عزيزي القارئ، يدور حديثنا في هذا العدد حول ”الأسرة“. واسمح لي أن أبدأ حديثي لك بتوجيه بعض الأسئلة مثل:
-
ما هو البنك؟
-
ما هو السوبر ماركت؟
-
ما هي المستشفى؟
-
ما هي دار الأيتام؟
-
ما هي الأسرة؟
أعتقد عزيزي أن إجابتك عن الأسئلة الأربعة الأولى ستكون كالآتي:
-
البنك كيان اقتصادي.
-
السوبر ماركت كيان تجاري.
-
المستشفى مؤسسة صحية.
-
دار الأيتام مؤسسة اجتماعية.
حسنًا، لكن بالطبع ما يهمنا في حديثنا هنا هو إجابتك عن السؤال الخامس؛ ألا وهو:
ما هي الأسرة؟
إلى أي نوع من الكيانات تنتمي؟ ومن هو مؤسِّسها أو صاحب فكرة وجودها؟ ومتى تأسست؟
وأخشى أن تكون إجابتك أنها كيان اجتماعي أسَّسه البشر منذ أقدم العصور!! هذا لأني أرى أن هذه الإجابة تنطلق من أساس غير منطقي، كما أنها تؤدي إلى نتائج خطيرة، ودعني أوضح لك هذا.
عندما نقول إن الأسرة كيان اجتماعي فهذا يعني أن المجتمع هو صاحب فكرة إنشاءها، بمعنى أنه هو الذي اقترح واخترع فكرة تزواج رجل بامرأة ليُنجبا أطفالاً، ومن هنا ظهرت الأمومة والأبوة بكل روعتهما وأيضًا مسؤولياتهما، وهكذا تكونت الأسرة!!!
وبالطبع هذا منطق سخيف لأن الأسرة تسبق زمنيا وجود المجتمع، بل هي نواته وصانعته. فإذا كانت هي التي أنشأته؛ فكيف يكون هو الذي أسّسها؟! لا شك أن دور الأيتام ودور المسنين ودور الرعاية الاجتماعية بمختلف أنواعها، هي كلها مؤسسات اجتماعية؛ لأن المجتمع هو صاحب فكرة إنشاءها. لكن الأسرة ليست هكذا.
لكن ما هو أخطر في نظري هو النتائج التي تؤدي إليها هذه الفكرة الخاطئة؛ فعندما نقول، أو حتى نظن، أن الأسرة كيان اجتماعي أسسه البشر منذ أقدم العصور، فعندئذ لن يكون أمامنا سوى علم الاجتماع أوعلم النفس نلجأ إليهما لكي نفهم طبيعة العلاقات الأسرية، وتوزيع الأدوار داخل الأسرة الواحدة، وامتيازات ومسؤوليات كل فرد فيها!. بل والأخطر من هذا هو أننا سوف نعتمد عليهما في فهم وتشخيص وعلاج المشاكل العائلية، سواء كانت بين الزوجين أو بين الآباء والأولاد! ولا شك أن علم النفس وعلم الاجتماع يساعدان على فهم العلاقات الإنسانية بصفة عامة، لكن يبقى أن الأسرة لها كينونتها الخاصة والفريدة التي تحتاج إلى أكثر جدًا جدًا مما يقدمه هذان العلمان مع كل التقدير لهما. إذًا ماذا تكون الأسرة؟
الأسرة ليست اختراع إنساني، ولا هي تطور حضاري للجنس البشري. بل هي أول مؤسسة إلهية أقامها الله على الأرض لأغراض سامية عنده. وبالتالي يستحيل فهم مسؤولياتها، وحل مشاكلها، وتحقيق أغراضها، بدون الرجوع لمؤسسها.
وعندما نقول إنها مؤسسة إلهية، فهذا يحتَّم وجود أغراض روحية يريد الله أن يحقِّقها من خلالها. وطالما أن هناك أغراضًا روحية، فهي حتمًا تسبق وتسمو على الأغراض الجسدية أو النفسية للأسرة. فواحد من الأغراض الجسدية للأسرة، على سبيل المثال، هو الإنجاب، لكن لا يمكنني أن أعتبره الغرض الرئيس الذي من أجله أنشأ الله الأسرة؛ وإلا أصبحت كل أسرة لا تنجب لا لزوم لها، كما أنه لم يكن عسيرًا على الله أن يوجد النسل بطريقة بيولوجية أخرى لا تحتم الزواج وتكوين الأسرة. كذلك واحد من أهم الأغراض النفسية لتكوين الأسرة هو، على سبيل المثال، توفير الحماية والأمان للأطفال الذين يتم إنجابهم، لكن ومع كامل تقديري لهذا الغرض، لا أعتبره الغرض الرئيس لتكوين الأسرة، وإلا ما كان هناك فرقًا بين الأسرة ودور رعاية الأطفال! ومن وجهة نظري أن الأغراض النفسية لتكوين الأسرة لا يمكن أن تتحقق إذا لم يُحترَم ويتحقق الغرض الروحي في الأسرة أولاً. وأعتقد أن الواقع من حولنا في كل من العالمين المتحضر والمتخلف يؤكدان صحة وجهة نظري هذه؛ إذ أن الدراسات النفسية والاجتماعية توضحان إلى أي حد لا توفِّر الأسرة في عالمنا المعاصر الرعاية والحماية اللازمتين لتنشئة أطفال أصحاء نفسيًا، وإلى أي حد لم تَعُد الأسرة تقدّم الإشباع النفسي للزوجين؛ ويشهد على هذا التناقص الخطير في أعداد الزيجات في العالم الغربي واعتبار الزواج موضة قديمة لا تناسب العصر! ففي إنجلترا على سبيل المثال كان عدد الزيجات 231 ألف في عام 2007، بينما كان 500 ألف في عام 1971! ومن جانب آخر الزيادة المرعبة في حالات الطلاق في كل بلدان العالم حتى أنه في بلدنا مصر وحدها توجد حالة طلاق كل ستة دقائق!!!
إذًا الأسرة مؤسسة إلهية لها في المقام الأول أغراض روحية إذا لم تتحقق فشلت الأسرة في تحقيق بقية الأغراض.
إذا اقتنعنا بهذا وتأكدنا أن الأسرة مؤسسة إلهية وليست بشرية، كيان روحي وليس اجتماعي، أغراضها الروحية وليست النفسية أو الجسدية هي الغاية الأسمى من تكوينها، سنجد أنفسنا ملزمين أن نبحث عن هذه الأغراض الروحية، وعن الأسس والمبادئ التي عليها بُنيت، وعن الوسائل والآليات الروحية التي تساعدنا على حماية الأسرة بل وأيضا نجاحها.
وسأكتفي في هذا العدد بتقديم فكرة عن هذه الأغراض الروحية التي من أجلها أسَّس الله الأسرة في مقال مستقل بعنوان ”الأغراض الروحية للأسرة“.
من جانب أخر، لكون الأسرة، في وضعها الصحيح، هي كيان روحي يحقِّق الله من وراءه مقاصد ومكاسب كثيرة، فمن المحتم أن يكون أعداؤها هم نفس أعداء كل ما هو إلهي وروحي، ألا وهم الشيطان والجسد والعالم.
ولذا سنتحدث عن هؤلاء الأعداء بالتفصيل، لنرى خطر كل منهم على الأسرة، وكيفية مواجهته والانتصار عليه.
والآن أترككم مع مقالات هذا العدد، راجيًا لأُسرنا كل بركة ونجاح على كل الأصعدة.