-8). فالخضوع إذًا مهمة ليست وضيعة ولا مهينة، لكنها دورًا مماثلاً لدور الرب يسوع المسيح. وكما خضع الرب يسوع لله أبيه، كذلك الكنيسة أو جماعة المؤمنين تسير على نفس الدرب وتخضع للمسيح في كل شيء وتتبع خطواته. وأما أنت فلقد خلقك الله لكي تخضعي لزوج، كخضوع الكنيسة للمسيح في كل شيء، الذي هو بدوره متمثلاً بالمسيح الذي خضع لله في كل شيء.
عليك أن تنظري للزواج النظرة الإلهية الصحيحة. فأنت خلقت «من أجل الرجل» (1كو11: 9)، لكي تكوني «معينًا نظيره» (تك2: 18). فلا تتزوجي لكي تأخذي مكانة أفضل، بل تزوجي لكي تملأي الدور الذي وضعه لك الرب ورتَّبه في الخليقة. أنت مُعينة لزوجك، خلقك الرب من أجل هذا الدور. وإنت كنت مساوية له في القيمة لأنك ”نظير“ له، لكنك دورك هو دور الإعانة. أليس هذا هو دور الروح القدس الذي «يعين ضعفاتنا» (رو8: 26)؟ فالإعانة ليست شيئًا قليلاً، ولكنها دور هام جدًا، إذ هو تمثل بالروح القدس. ستجدين فتى أحلامك له أخطاء وضعفات، ستكتشفي أن الفارس الذي طالما حلمت به ليس له وجود. وأن عليك أن تقفي بجوار رجلك وهو ضعيف ومتردد وخائف، لا من أجل أن تأخذي منه زمام القيادة، ولكن من أجل أن تقويه لكي يملأ مكانه الذي له من قبل الرب كقائد لعائلتكما.
قد يخطئ في حقك، ولا يعطيك قدرك، وقد يحزنك، وقد يخذلك، ولكنك أبدًا لن تخرجي عن طاعته والخضوع له. سوف تناقشيه في محبة واحترام وهيبة (أف5: 33)، ولكنك في النهاية ستخضعين له «كما للرب». وستكونين بذلك تملأين الدور الذي عليك، الذي من قِبَل الرب، في زواجك. هذا هو قمة النجاح الروحي: أن نرضي الرب. أن ينظر من السماء إلينا فنستطيع أن نرسم على وجهه إبتسامة رضا.
كم صُدمت سارة في إبراهيم لما قال عنها إنها أخته (تك12: 13) ولكنها أبدًا لم تسئ له بسبب ذلك. لم تجرحه بكلماتها أو بتصرفاتها. ولكن الأروع في ذلك أنه نجحت في أن لا يسقط إبراهيم من نظرها كرجل. فقد كانت رغم ذلك «تطيع إبراهيم داعية إياه سيدها» (1بط3: 6). هذه القديسة كانت ترى زوجها بعيون الرب التي لا تحتقر شخصًا بسبب ضعفاته. فكانت معه معينًا يقويه رغم أنها قد جُرحت منه جرحًا عميقًا. ربما كانت تريد التمتع بحمايته لها، وأن تشعر بتقديره لها، ولكنها وجدته وهو رجلها يتخلى عن تسميتها زوجته لأنه خاف على حياته. ما أروع قديسة مثل هذه، تستطيع تتخطي أخطاء زوجها، وأن تعينه وتحترمه حتى يتخطى هو نفسه ضعفاته وأخطائه. هذا هو دورك الذي تقبلين عليه. هل تقبلينه؟
لقد كانت سارة جميلة جدًا، حتى أنها في سن متأخرة جدًا من الخامسة والسبعين وحتى آواخر التسعين طلبها ملكان للزواج، فرعون وأبيمالك، إذ ظنا أنها أخت ابراهيم. ولكن رغم ذلك يخبرنا الكتاب أن سر جمالها الحقيقي كان شخصيتها الداخلية «إنسان القلب الخفي في العديمة الفساد، زينة الروح الوديع الهادئ، الذي هو قدام الله كثير الثمن». فلقد «كانت سارة تطيع إبراهيم»، و«هكذا كانت قديمًا النساء القديسات أيضًا المتوكلات على الله، يزين أنفسهم خاضعات لرجالهن» (1بط3: 4-6).
أختي.. عليك أولاً أن تسعي لأن تكوني مُزيَّنة أمام الله بأن تتممي مقصده من كونك زوجة، وذلك بأن تتزيني بالخضوع والطاعة في إنسان قلبك الخفي بزينة الروح الوديع الهادئ. وهذا هو سر جمال سارة حتى قدام الناس. وإن لم يعطكِ الناس، ولا زوجك، قدرك ولم يقدروا خضوعك، أو إن اعتبره زوجك ضعفًا وخنوعًا واستسلامًا، فلا تخافي؛ فالرب وحده هو المسؤول عنك ما دمت تتبعينه من كل قلبك.
قد ينخدع زوجك يومًا أو أيامًا أو أسابيعًا بجمالك الجسدي، ولكن ذلك لن يدوم، ورغمًا عنه وعنك سوف يكون موضوع إعجابه هو جمالك الداخلي. قد تكونين ملكة جمال، ولكن دون جمال داخلي حقيقي؛ ستكونين منفرة له. وربما تكونين على قسط قليل من الجمال، بمقاييس الجمال العالمية، ولكنه سيراك أجمل إنسانة في الكون كله، وسوف لا يجد راحته إلا معك، ذلك إن كنت جميلة داخليًا. لذا وإن كان عليك أن تهتمي بمظهرك الخارجي، ولكن لا تعتمدي أبدًا عليه لكي تصيري جذابة في عيني زوجك، لأنه سيجد دائمًا من هي أحلى منك بنفس هذه المقاييس الخارجية. ولكن ليكن شعارك أن ترضي الرب بالمقاييس الداخلية، وحتمًا سوف يعجب بك زوجك وسوف يكافئك الرب. لم تكن ليئة جميلة المنظر مثل راحيل، لكن في النهاية كانت ليئة، بعد أن ظُلمَت كثيرًا، منصوفة من قِبل الرب الذي أعطاها نسلاً وأطال عمرها، بينما أخذ راحيل سريعًا لأنها لم تكن ترضي الرب.
خاتمة
إن الزواج إذًا هو ترتيب إلهي، والعائلة ليست مؤسسة اجتماعية، ولكن مؤسسة إلهية. والعائلة هي أفضل مكان يتم فيه التشكيل الإلهي لنكون مثل الله. أين يمكننا أن نحب حبًّا غير مشروط إن لم يكن أقرب الناس لنا غير مستوفين لكل شروطنا؟ قصد الرب أن يضعنا في عائلات ويزوجنا بأناس غير مستوفين لجميع الشروط التي نريدها فيمن نحب، ولكنه بذلك أعطانا أعظم فرصة لكي نكون مثله، وأن نحب حبًا غير مشروط، ودون انتظار للأخذ، بل باستعداد دائم للعطاء دون أخذ.
لا تخافي يا أختي، ولا تخاف يا أخي، من أن تفقد الكثير بعطائك غير المحدود دون قيد أو شرط. نحن نقدِّم حسابًا لأعلى سلطة في الوجود، لله أبينا. وهو الذي سوف يكافئنا في النهاية، حتى وإن لم يقدِّر شريك حياتك ما تفعله. انتظر المكافأة من يد الله، وإن مكافأته أعظم بما لا يقاس مما سنفقده بالعطاء وبعدم تقدير من حولنا لنا.
سيأتي يوم المكافآت من ذاك الذي يستطيع أن يكافئ المكافآت الحقيقية. فيا أخي ويا أختي، تذكر دائمًا هذه الوقفة أمام كرسي المسيح. ماذا ستقدم تقريرًا عن زواجك؟ هل مجَّدت الله فيه؟ هل كنت صورة للمسيح؟ هل تمثلت فيه بالله كولده؟ هل نظر الناس لعائلتك فمجدوا لله؟ هل نظر الله لعائلتك وترتيبها وأمورها فارتسمت على وجهه إبتسامة رضا؟ دعونا نتزوج لا من أجل أنفسنا، لكن من أجل أن نتمم مقاصد الله ونرضيه. له كل المجد.